الثلاثاء، 10 أغسطس 2010

مراقبة الرقيب!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")







" لكي تتعلم قول الحقيقة، عليك أن تتعلم سماعها "
صموئيل جونسون أديب وكاتب بريطاني


محمد كركوتــي

بعد المصارف ورؤسائها، والأسواق المالية وسماسرتها، والمؤسسات الاستثمارية و"فطاحلها". وبعد الحكومات وسياسييها، والأحزاب وقادتها. وبعد الشركات الاستشارية و" عباقرتها".. جاء دور وكالات التصنيف (التقييم)، برؤسائها وباحثيها ودراساتها وبياناتها وجداولها، وبـ "إلهامها" التنبؤي، ومساهماتها "الإرشادية" غير التنويرية. فعلى مدى عقدين من الزمن، لم يقف شيء في وجه هذه الوكالات. ولأن الأمر كذلك، لم تُدخل على نفسها إصلاحات، حتى ولو كانت متواضعة. فقد كانت تعتبر نفسها فوق كل الإصلاحات والشبهات. كيف لا؟ وهي التي وهبت لنفسها الحق في توجيه الآخرين ـ "إصلاح" أنفسهم، ولاقت قبولاً منقطع النظير لدورها هذا، ولآلياتها التصنيفية، وبالتالي لكل ما يصدر عنها، بصرف النظر عن قيمته.

قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، تحولت وكالات التصنيف إلى ما يشبه الطغاة، الذين لا يحبون سماع سوى كلمتين فقط من الرعية، هما " السمع والطاعة". ولا بأس من مكافآت هائلة يتلقونها من السامعين والطائعين!. هذه "المكافآت" كانت بمثابة رشاوى، تقدمها مؤسسات تسعى إلى تصنيف عالي المستوى، حتى وإن كانت هي نفسها دون المستوى!. بينما كانت الحكومات تستجدي هذه الوكالات، خوفاً من تصنيف، لا يضر السياسيين فحسب، بل يؤذي الاقتصادات الوطنية، ويثير الشكوك حولها. وفي فترة زمنية طويلة، كانت التصنيفات الخاصة بالشركات والمستثمرين الكبار ( من بينهم المستثمر الوهمي المحتال برنارد مادوف) تصدر على حسب الأجور التي تتقاضاه وكالات التصنيف، بما في ذلك تلك التي تحتل مكانة مرموقة في الحراك الاقتصادي العالمي. ولذلك فقد أشادت وثمنت شركات ومصارف قبل أيام من انهيارها، ورفعت مؤسسات إلى أعلى المستويات، بينما كانت تصارع الموت، وتستجدي مالاً حكومياً لإنقاذها أو لتعويمها، ولإبقاء ما أمكن من دماء في عروقها. وبينما كان رؤساء المصارف يلملمون أوراقهم ومكافآتهم الهائلة، تحت جنح الظلام للهرب من الساحة، كانت وكالات التصنيف تمنحها درجة ( إى إى إى )، إلى حد أذهل الرؤساء الهاربون أنفسهم!.

لم يتحرك أحد من أصحاب القرار للجم هذه الوكالات. وإذا وجد من يرفع صوته عالياً داعياً إلى إخضاعها هي نفسها للتصنيف والتقييم، كان يواجه اتهامات، بأنه نذير شؤم ومحبط، وفي أحسن الأحوال ليس متفائلاً. ولأنها وصلت إلى مرحلة التقديس، فلم يُسمح لأحد ( أو لجهة) بانتقادها، خصوصاً عندما يكون الحراك الاقتصادي متفاعلاً و "رشيقا وجذاباًً"، بصرف النظر إذا ما كان هائماً على وجه أم لا، أو إذا ما كان متفاعلاً في حراك فوضوي "فقاعي"!. وكما أُسكتت الأصوات التي كانت تنادي بضرورة الإصلاح، وبوقفة لتقييم أدوات الاقتصاد، كذلك أُسكتت الأصوات المنادية، بتقييم المصنِفين. وعندما يكون شعار المرحلة الطويلة "دع الأسواق تعمل، وإنها قادرة على تصحيح نفسها"، لا مكان للمنتقدين، ولا لأولئك المتشائمين. لقد كان شعاراً وفر كل غطاء ممكن، لكل حركة فوضوية تسود السوق.

بعد "قنبلة" الأزمة الاقتصادية، عرف العالم أن وكالات التصنيف، لم تكن سوى بوق لمؤسسات وشركات ومصارف تعمها الشكوك ومعها الفشل. ولم تكن سوى أداة للتخويف من الاقتصادات الوطنية خصوصا في الغرب. وعندما كان ترفع تقييم ومستوى شركة أو مصرف في اليابان -على سبيل المثال- كانت في المقابل تُخفض – من دون وجه حق – مستوى الاقتصاد الياباني، والأمر ينطبق على غالبية الدول الغربية، التي وجدت في هذه الوكالات، عدواً ينبغي الوقوف في وجه، أو على الأقل تحييده. وعندما استفحلت الأزمة، ونالت من كل شيء، صار بيان من سطر واحد فقط يصدر عن وكالات التصنيف، يمثل خطورة وطنية وقومية للبلد المصنَف، لاسيما إذا ما كان هذا البيان متجاوزاً للواقع. وهذا لا يعني أن تقوم الوكالات المعنية بتغطية الحقائق، ولكن عليها أن تقدم الحقائق كما هي. فمسؤولية وكالات التصنيف ليست اقتصادية فقط، بل أخلاقية أيضاً.

هذا التردي لم يجعل من الوكالات عدواً للحكومات فحسب، بل أيضاً للمؤسسات الدولية، التي وجدت في تقييم الوكالات إحباطاً غير مبرر، للحكومات وشعوبها، الأمر الذي دفع رئيس البنك المركزي الأوروبي جان كلود تريشيه إلى القول:" إن العالم يحتاج إلى أكثر من ثلاث وكالات رئيسية للتصنيف الائتماني، لأن تحركاتها تؤجج تقلبات السوق". ومضى المسؤول الدولي أبعد من ذلك عندما قال:" إن وكالات التصنيف تميل بشكل عام، إلى تضخيم الارتفاعات والانخفاضات في الأسواق المالية، ومازال من الممكن رؤية ذلك بوضوح اليوم. هذا يؤثر على الاستقرار المالي". ولعل أبلغ مثال على ذلك، قيام وكالات التصنيف بتهوين قدرة منطقة اليورو، على التعامل مع أزمة الديون الحكومية ( السيادية)، في الوقت الذي يرى فيه أي مراقب متوازن الرؤية، بأنه من الخطأ التقليل من قدرة أوروبا، خصوصا في منطقة اليورو.

هناك وكالات تصنيف عالمية رئيسية، وأخرى بالعشرات ( إن لم تكن بالمئات) موجودة على الساحة. والحل في الحقيقة، ليس بزيادة عدد الوكالات الرئيسية ( أو غير الرئيسية)، بل بتأسيس منهج جديد، يقوم على حوكمة وكالات التصنيف كلها، وهذا لن يتم إلا بإشراف دولي ( عن طريق الأمم المتحدة أو مؤسساتها الدولية مثلاً)، بعيد عن أيادي الحكومات ومكاسب الوكالات. وإذا تعذر الوصول إلى هذه الحالة الرقابية، ماذا يضير من وجود لجان مستقلة على طريقة الـ " ووتش دوج" Watchdog ، سواء أكانت وطنية أو دولية؟. فإذا كانت الوكالة متخصصة في تصنيف قدرات ومقدرات الدول، فلماذا لا تخضع إلى رقابة دولية محايدة؟. لماذا لا يتم البحث عن صيغة ما تحل المعضلة الكامنة، في أن المصنف ( بكسر النون)، يحصل على أتعابه من المصنف ( بفتح النون)؟. هناك الكثير من الخطوات الضرورية التي ينبغي القيام بها، لحل واحدة من أكبر المشاكل. ولا يمكن بأي حال من الأحوال، أن تحقق مشروعات الإصلاح العامة التي تشمل المصارف والأسواق المالية والمؤسسات الكبرى، نتائج عملية دون التعاطي السريع مع هذه القضية، وفق منظور مختلف، يأخذ بعين الاعتبار الأزمة الاقتصادية الراهنة، التي يعرف الجميع أن وكالات التصنيف كان له دور في صناعتها.

قد يحتاج العالم إلى وكالات تصنيف رئيسية جديدة ( وربما بديلة)، لكن تزايد أعدادها، سيجلب معه أزمة جديدة، إذا ما ظلت هذه الوكالات بعيدة عن تشريعات مستحدثة، وأدوات رقابية، لا تسترها، ولا تستر معها في الوقت نفسه الجهات الخاضعة للتصنيف. كما أن الانتشار العشوائي والفوضوي للوكالات المتخصصة في تصنيف المؤسسات ( المصارف على رأسها)، لن يؤدي إلا إلى مزيد من التصنيفات غير المستحقة، التي بدورها ستنشر حالة من التمويه، تشبه تلك التي كانت في خضم مقدمات الأزمة. يضاف إلى ذلك، أن وجود وكالات خاضعة لمعايير الشفافية والجودة وحتى الحوكمة، سيجعل من حجج الحكومات "المتظلمة" واهية، وسيمنح المستثمرين (لاسيما الصغار منهم)، معلومات فائقة الجودة، عن مؤسسات وشركات ومصارف، لا تستحق امتياز الجودة. يجب أن تكون هذه الوكالات مثل الطبيب، الذي لا يخفي شيئاً للمريض عن حالته، ولكنه لن يوفر وسيلة لعلاجه. لقد أصبح ضرورياً الآن، مراقبة الرقيب، الذي أخطأ مرات لا تحصى، وساهم في جلب أزمة لا يزال العالم يحصي خسائرها.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق