الثلاثاء، 6 يوليو 2010

دموع صادقة لا وقت لها؟!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")








"عمالة الأطفال والفقر مصيبتان مترابطتان. إذا واصلت تشغيل الأطفال كعلاج للفقر، ستحصل على مصيبتين متكاملتين معاً في النهاية"
الخبيرة الاجتماعية الأميركية جريس آبوت

 
محمد كركوتــي
 
يعمل أحمد رمضان، البالغ من العمر 13 عاماً، 11 ساعة في اليوم في مخبز يقع في حي خربة خير الله الفقير في القاهرة. ويقول إنه يتعامل مع آلات خطرة، ويتعرض لحرارة الفرن الشديدة للغاية، ويعاني من معاملة سيئة من قبل رب العمل. ويشكو ظروف عمله قائلا: "أستيقظ كل صباح في الساعة السادسة وأسرع إلى المخبز، لأحصل على فرصة العمل هناك في اليوم ذاته. فبالرغم من كون المخبز يتعامل مع أربعة أطفال، إلا أنه لا يقبل سوى أول الواصلين كل يوم". وإذا تمكن أحمد من الوصول أولاً، فإنه يجني 15 جنيهاً (2.6 دولار) في اليوم، تذهب لمساعدة أسرته على دفع الإيجار وفواتير الماء والكهرباء. هذا إن غطت هذه "الأعباء" الأساسية!. إنها قصة نشرتها "شبكة الأنباء الإنسانية" المعروفة اختصاراً بـ ( إيرين)، وهي تابعة لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أو ( أوتشا). إنها حالة واحدة من ملايين الحالات المشابهة في العالم العربي. طفل ( أو طفلة) يعيل أسرته. طفل بالغٌ في العمل، لكنه ليس كذلك في البدن. طفل هو رمز من رموز "منظومة" تشغيل الأطفال، وهو الاسم الألطف لـ "منظومة قتل الأطفال ومعها الطفولة".

قبل عام تقريباً، كتبت في هذا الموضوع المشين تحت عنوان " عفواً.. وظيفتك سيشغلُها طفل!"، وأجدني ملزماً في التعاطي مع هذا الملف المعيب، كلما سنحت الفرصة. ولأن الفرص سانحة دائماً في هذا المجال - من فرط تفاقم المصيبة – فإن القضية تستأهل الوجود الدائم على "سرير" العمليات لا العلاج. فقد تجاوزت مرحلة المعالجة، لتنتقل إلى مرحلة الاستئصال والعمليات الجراحية الحاسمة. لا.. لم يقم العالم بما يجب عليه أن يقوم به، لنسمح له بالقول: " تركنا الباقي على الله". لقد شبعنا ادعاءات لا حصر لها، و بطولات ( لاسيما الغربية منها) بلا سقف، وكانت النتيجة، وصول أفواج من العمال الصغار "الهرمين" إلى سوق العمل. قبل عام كتبت: "هذه القضية – المصيبة وليدة الأمس لا اليوم، والأزمة الاقتصادية العالمية بريئة من إحداثِها، لكنها مُدانة في استفحالها، وفي ارتفاع عدد ضحاياها". حاولت أن أكون أقل عنف في توصيف الحالة من "قتل الأطفال والطفولة" إلى "الأطفال الهَرمون"! أو "الأطفال الكبار قسراً"! أو "الأطفال البالغون بقرار"!. يقول زعيم التبييت المنفي دالاي لاما (لاما تعني بلغة التبييت "محيط الحكمة"): "إن مشاكل هذا العالم بما في ذلك تشغيل الأطفال والفساد، هي أعراض لأوبئة روحية، وافتقار إلى الرحمة". ولعلي أضيف.. أن تشغيل الأطفال، هي عملية تقوم على أخلاق موبوءة – إن وجدت الأخلاق أصلاً. وقالت بعد لاما، طفلة بنجلادشية، هي سلطانا تبلغ الثانية عشر من عمرها، وتعمل في مصنع للملابس: " لماذا ينبغي علينا دفع فاتورة الفقر؟. نحن لم نصنع الفقر، البالغون هم الذين صنعوه".

يتجاوز عدد الأطفال في العالم العربي 130 مليون طفل، أي ما يوازي 60 إلى 65 في المائة من المجموع الكلي للسكان. ويصل عدد الأطفال العاملين فيهم إلى 12 مليون طفل، عشرون في المائة منهم دون سن العاشرة ( يبلغ عدد الأطفال العاملين في العالم قبل الأزمة الاقتصادية العالمية 250 طفل، ومن المرجح أنهم وصلوا الآن إلى 300 مليون) . وطبقاً لوكالات رعاية الطفولة العربية، يعمل الأطفال العرب في معظم مجالات العمل المتاحة. فعلى سبيل المثال، يعملون في زراعة التبغ في جنوب لبنان، وقطف الياسمين في مصر، والزراعة في الريف اليمني والمغربي، وصيد الأسماك في اليمن ومصر وتونس، والخدمة في المنازل في مصر وسوريا والمغرب، وفي الصناعات الخطرة مثل الدباغة في مصر، والسجاد في المغرب وتونس، وفي ورشات إصلاح السيارات أو بيع الحاجيات، والقيام ببعض الخدمات البسيطة كغسل السيارات أو تلميع الأحذية في الشوارع في معظم الدول العربية!. وكما هو حال مخططات التنمية بصورة عامة في العالم العربي، فإن برامج الحد من تشغيل الأطفال، تشبه عمليات الحد من الفساد. لا شيء على الصعيد العملي يتحقق في كلا القضيتين. والمريع، أن هذا التشغيل المشين، أصبح جزءاً أصيلاً من الحياة الاجتماعية، في غالبية الدول العربية، وقد اختُرعت له تسمية مريعة هي " مساعدة الطفل لأسرته"!، لكنها في الواقع هي " إعالة الطفل ( أو الطفلة) لأسرته"، لأننا نعرف أن المساعدة لا تكون في أي حال من الأحوال دائمة، بل هي في غالبية الأحيان مرحلية أو مؤقتة.

إذا كانت هناك قضايا اجتماعية ومعيشية تستدعي حملات وبرامج توعية وطنية ومحلية، فهي لا تنطبق على مسألة تشغيل الأطفال. فالتوعية في مسألة التعليم والاستهلاك والبيئة والتنمية البشرية وغيرها، تمثل ضرورة حتمية، في عملية البناء في بعض المجتمعات الموغلة في البدائية، والإصلاح في المجتمعات التي وصلت إليها "نسائم" حضارية – اجتماعية، غير أن الأمر ليس كذلك فيما يرتبط بالأطفال العاملين. الذي ينفع في هذه الحالة – تحديداً – استحضار ظروف اجتماعية، تحد من فقر الأسرة أولاً، وتدفع بقوة باتجاه تعليم الأطفال. والمعادلة ليست صعبة الفهم، هي ببساطة على الشكل التالي: " عدم التعليم + فقر = سوق عمالة هائلة للأطفال"!. وعندما يبلغ عدد الأطفال العاملين في اليمن – طبقاً لإحصائيات العام 2000 لا 2010 – 9,1 في المائة من إجمالي القوى العاملة، وعندما يبلغ عدد الأطفال المصريين العاملين ( حسب إحصاء 2001) الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و12 عاماً أكثر من 2,7 مليون طفل ( ما يوازي 21 في المائة من مجموع الأطفال ذوي الفئة العمرية نفسها)، وعندما يصل عددهم في سوريا – حسب دراسة للأمم المتحدة عام 2002- إلى ما يزيد عن 18 في المائة، يعني أن هذه المصيبة، في طريق "المأسسة"، هذا إن لم تكن قد "تمأسست" فعلاً. لماذا؟ لأن العدد في تزايد، ولأن الإحصائيات المتداولة، إما قديمة العهد، أو لا تغطي العدد الحقيقي لهؤلاء الصغار "الهرمين".

في منتصف القرن الماضي، قال الأديب والكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل: "إذا أردت أن تعرف شكل الإنسانية في المستقبل، تخيل صورة وجه إنسان، على خده طبعة حذاء". واسمح لنفسي بالتصرف فيما قاله أورويل، فأقول : "إن شكل الإنسانية الآن، هي عبارة عن صورة طفل في الخامسة من عمره، يعمل في مصنع"!. إن هذه المصيبة الإنسانية، لم تنفع معها في السابق إدانات منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الأخرى غير الحكومية، ولم تجدي معها أيضاً توسلات القائمين على الجمعيات الخيرية. وقد أثبتت "الدموع الصادقة"، على عدم أهميتها، في ظل تعاظم المصيبة، مع غياب إرادة محلية – وطنية أولاً، ودولية ثانياً. صحيح أن تشغيل الأطفال في العالم العربي، هو جزء من هَمٍ عالمي، لكنه لا يزال دون مستوى الحراك الذي تقوم به الحكومات العربية. كيف يمكن التأسيس لمستقبل فيه لمحة إشراقة – لا إشراقة كاملة – بينما عناصره تقبع في جوف مستودع، وقرب جحيم فرن، وفي ركن مصنع، وفي عبودية الَدين.

إنها مسألة – كما الفقر – ليست مرتبطة بالاقتصاد فقط، بل متشابكة بالأخلاق. إنها ليست مسؤولية الأسرة التي لا تجد لقمة عيش، بل واجب مجتمع، لا يستحق اسمه، إذا ما سمح لطفل يمسح ويلمع الأحذية على قارعة الطريق!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق