الثلاثاء، 18 مايو 2010

لكي لا تكون أوروبا " ليمان برازرز" آخَر!


( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")









" لدي الثقة الكاملة في مستقبل أوروبا، لأنه لدي الثقة الكاملة في متانة العلاقة الفرنسية - الألمانية "
الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك

محمد كركوتــي
 
     في ليلة ظلماء تُفتقد فيها حتى شمعة أو بصيص ما تبقى من جمرة أكلها الرماد ( لا البدر فقط)، وضع أحد موظفي السكريتاريا في الاتحاد الأوروبي في مكتبه ببروكسل أمامه سِجلْ الهواتف، وأخذ يتصل بوزراء مالية الاتحاد واحداً واحداً، ليستدعيهم إلى اجتماع تاريخي عاجل. لم يتأخر وزير عن هذه الدعوة، لأن أحداً منهم لا يمكنه أن يتحمل تبعات التأخير( فما بالنا بالغياب)، بما في ذلك وزير المالية البريطانية ألستر دارلينج ( بعدها بأيام فقد منصبه بفقدان حزبه الحكم)، الذي لم يكن يعرف إذا ما كان سيحتفظ بمنصبه هذا حين عودة من الاجتماع الأوروبي أم لا؟. فالانتخابات التي انتهت في بلاده قبل ساعات من ذلك الاتصال الهاتفي، نجح فيها الجميع، لكن أحداً منهم لم يتخرج!. استوت عند المفوضية الأوروبية دول منطقة اليورو، والدول خارج تلك المنطقة. الكل أوروبيون بالهموم والمسرات والأزمات الكامنة والعابرة. فالقضية تجاوزت كونها "أزمة يورو ومنطقته"، لتصبح "أزمة أوروبا" بمستقبلها وسمعتها ووضعيتها.. بل وبمصيرها. لا ترغب أوروبا في أن تصبح " تكويناً" لأزمة اقتصادية عالمية جديدة، بينما لا تزال للأزمة ( ما غيرها)، كلمتها في الحراك الاقتصادي العالمي، مع "جرحاها" الذين يئنون، و"قتلاها" الذين يدفنون. ولا تريد أوروبا، أن تكون بمثابة "ليمان برازرز" آخَر، أو " فاني ماي"، أو "فريدي ماك". فهي ليست مصرفاً "كاوبوي" النشأة والسلوك، أو مؤسسة تبيع الوهم، ولا هي الولايات المتحدة الأميركية، التي صدَرت في غضون سبعة عقود مجموعة من الأزمات، لو قسمنا عددها لـ "فاز" كل عقد من الزمن بواحدة (أو كارثة) منها. وهي – أي أوروبا - بالتأكيد ليست سوق "وول ستريت" التي حضَرت الجريمة وارتكبتها، ولم تجف بِركُ الدماء فيها بعد.

     الاجتماع الأوروبي العاجل، كان من أجل موافقة كل دول الاتحاد – لا بعضها- على خطة إنقاذ تاريخية تصل قيمتها إلى 750 مليار يورو ( ما يعادل تقريباً 1000 مليون دولار أميركي)، ليس فقط لمساعدة دول منطقة اليورو على مواجهة غول الديون الحكومية فيها، ومنع إفلاس بعضها، بل أيضاً من أجل احتواء أزمة "مطواعة"، قابلة للانتشار في العالم بأسره. إنها ببساطة حزمة من أجل إنقاذ الإنقاذ!. هي حزمة لنجدة.. النجدة!. لم يحدث في تاريخ الاتحاد الأوروبي تخصيص أموال بهذا الحجم الهائل. إنها أموال الخوف من انطلاق أزمة عالمية، من ضفاف البحر الأبيض المتوسط ( اليونان وأسبانيا.. وحتى إيطاليا)، أو من سواحل الجانب الأوروبي للمحيط الأطلسي (البرتغال). فيكفي العالم والتاريخ انفجار أزمة من الجانب الأميركي لهذا المحيط، لا تزال طلقاتها متواصلة.

     بالأمس.. كانت المصارف والمؤسسات المالية وغيرها من المؤسسات التجارية والصناعية، أما اليوم فقد جاء دور الدول. لا.. ليست دول مثل الصومال أو زيمبابوي أو نيجريا، إنها دول العالم الذي كان أولاً. دول كانت مانحة لا متلقية. دول "تنظير" اقتصادي، كانت تمارس دور "الأخ الأكبر" الذي يعرف مصلحتك، فعليك أن تواصل الصمت أمامه!. ولأن الأمور لم تعد كما كانت (ولن تعود)، بات الإنقاذ يشكل العامل الأول في الحراك الاقتصادي العالمي، وفي مقدمته الأوروبي. وعلى العالم أجمع، أن يعيش حياة تستند على النجاة، لا على النمو، مهما بلغت توقعات المتفائلين من إيجابية. فإذا كانت أوروبا ( بجلالة قدْرها)، لا تقوى على الاستمرار إلا بخطط إنقاذ مولودة من خطط إنقاذ أخرى، فكيف الحال بالنسبة لبقية دول العالم، التي تعيش على الإنقاذ حتى في أزمنة الازدهار؟!. إنها وضعية لم تحدث من قبل، وإن كانت مرشحة للحدوث في المستقبل، إذا ما استمر التباطؤ في بناء نظام اقتصادي جديد، يأخذ في الاعتبار "منتجات" الأزمة العالمية، لا "منتجات" الحرب العالمية الثانية.

     إن خطة الإنقاذ الأوروبية.. لأوروبا، منحت هذه القارة سنداً جديداً، ليس فقط لدول فيها غارقة في الديون على ضفاف البحر والمحيط، بل لمصير الاتحاد الأوروبي ( يضم 27 دولة) نفسه. فالإنجازات التي تحققت في هذا الاتحاد على مدى خمسة عقود تقريباً، يستكبر الأوروبيون تدميرها في غضون أشهر، بسبب أزمة اشتركوا – بلا شك – في ارتكابها، لكنهم ليسوا مُفجريها. إنهم بالتأكيد يحصدون ما زرعوا، وسيواصلون هذا الحصاد، إلى أجل أجد من الصعب العثور على حكيم يستطيع تحديد زمن له. وعلى الرغم من أهمية وضرورة خطة الإنقاذ هذه، إلا أنها ليست "هدية عيد الميلاد"، ولا هبة، ولا منحة لا ترد. إنها مشروطة بقواعد، ولكنها ليست كتلك التي خصصت لليونان. فهذه الأخيرة حصلت على 110 مليار يورو، مع "مليار" (ربما) من الإهانات، لاسيما الألمانية منها!. الخطة الأوروبية الهائلة المشتركة مع صندوق النقد الدولي ( الـ تريليون دولار )، لن تُستخدم في منح القروض إلا عند الضرورة، مع شروط صارمة تلزم دول منطقة اليورو ( تضم 16 دولة) باحترامها.

     ولكي "أوفر" على أصحاب القرار الأوروبي "الجهد" في استكشاف الضرورة، أقول لهم: باشروا في عد النقود التي ستخصصونها – عاجلاً وليس آجلاً – لاسبانيا والبرتغال، ولا بأس في أن تجهزوا المال أيضاً لإيطاليا المرشحة للانضمام إلى "النادي الأوروبي للدول المَدِينة"، في أي وقت من العام 2010. وقبل هذا وذاك، أعدوا العدة إلى مرحلة عدم الاستقرار السياسي في الغالبية العظمى من دول الاتحاد الأوروبي. فعندما تنفذ شروط الدَين، سيزول ما تبقى من شعبية حكومات المنطقة، حيث يعاني قادتها أصلاً من اضمحلال الثقة بأحزابهم التي يحكمون بها. ولينظر الأوروبيون إلى شمالهم فقط، ليتأكدوا من هذه الحقيقة.. لينظروا إلى بريطانيا، التي تحكمها اليوم حكومة ائتلافية بين حزبين لا يلتقيان أصلاً، لأول مرة منذ العام 1974. لماذا؟ لأن الناخب البريطاني فقد الثقة بحكومة العمال، ولم يجد في الوقت نفسه حزباً يستحق الأصوات التي تمكنه من تشكيل حكومة بمفرده!.

     في الدول النامية، كان تدخل صندوق النقد الدولي فيها، يمثل إهانة وطنية عند حكوماتها، وهو ليس كذلك عند مواطنيها. اليوم يلعب هذا الصندوق دوراً أصيلاً في خطة الإنقاذ الأوروبية، لكن المفارقة، أن جزءاً كبيراً من أموال الصندوق تأتي من الدول الأوروبية نفسها!. أي أن المُنقذ، يقوم بإنقاذ نفسه ( تقريباً) بالواسطة!. فلم تستطع أوروبا ( بهالتها) أن تباشر بإنقاذ نفسها بنفسها، وقد أخفقت في إنشاء صندوق أوروبي يقوم بمهمة الدولي. وهذا الأمر يدفع إلى التساؤل، حول مفهوم الكبير، وإن كنا نعلم منذ ما قبل الأزمة مفهوم الصغير!. صحيح أن القوانين الأوروبية تمنع أصلاً البنك المركزي الأوروبي من أن يشتري ديوناً بشكل مباشر من الحكومات، لكن بإمكان هذا البنك الالتفاف على هذا القيد بشراء هذه الديون بشكل غير مباشر من البنوك. فحتى هذا المَخرج لم يمثل للاتحاد الأوروبي فرصة، لمعالجة مشاكله أوروبياً فقط.

     إننا نعيش تاريخاً على وقع اليوم الواحد، بل الساعة الواحدة. تاريخ يُصنع الآن. تاريخ تستوي فيه ( كما قال أبو الطيب المتنبي)، الأنوار والظلم!!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق