الثلاثاء، 27 أبريل 2010

مُنقِذون عاجزون؟!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")





" الديون والأكاذيب عادة ما تختلط مع بعضها البعض"
المؤلف والكاتب الفرنسي فرانسيس رابيلايس



محمد كركوتــي

لا .. ليست مبالغة. وعندما ننفي المبالغة، لا يعني بالضرورة أننا من محبي التشاؤم، أو من مناصري الإحباط، أو من مؤيدي الإرباك، أو من مروجي الهموم، أو من أولئك الذين لا يرون سوى الجانب المظلم من مشهد فيه أيضاً جانب مضيء، يحتوي على شيء يمكن التأسيس عليه (بصرف النظر عن هشاشته). ليست مبالغة التحذيرات الآخذة بالانتشار في كل الأجواء، من أن الديون السيادية national debt ( لا أعرف كيف تكون هناك سيادة مع الديون؟!)، ربما تفجر أزمة اقتصادية عالمية جديدة. التحذيرات الأقل حدة ( أو الأقل رعباً)، تتحدث عن مرحلة جديدة من الأزمة الاقتصادية، بسبب هذه الديون، التي فاقت كل التقديرات، ووصلت إلى مستويات، لم تصل إليها حتى في عز الحروب الكبرى والصغرى!. دول ثرية بسمعتها، لكنها "ثرية" أيضاً بديونها. دول ثرية بديونها، لكنها فقيرة بسمعتها!. كلها تحت الهم ترزح، وضمن المشاكل المتوالدة تعيش. كل واحدة منها، تسعى إلى إخراج ما يمكن إخراجه من قَدمِها، من محيط الأزمة التي لا تزال مسيطرة على الحراك الاقتصادية – وإن بدرجات متفاوتة – مثل سيطرة "الأخ الأكبر" The big brother ( الذي سماه -ولم يبتكره- الأديب البريطاني جورج أورويل)، على المجتمعات بناسها وحياتها ومستقبلها. هذه الدول لا تختلف بديونها، عن ديون الأفراد الذين كُبلوا بها، لتتحول بعد ذلك إلى أزمة لم تحدث من قبل، وإن كانت كل الاحتمالات مفتوحة لتَحدُث في المستقبل، خصوصاً في ظل البطء، بتصحيح المسار الاقتصادي العالمي، لاسيما الجانب المالي منه، الذي عَمَتُه الجريمة بآثامها.

الديون السيادية ( ولنقل الحكومية لأنها أبلغ توصيفاً)، ليست مصيبة قائمة بذاتها فقط، بل كارثة على ماذا؟.. على المحاولات والإجراءات الهادفة إلى الوصول إلى أقرب مستوى للاستقرار المالي العالمي. إنها تتفاعل في وقت يحتاج فيه العالم، إلى وجود حكومات أقل مديونية، وأكثر قوة - سياسياً واقتصادياً وتشريعياً.. وحتى إجرائياً – لإزالة أدران الأزمة الاقتصادية، ووضع نظام مالي، لا يشبه ذاك الذي وفَر مقدمات الأزمة، وعصف بالعالم على مدى سبعة عقود من الزمن، وقضى على ما يمكن تسميته بـ " الوجدان الاقتصادي"، ودحر الأخلاق التي كان يجب أن تشكل صرحاً أصيلاً، في النظام الاقتصادي ككل.

قد تكون بعض المخاوف من الأزمة العالمية زالت، وأخرى في طريقها إلى الزوال، بصرف النظر عن المدة الزمنية ( وهي ليست قصيرة). لكن المخاوف المتعاظمة باتت تسيطر على الموقف من الموازنات العامة العاجزة لدول كبرى، كانت في السابق تملك "أسلحة" بمقدورها تخفيف العجز، أو سده برمته. الذي يحدث الآن، أن الحكومات المُنقذة للمؤسسات المالية، والمطالَبة بمواصلة عمليات الإنقاذ والتحفيز والإسناد، غارقة بالديون. وظهر هذا بوضوح من انخفاض قيم أصول المصارف والمؤسسات المالية في الربع الأول من العام الجاري إلى 2,3 تريليون دولار أميركي، بينما بلغت قيمة هذه الأصول في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي 2,8 تريليون دولار. أي أنها تراجعت بمقدار 100 مليار دولار شهرياً!. إلى ماذا يؤدي هذا؟ يؤدي – حسب صندوق النقد الدولي – إلى إطالة فترة انهيار الائتمان، وسيجعل الأنظمة المصرفية وغيرها من الأنظمة المالية، في مهب الريح مجدداً، وسيُبقي بالطبع على هشاشة مستوى الائتمان.

المخاوف لا تُحدق فقط باقتصاد اليونان المتشبثة بكل المنقذين. ولا تخص أيضاً دولاً مثل أسبانيا أو لاتفيا أو البرتغال. بل باتت جزءاً أساسياً من الحراك الاقتصادي في الولايات المتحدة الأميركية واليابان وبريطانيا. فديون هذه البلدان الأخيرة تبدو خارج مجال التصديق. الولايات المتحدة تخضع لديون تصل إلى 95 % من ناتجها القومي، وتعيش بريطانيا بديون وصلت إلى 57% من ناتجها، أما اليابان فقد وصلت ديونها إلى قرابة 200% من ناتجها!. وللتذكير يرتفع الدَين العام في الولايات المتحدة، بمعدل 3.79 مليار دولار أميركي في اليوم الواحد، منذ سبتمبر/ أيلول من العام 2007 !!. والديون تعصف أيضاً بدول كبرى أخرى مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وغيرها من الدول التي تتسلم حالياً زمام المبادرة والأمور في إصلاح الاقتصاد العالمي، وخصوصا النظام المالي فيه. إنها أزمة ضمن أزمة، علماً بأن الأزمة الاقتصادية، لم تكن السبب الأول لها. فقد كانت هذه الديون تتعاظم – وإن بمستويات أقل – حتى قبل أن تأتي هذه الأزمة، وتجلب معها الخراب للإنسانية كلها.

يقول المؤلف الروماني ببليلوس سيروس: " الديون.. هي عبودية الأحرار". وحكومات الدول الكبرى – قبل الصغرى- تعيش عبودية غير مسبوقة في هذا المجال. فهي تسعى – كغيرها من الحكومات – إلى البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة، بصرف النظر عن مدى استقرارها السياسي، المتأثر سلبا من عدم استقرارها الاقتصادي. إنها حقاً تعيش عبودية، بينما تجد صعوبة في العثور على من يتعاطف معها، وذلك لسبب واحد فقط، هو أن هذه الحكومات، تركت الحبل على الغارب لـ "أفاقي" السوق، ولمروجي الوهم، ولبائعي أوراق لا قيمة لها، ولـ "مُلَهمين" صَدموا هم أنفسهم، من فداحة "إلهامهم"!. الحكومات في منطقة اليورو، تنظر بقلق وتوتر إلى مستقبل " التصحيح" الاقتصادي اليوناني، لاسيما وأنها منخرطة في عملية التصحيح هذه. وزاد القلق أكثر، عندما لم يستبعد جان كلود يونكر رئيس مجموعة اليورو "يوروغروب"، أن تجد بلدان أخرى من منطقة اليورو نفسها في وضع مشابه لوضع اليونان، ومضى أبعد من ذلك حين طالب بضرورة إصلاح المعاهدات الأوروبية لإنشاء آلية خاصة بمنطقة اليورو، لتسوية مثل هذه المشاكل في المستقبل. فهو يرغب بوجود آليات، تجنب أوروبا من الغوص في بحار الديون. وإذا كانت اليونان (بعجزها الاقتصادي) أحدثت هزة عنيفة، ضربت أوروبا وأثرت على بلدان خارج محيط هذه القارة، فإن عجز متطابق العوامل ( والحالة) يضرب الولايات المتحدة أو بريطانيا أو اليابان أو ألمانيا، سيحدث زلزالاً، لن ينجو منه أحد. ولنا أن نعرف – حسب منظمة "التعاون والتنمية الاقتصادية" – أن الدول الثلاثين الأكثر تقدما في العالم، ستشهد ارتفاعاً في ديونها 100%، من إجمالي ناتجها المحلي في العام 2010، وهو ما يمثل ضعفي ديونها تقريبا في غضون عشرين عاما!.

لرسام الكاريكاتير اللبناني – السويسري باتريك تشاباتي، رسمٌ لخص فيه فداحة الديون الحكومية، ليس فقط في الوقت الراهن، بل في المستقبل. فقد رسمَ مجموعة من المسؤولين الغربيين، يقرأ أحدهم بياناًَ جاء فيه :" إننا نشكر أحفادنا، لأنه لولا أموالهم، ما كانت عمليات التحفيز والإنقاذ ممكنة"!. وبالفعل لخص هذا الفنان الكارثة، بهذه الجملة المفيدة جداً. فالديون الحكومية، الناجمة بصورة رئيسية عن عمليات الإنقاذ، التي تطلبتها الأزمة الاقتصادية، التي بدورها جريمة ارتكبها المنقذون أنفسهم، ليست ديون المرحلة، بل ديون المستقبل. فكل طفل يولد الآن، يخرج إلى الدنيا وهو مَدين بأموال لم يقترضها، وبالتأكيد لم ينفقها!.

إنها جريمة متكاملة شاملة. ضمت في "أحضانها" الأطفال وفي محيطها البالغين على حد سواء، وأصابت العالم أجمع بكارثة ليست طبيعية، بل "كارثة مُصنعة"!.



هناك تعليق واحد: