الخميس، 18 فبراير 2010

الأوبئة الاقتصادية الأوروبية!

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")












«لكي تفهم أوروبا، يجب عليك أن تكون عبقريا أو فرنسيا»
وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت

 
محمد كركوتــي
 
في موجة الرعب الأوروبي من انهيار الاقتصاد اليوناني، يستطيع رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون الحصول على مساحة للتنفس، ليست متوافرة عند قادة دول منطقة اليورو (الدول الأوروبية التي تعتمد اليورو عملة رسمية لها). فلا تزال بريطانيا خارج هذه المنطقة، وتحتفظ بـ ''جُنيهها الإسترليني'' إلى أجل لم يشأ براون تحديده. لكن.. ما نطاق ''مساحة التنفس'' هذه؟ إنه ضيق ومحدود، لا يلبث أن يتحطم أمام حقائق الترابط الاقتصادي الأوروبي، سواء داخل منطقة اليورو أو خارجها. فمسؤولية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، قد تتفاوت بين دولة وأخرى (طبقا لحجم هذه الدولة أو تلك)، لكنها لا يمكن أن تغيب عن الساحة، كما أنها ليست اختيارية، هي في الواقع إلزامية لكل من ارتضى أن يكون عضوا في هذه المنظومة الأوروبية الهائلة.

اليونان اليوم، وربما البرتغال غدا، وإسبانيا بعد غد، وحتى بريطانيا ربما ''بعد بعد غد''!. عجز هائل في الموازنات العامة لهذه الدول، تضاف إليه ديون سيادية متعاظمة، تنذر بأزمة اقتصادية عالمية أخرى، بينما لا تزال الأزمة (ليس غيرها) تتسيد الموقف الاقتصادي العالمي، إلى أجل يُحسب بالسنوات، لا بالأشهر. فالتعافي الذي بادر بالظهور مع ''هروب'' عام 2009، يشبه ذلك التعافي الذي يشعر فيه مريض يتكدس السرطان في كل أنحاء جسمه. هو أشبه بوردة تم العثور عليها '' بقدرة قادر'' وسط جبل من القمامة. هو إطار جميل للوحة قبيحة. هو بمثابة كلمة خارجة عن النص! ولأن الأمر كذلك، فليس مهما أن تكون هذه الدولة أو تلك داخل أو خارج منطقة اليورو. المهم أنها ضمن الاتحاد الأوروبي، وأن استحقاقات الأزمة سارية على الجميع، وأن الهَم اليوناني الآتي من جهة البحر الأبيض المتوسط، لا مناص من أن يتحول إلى هَم فنلندي قابع عند تخوم روسيا، وهَم ألماني مترابط حدوديا مع فرنسا، وهَم فرنسي متلاصق مع إيطاليا، إلى آخر ''التوليفة'' السياسية الاقتصادية الحدودية الاتحادية الأوروبية.

لم تنته الأزمة الاقتصادية العالمية، ولن تنتهي في المدى المنظور. وإلا كيف نفسر تعاظم الديون السيادية؟ وارتفاع معدلات البطالة؟ وتواضع معدلات النمو المتوقعة؟ وتزايد العجز في الموازنات العامة؟ كيف نفسر التباطؤ في الوصول إلى نظام اقتصادي عالمي، يضع النظام القائم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في سجلات التاريخ فقط؟. كيف نفسر تحذيرات صندوق النقد والبنك الدوليين، من مغبة سحب خطط الإنقاذ الحكومية على مستوى العالم؟ كيف نفسر الجشع العائد (هذا إن رحل أصلا) إلى نفوس القائمين على المؤسسات المالية الكبرى؟ كيف نفسر ما يستحيل تفسيره؟! تكفي الإشارة إلى أن الديون السيادية التي لا تتوقف عن النمو، بدأت تشكل المشهد الاقتصادي العالمي ما بعد اندلاع الأزمة. فقد وضعت العالم أمام تهديد جديد يتمثل في إمكانية عجز الدول عن تسديد ديونها في المرحلة المقبلة. منها دول تملك القرار الاقتصادي العالمي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا، فضلا عن دول مثل إيرلندا، النمسا، المكسيك، لاتفيا، أوكرانيا، الأرجنتين، والإكوادور وبالطبع إسبانيا والبرتغال وغيرها!.

الاتحاد الأوروبي، يعيش سكرات حقيقية لما بعد انفجار الأزمة. وعلى الرغم من الهزات الاقتصادية التي شهدها العالم مطلع القرن الـ 21، ظلت منطقة اليورو متماسكة وقوية إلى حد ما. لكن مع بدء شبه انهيار الاقتصاد اليوناني (العجز في موازنة اليونان 12.7 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي، أي أكثر من أربعة أضعاف المعدل المسموح به في دول منطقة اليورو. فقد وصل إلى 300 مليار يورو)، أصبحت هذه المنطقة ( المكونة من 16 دولة) في مواجهة أكبر تهديد لوجودها، منذ إنشائها في كانون الثاني (يناير) من عام 1999. لم يجد رئيس الاتحاد الأوروبي هيرمان فان رومبوي أمامه سوى المطالبة بتشكيل حكومة اقتصادية أوروبية، لكي تقوم بتنسيق سياسات مواجهة الأزمة بصورة أفضل. فهو يعتقد بأن القادة الأوروبيين هم الوحيدون القادرون على بلورة استراتيجية مشتركة تهدف إلى خلق مزيد من النمو ومزيد من الوظائف. وفي الواقع، فإن ما يطالب به رومبوي هو تعزيز ''آلية الحكم'' باعتبارها أمرا ملحا ومطلوبا، لا سيما في وقت الأزمات الكبرى. لكن مطالبة ''الرئيس الأوروبي''، لم ترق بعد إلى دول مثل بريطانيا وألمانيا، ولكنها تصب تماما في التوجه الفرنسي. فقد كان الرئيس نيكولا ساركوزي قد تقدم سابقا بمقترحات بهذا المعنى لزملائه الأوروبيين. فهو يسعى من خلال هذه التحركات والاقتراحات والمطالب، إلى تكريس الدور الأوروبي ( إقليميا وعالميا)، من أجل استكمال ''دق المسامير'' في نعش النظام الاقتصادي الأنجلوساكسوني، الذي يعتبره ساركوزي وبعنف مجرد نظام تخريبي عالمي، أو على الأقل مجرد نظام لم يعد صالحا لما بعد الأزمة الاقتصادية.

وسواء تم تشكيل ''الحكومة الاقتصادية الأوروبية'' أم لم يتم، يواجه الاتحاد الأوروبي أكبر التحديات قاطبة، منذ تحوله من ''مجموعة أوروبية'' إلى هيئة اتحادية. وهذه التحديات لا تترك مجالا للجدال. فكلما زاد وقت الجدال تحولت هذه التحديات إلى تهديدات، وتحولت بالتالي إلى مصائب متفاقمة تنال من مستقبل الاتحاد الأوروبي نفسه. في القمة الأوروبية التي عقدت في بروكسل الشهر الجاري، تبين – مرة أخرى - لقادة الدول الـ 27 المنضوية تحت لواء الاتحاد، أن الآتي أعظم، وأن مساعدة اليونان في محنتها المالية التاريخية، هي مجرد ''تدريب'' لما قد يحدث ( في وقت ليس ببعيد) في دول أوروبية أخرى. فالتضامن النظري لم يعد له مكان على الساحة الأوروبية، تماما كما هو حاله على الساحة العالمية. لكن ما حدث في القمة، ظل ضمن نطاق ''التمنيات الأخلاقية'' في أن تتجاوز اليونان محنتها. نحن نعلم أن الاتحاد لن يترك اليونان بمفردها، لكننا نعلم أيضا، أن هذا البلد لن يكون قادرا على تقليص العجز في موازنته العامة إلى 4 في المائة مع نهاية عام 2010!. وهنا يأتي دور الدول الأوروبية الكبرى للتدخل، وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا. إلا أن هناك مشكلة إجرائية (بل دستورية) في هذا المجال. فطبقا للقواعد المعمول بها في الاتحاد الأوروبي، لا يجوز لدول منطقة اليورو أن تقوم بتطبيق خطة إنقاذ جماعية لاقتصاد أي دولة في المنطقة المذكورة. وهذا يعني أن المساعدات التي تحتاج إليها اليونان، لن تأتي إلا بشكل فردي، دون أن ننسى، بأن الديون السيادية هي التي تتقدم المشهد الاقتصادي في كل الدول الأوروبية، تماما مثلما هو الحال في الولايات المتحدة.

تقول الأديبة الأمريكية المعروفة أليسون لوري: ''الذي يذهب إلى أوروبا لرؤية التاريخ المُعاش، عليه أن يذهب إلى جنوب كاليفورنيا لرؤية المستقبل''. لقد أرادت أن تقول: إن الولايات المتحدة تمنح الرؤية الواضحة للمستقبل، مثلما تمنح أوروبا رؤية تاريخ يعيشه الأوروبيون في القرن الـ 21. لكن هل ينطبق هذا التوصيف على أوروبا والولايات المتحدة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية؟. أحسب أنه لا ينطبق على الإطلاق!. فأوروبا.. تواجه أوبئتها الاقتصادية بمعايير الحاضر ''الاتحادية'' – إن جاز التعبير -، وهو أمر لم يكن مطروحا على الساحة الأوروبية قبل القرن الـ 20. والولايات المتحدة.. قدمت مستقبلا اقتصاديا لهذا العالم، مليئا بالأوبئة والأمراض بمعاول نظام بات القضاء عليه أمرا واجبا على الجميع، وعلى رأسهم الأمريكيون أنفسهم. ولأن الأوقات تتغير، والحقائق المُريعة تسود الساحة الدولية ( بنخبها وغيرهم)، فإن المستقبل الذي تحدثت عنه لوري، لن يكون مشرقا إلا بتغيُر المفاهيم والأنظمة والمعايير السائدة، وبالتعاون العالمي المفتوح (لا المحلي أو الإقليمي الضيق). وإذا كان ''الرئيس الأوروبي'' يدعو إلى حكومة اقتصادية أوروبية لمواجهة أبشع الأزمات العالمية قاطبة، فمن الأفضل الدعوة إلى تشكيل ''حكومة اقتصادية عالمية''، يرسم من خلالها العالم مستقبله، ويُبعد بأدواتها المخاطر. إنها خطوة ستجعل من العولمة نفسها حاجة ملحة، لا قضية خلافية.

هناك تعليق واحد:

  1. غير شكل محمد الرائع .. منذ فترة ويعاني الاقتصاد اليوناني صعوبات كبيرة اقلقت الاتحاد بشكل كبير ..
    شكرا على تلك الابضاحات والتنبؤات ..

    ردحذف