الخميس، 18 فبراير 2010

الزبون ليس دائما على حق!

(هذا المقال خاص بجريدة الاقتصادية)

«لا تثق بالراوي.. ثق بالرواية»
الأديب والشاعر الإنجليزي ديفيد هربرت لورنس

محمد كركوتــي
 
رسام الكاريكاتير البريطاني كيبير وليامز رسم بليغ حول الصدمات التي أحدثتها الأزمة الاقتصادية العالمية. فقد رسم موظفا كبيرا في صندوق النقد الدولي، يقول لزميل له: يجب علينا أن نلجأ إلى صندوق النقد الدولي. فما كان من الموظف الثاني إلا أن رد مستغربا مستعجبا: نحن صندوق النقد الدولي! ذكَرني هذا الرسم المعبِر، بوكالات التصنيف والتقييم الكبرى، المتخصصة في تحديد مستويات وملاءات (وحتى نزاهة) المؤسسات والشركات الكبرى، والمؤسسات ذات ''المقاسات'' المختلفة الأخرى. فهذه الوكالات أصبحت جزءا من الأزمة، قبل هذه الأخيرة وخلالها، وربما بعدها، إذا كان هناك من لا يزال يعتقد أنها وكالات ''معصومة'' لا تخطئ، وبأنها تتحلى بالنزاهة والشفافية!

وعلى الرغم من أنها تعرضت إلى ما تستحق من هجوم وانتقادات وتشكيك وارتياب بعد أن ''طفح الكيل''، إلا أن هذه المسألة تستوجب وضعها على الدرجة نفسها من الأهمية، الذي يضع العالم فيها النظام المصرفي الساعي إلى إعادة هيكلته بما يتوافق مع إفرازات ومصائب الأزمة الاقتصادية. فاستحقاقات الأزمة، تجاوزت - منذ اندلاعها - مستويات الإصلاح و''الترقيع''، وبلغت مرحلة إعادة الهيكلة. فكيف يمكن القيام بأعمال الديكور في مبنى منهار؟! وكيف يمكن إجراء عملية تجميل لامرأة فارقت الحياة؟! وكيف يمكن تحسين صورة لا معالم لها؟! الأمر يحتاج إلى إعادة صناعة، وإعادة بناء، وإعادة تكوين، لن تنجح معه أية جهود تهدف لـ ''إعادة التدوير''! وإذا كان بالإمكان إلقاء القبض على شخص ارتكب جريمة قتل، ووقعت عليه العدالة الخالصة، هل يمكن لهذه العدالة أن تُعيد الضحية إلى الحياة؟

في كتابي الذي صدر في منتصف عام 2009 عن الأزمة الاقتصادية العالمية تحت عنوان ''في الأزمة''، نشرت موضوعا مستفيضا عن وكالات التصنيف والتقييم، تحت عنوان ''عملوا البحر طحينة''. وقتها كان رؤساء هذه الوكالات يقولون: ''لا دخل لنا في ارتكاب الأزمة، ولسنا مسؤولين عن تداعياتها، وقد قمنا بمهامنا على أكمل وجه''!. لكن هؤلاء لم يبرروا تقييماتهم لمؤسسات وضعوها في الدرجة الممتازة، كيف تعرضت إلى الانهيار بـ ''لمح البصر''؟ ولم يفسروا تصنيفاتهم ''فوق الممتازة''، لمؤسسات وشركات تابعة أو متعاونة مع المحتال الأمريكي الشهير برنارد مادوف، الذين استطاع أن يسرق 65 مليار دولار أمريكي على مدى 20 عاما. هي التي ''طمأنت'' العالم بأن بنك ''ليمان برازرز'' الأمريكي لا غبار عليه، وأن بنك ''نورثرن روك'' البريطاني متماسك، وأن ''ميريل لينتش'' الأمريكية متوازنة، وأن مصرف ''رويال بنك أوف أسكوتلاند'' لن يخسر، وأن شركة ''فورد'' قوية، وأن مؤسسة الضمان الأمريكية ''إى آي جي'' مضمونة. وقبل هذا وذاك، أن لدى مادوف من ''النزاهة'' والصدق، ما يكفي لوضع أموال الدنيا بين يديه! والمصيبة أن شرائح نافذة في الاقتصاد العالمي، اعتبرت أن وكالات التقييم لديها من الشفافية والنظافة ما يكفي لتحصينها من الخضوع للتقييم!

إن الأمر ليس كذلك. فالجميع يعلمون أن الثقة تحتاج إلى سنوات لبنائها، وقابلة ومطواعة للتدمير في ظرف ثوان معدودة. ولا أعرف إن كان أولئك الذين يؤمنون بـ ''قدسية'' وكالات التقييم ( مثل ''زملائهم'' المؤمنين بـ ''قدسية'' السوق)، يعرفون أن الجودة لا تبدأ إلا من الداخل، ثم تحفر لنفسها طريقا إلى الخارج. فهذه الوكالات لم تعمل بالجودة المطلوبة، من أجل تحديد مستوى جودة الآخرين!. لا غرابة إذن.. في أن تكون المؤسسات التي خضعت لتقييم وكالات التصنيف هذه، أول وأكبر الهيئات المنهارة، وأول من نشر الصدمة والآلام معها، وأول من ''بشَر'' بكساد عالمي يصعب حتى على القائمين على إدارته وضع مدة محددة أو متوقعة لانتهائه.

تطرح قضية وكالات التقييم، موضوع التشابك في المصالح بينها وبين المؤسسات الخاضعة لتقييمها. فعلى مدار السنوات التي سبقت الأزمة الاقتصادية العالمية، لم تقدم وكالة واحدة، تصنيفا سلبيا، لمؤسسة واحدة من تلك الكبرى أو المتوسطة. أقصى ما كانت تقوم به، هو تخفيض مستوى التقييم بصورة لا تتأثر معه سمعة المؤسسة أو الشركة. والتشابك الذي يحتاج إلى ''التفكيك'' أو التوضيح، يكمن في أن المؤسسة التي توظف وكالة التقييم، تتحول أوتوماتيكيا إلى زبون لهذه الوكالة، الذي ينطبق عليه التعبير السوقي الشائع ''الزبون دائما على حق''. لكن هذه – ربما – هي الحالة الوحيدة التي لا ينطبق عليها هذا التعبير. فالوكالة لا تقدم منتجا استهلاكيا، يجب أن يخضع بالضرورة لرضا المستهلك. بل ''تصنع'' منتجا معلوماتيًا لتوعية المستثمر الذي سيساعده في توجيه أمواله. وفي الواقع ينبغي أن يكون الزبون هنا هو المستثمر، لا المؤسسة ولا الشركة. وإلى أن يتم حل هذه الإشكالية، وفك ''التشابك''، ستظل وكالات التصنيف ''بائعة للتقييمات''، وستبقى محل شك وريبة. فقد تحولت هذه الوكالات قبل الأزمة – وحتى لأشهر بعدها – مثل الجامعات التي تبيع شهادات الدكتوراه والماجستير، لأشخاص لا يملكون إلا المال!

والمشكلة الكبرى، أن الأوروبيين فهموا ضرورة وحتمية حل هذا الخطأ الاقتصادي الاستثماري التاريخي، لكن الأمريكيين لا يريدون أن يفهموه. ففي الربع الأول من عام 2009، وافق المشرعون الأوروبيون على تنفيذ إصلاحات – لا تغييرات - ترتبط في مسألة دفع تكاليف عمليات التصنيف. غير أن الأمريكيين لم يتوصلوا بعد إلى صيغة ما بهذا الخصوص، الأمر الذي سيقلل من حجم ومستوى الإصلاح الأوروبي، لأن قطاع وكالات التصنيف – لا سيما الكبرى منها – هو أيضا متشابك عالميا، مثلما هو متداخل محليا. ويطرح الـ ''مكتوون'' بنار الأزمة، قضية الشفافية مع وكالات التصنيف نفسها. فالأسئلة كثيرة في هذا المجال، ولا توجد إجابات شافية عليها. ولعل في مقدمتها: ما مدى خضوع وكالات التصنيف للتدقيق في رسومها وماضيها ومستويات التصنيف والتقييم التي تعتمدها؟ بل، هل المحلل التابع لهذه الوكالة أو تلك، يتمتع بالقدرة المهنية الجيدة؟ وما مدى جودة سمعته؟ يكفي الإشارة هنا، إلى التضارب الذي بات جزءا أصيلا في عمليات التقييم تجاه مؤسسة واحدة. فلم يعد غريبا منذ سنوات، أن تجد مؤسسة حاصلة على مستويات متفاوتة من عدة وكالات في وقت واحد!. ويتكرر هذا الأمر بصورة مضحكة ومؤذية في آن معا. والمثير أنها لم تتردد (في أعقاب الأزمة) في تخفيض مستوى تقييماتها الخاصة بالمؤسسات العالمية - والعربية أيضا- دون أن تقدم أي مبررات معقولة لهذه التقييمات المتدنية، تماما كما فعلت في رفع تقييماتها لهذه المؤسسات قبل الأزمة، دون أي مبررات واقعية أو صادقة، أو معلومات حقيقية.

هناك الكثير من الخطوات والمقترحات التي تجعل من ''قطاع التصنيف'' قطاعا يستحق اسمه. من بينها: أن لا تملك وكالات التصنيف الحق في تحديد قيمة الديون التي تساعد على إعادة جدولتها. وألا يشترك المحلل الموكَل بتقييم المؤسسة في مفاوضات حول أجوره. ويقترح المشرعون: ألا يحصل هذا المحلل على هدايا تفوق قيمتها 25 دولارا أمريكيا. وعلى الوكالة التي توظفه، أن تمتلك سجلا تاريخيا عن نزاهته، وإذا ما كان تعرض إلى شكاوى في السابق. وإذا ما وضعت هذه المقترحات قيد التنفيذ الفعلي، سيعاد النظر بحقيقة وكالات التصنيف، بما في ذلك تلك التي تحمل أسماء رنانة، وستحصل على المكانة التي وُجدت من أجلها. وإذا كانت المؤسسات والشركات.. وحتى الحكومات معرضة للفساد، ينبغي أن تكون هذه الوكالات، هي الوحيدة المحصنة منه. وللتدليل على ذلك، فقد خلصت لجنة مراقبة حكومية أمريكية إلى ماذا؟.. إلى أن المسؤولين في وزارة الخزانة الأمريكية كذبوا على الرأي العام في بلادهم، عندما روجوا لتسع مؤسسات مالية حصلت على مساعدات حكومية لإنقاذها من الانهيار. وكذب هؤلاء – حسب المفتش العام الخاص بالمساعدات الحكومية نيل باروفسكي – عندما ''رسموا صورة إيجابية''، وأكدوا بطريقة غير واقعية على أن المصارف التي حصلت على أموال الإنقاذ الحكومية ( أموال دافعي الضرائب)، قادرة على الإقراض بفضل هذه المساعدة. وماذا فعلوا أيضا؟ أخفوا معلومات عن الوضعية الحقيقية لهذه المصارف حتى بعد خطط الإنقاذ!.

يقول الأديب الأمريكي الشهير مارك توين :''إن تستحق التقدير ولا تحصل عليه.. أفضل من أن تحصل عليه دون استحقاق''. لقد عبَر عن واقع وكالات التصنيف والمؤسسات التي ''صُنفت''، وكانت أول الغارقين في الأزمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق