الخميس، 28 يناير 2010

الولايات المتحدة الأميركية "النامية"!

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




" ليس مهما أن تنشر إعلانات منتجات الطعام إلى الجائعين، ولا منتجات الوقود إلى الذين يموتون بردا، ولا العقارات إلى المشردين"
الاقتصادي الكندي – الأميركي جون كاليبريث

 

محمد كركوتــي
 
تحدُث في الولايات المتحدة الأميركية. تحدُث في بلد يستحوذ على أكبر اقتصاد في العالم. تحدُث في أقوى وأغنى جمهورية في العالم. تحدُث في دولة تعج بأكبر عدد من مقرات وفروع المنظمات والجمعيات الإنسانية والخيرية، بما في ذلك تلك التابعة للأمم المتحدة، التي تحتضن مقرها الرئيسي. تحدُث في مجتمع استطاع أن يرسل رجالا إلى القمر في ستينات القرن العشرين، وتمكن من اكتشاف ما كان مستحيلا اكتشافه. إنها قضية، لو لم تحدُث في أثيوبيا أو الكاميرون أو الصومال – مثلا – لكان هناك خطأ ما!. ولو لم تقع في هايتي ( قبل زلزالها المدمر وبعده)، لقلنا: إنه زمن المعجزات!. ولو لم توجد في دول في القارة الآسيوية، لاعتبارنا أننا على أعتاب نهاية الزمن!. المعادلة لم تُقلب، بل ضمت عناصر جديدة. ففي الولايات المتحدة تشردٌ مستمر ومشردون أكثر استمرارا!. وفي المناطق والدول المشار إليها، مشردون "متأصلون" مستمرون، وتشردٌ متجذر، قوي في استمراريته واستدامته ومصائبه. فالمعادلة إذن.. توسعت من حيث عناصرها، ولم تتجه بمسار معاكس. أي أن التشرد لم يتراجع هنا ويزداد هناك، بل ارتفع هنا وهناك. تعاظم في بيئته المعهودة الحاضنة التاريخية له، وأصاب بالعدوى بيئة ليست متداخلة مع الأولى!.

من الصعب تحميل الأزمة الاقتصادية العالمية المسؤولية المباشرة للتشرد المتزايد في الولايات المتحدة، وإن ساهمت هذه الأزمة، برفع أعداد المشردين ( أفرادا وأسر). فالتشرد وتوابعه، كان جزءا أصيلا من سياسة التجاهل أو عدم الاكتراث، التي مارستها إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن في الداخل الأميركي على مدى ثماني سنوات. كانت من "الثانويات" لا الأساسيات. وحين اندلعت الأزمة الاقتصادية في الأشهر الأخيرة من ولاية بوش الثانية، أضافت مشردين جدد إلى المشردين "المتأصلين"، لتكون "قضية هَمِ" إلى جانب "قضايا الهموم"، التي ورثتها إدارة الرئيس باراك أوباما. وكأن إدارة بوش "استصغرت" توريث الأزمة الاقتصادية الكارثية لوحدها، للإدارة التي خلفتها!.

ماذا فعلت إدارة بوش أثناء وجودها المريب في البيت الأبيض؟. منعت محققة تابعة للأمم المتحدة هي البرازيلية راكيول رولنيك المخصصة للتحقيق فيما يعرف في المنظمة الدولية بـ " المسكن اللائق كمكون رئيسي من مكونات العيش الكريم وحقوق الإنسان" أوAdequate housing as a component of the right to an adequate standard of living ، من دخول الأراضي الأميركية. فقد كانت هذه الإدارة تؤمن بأن "المسكن الكريم" ليس من حقوق الإنسان، ولا دخل للمنظمات الدولية فيه!. وجاء هذا المنع المشين، في إطار مقاطعة الولايات المتحدة – في عهد بوش بالطبع – مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ( لقد قاطعت إسرائيل أيضا نفس المجلس)!. ومع زوال الإدارة المذكورة، استطاعت رولنيك أن تدخل الأراضي الأميركية، وتتطلع على كمية هائلة من المعلومات والحقائق التي صدمت حتى المتخصصين الذين اطلعوا سابقا عن قرب على مصائب كثيرة. ولم تَسلَم إدارة أوباما في الواقع من لسان المحققة الدولية، التي وجدت قضية التشرد في الولايات المتحدة، مسألة معيبة بحجم حقيقتها، ومعيبة أكثر بحكم بيئتها. ماذا قالت؟ :" إن الولايات المتحدة الغنية تتجاهل قضية المشردين التي تواصل التردي، في الوقت الذي تقوم فيه بضخ المليارات من الدولارات الأميركية في المصارف لإنقاذها"!.

بعد أن أكملت رولنيك في أواخر العام 2009 جولة في سبع مدن أميركية ( منها شيكاغو وواشنطن ونيويورك ولوس أنجلس)، وصلت إلى الحقائق التالية: أن الحكومة الفيدرالية لم تنفق ما يكفي من أموال لانتشال مواطنيها من براثن التشرد!. وأن حقيقة أزمة المساكن – العقارات – ليست مرئية عند الغالبية من الأميركيين!. وأن مشكلتي السكن والفقر لا يتم التعاطي معهما كقضيتين خطيرتين!. وأنه حتى في عز التعاطي مع الأزمة الاقتصادية والبحث عن سبل لإنعاش الاقتصاد، لا توجد عمليا آليات ناجعة لحل مشكلة المشردين. وأن الغالبية العظمى من هؤلاء المشردين، هم من أصول أفريقية ولاتينية أميركية، وأميركيين أصليين ( من الهنود الحمر).

في العام 2008 بلغ عدد المشردين ( بلا مأوى) في الولايات المتحدة أكثر من 3 ملايين إنسان، والمثير أن الأرقام المتعاظمة لهؤلاء هي في أوساط الأسر لا الأفراد. وطبقا للمنظمات المختصة، فإن هناك ما يقرب من 17 ألف من الآباء والأمهات والأطفال يلتحفون السماء كل ليلة في مدينة لوس أنجلس. هناك من هؤلاء من يعثر على مأوى لليلة واحدة، لكن الغالبية العظمى من الرجال والنساء، لا يمكنهم ذلك!. صحيح أن الحكومة توفر معونة شهرية للمشردين، لكن المعونة الواحدة تقل 50 في المئة عن قيمة إيجار غرفة لمدة شهر!.

لست هنا في معرض الحديث التفصيلي عن الأوضاع المعيشية للفقراء في الولايات المتحدة. لكني وجدت معايير جديدة تتشكل على الساحة الأميركية بفعل الأزمة الاقتصادية، من بينها تدخل الأمم المتحدة نفسها، وتحت مسمى وشعار حقوق الإنسان. وللتذكير، أنا لا أتحدث هنا عن أثيوبيا أو الصومال أو نيجيريا أو غيرها من الدول الفقيرة والمنكوبة، التي ينبغي أن لا تغيب المنظمة الدولية عنها، قبل أن تحقق الحد الأدنى من كرامة العيش، ولا أقول الكرامة الإنسانية، لأن هذه الأخيرة تبدو جزءا أساسيا من المستحيل!. فبعد زوال إدارة بوش، وحضور الأزمة، سمحت إدارة أوباما لمحققة الأمم المتحدة، بعقد اجتماع "جماهيري" في قاعة بلدية لوس أنجلس، مع الأميركيين الذين خسروا منازلهم وافترشوا حدائق وأزقة المدينة. ومثل أي مواطنين في الدول النامية ( عندما يعثرون على مسؤول دولي يستمع إليهم)، قام المجتمعون بتقديم الشكاوى لرولنيك، بأن المسؤولين المباشرين عن المساكن، لا يولون قضاياهم اهتماما، بل يولونها تجاهلا!. اللافت في الأمر أيضا، أن المسؤولين في إدارة الرئيس أوباما، يوفرون كل الإمكانيات للمحققة الدولية من أجل إتمام مهامها، ويمنحونها الحرية المطلقة للتحرك، كيفما تشاء في البلاد. فهذه الإدارة أعلنت صراحة، أنها تسعى إلى الاستفادة من مهام هذه الشخصية الدولية، ولا تهتم بالإحراج الذي قد ينجم عن تكشف الحقائق. ففي وقت الأزمات، يبدو الإحراج نوعا من أنواع الرفاهية.

لقد صدَرت الولايات المتحدة إلى العالم على مر سنوات طويلة، "طرازا اقتصاديا" – موديل - يقوم على مبدأ "أن كل فرد يستطيع تنظيم نفسه ماليا، وبإمكان أن يحقق ما يريد في هذا المجال". حسنا، من الأهمية بمكان بالنسبة لدول العالم التي "اشترت" هذا "الموديل"، أن تعرف وتحدد الشخص المؤهل لهذا " الطراز"، والشخص غير المؤهل له. إنه "طراز" عائم غائم ومغر في آن معا. وفي الواقع أن هذا " الطراز"، حل على مدى عقود من الزمن، مكان آخر كان يقوم على مبدأ" توفير المسكن اللائق لذوي الدخل المنخفض". ما الذي حدث ؟. ساد الأجواء "اقتصاد الوهم"، وهو أن كل إنسان يمكنه أن يمتلك بيتا بمعايير وهمية، لا حقائق واقعية ملموسة. ماذا نتج عن ذلك؟ أزمة عقارية تاريخية، تحولت إلى أزمة مالية أكثر تاريخية منها، تحولت بدورها إلى أزمة اقتصادية، حفرت لنفسها أبرز مكان لها في التاريخ!.

نعم.. إن جزءا أصيلا من الأزمة الاقتصادية مرتبط بهذا الطراز من السياسة الإسكانية الورقية أو الاسمية أو الوهمية ( لنختر ما شئنا من التوصيفات). فعلى رأس أولويات هذه السياسة، بند تسويق المنازل – العقارات – إلى الأشخاص الذين لم يكونوا مؤهلين للحصول على قروض مصرفية أو إسكانية، ولم يصلوا في حياتهم إلى وضعية ائتمانية، تضمن لهم القروض. وفر "الموديل العقاري" القروض ( الديون) لهؤلاء.. وبسخاء. ولكن أحدا من "المُلهَمين الاقتصاديين"، لم يوجه لنفسه السؤال الأهم وهو "هل يمكن أن ينطبق هذا (الموديل) على الفقراء"؟!.

لقد عبرت راكيول رولنيك بعمق عن الحقيقة الماثلة أمامها حين قالت : " إن الولايات المتحدة واحدة من أغنى دول العالم. أعتقد أنه من الأهمية بمكان، أن يعرف العالم حقيقة ما يجري فيها". كأنها أرادت أن تقول، لأولئك الذين " استلهموا" الطراز الاقتصادي الأميركي : "احذروا التقليد"!.


هناك تعليق واحد: