الخميس، 7 يناير 2010

الجريمة المتوالدة؟!


( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")






" المجتمع يُحضر الجريمة.. والمجرم يرتكبها"

المؤرخ الإنجليزي هنري توماس باكلي

 
 
 
 
محمد كركوتــي
 
سيحمل العام 2010 ( المولود من عام قلَ العثور على شبيه له)، انتعاشا هنا وتعافيا هناك، وانفراجا هنا وتقدما هناك، بصرف النظر عن حجم وطبيعة هذه التحولات أو المستجدات المتوقعة. وهي كذلك لأنها لن تصل إلى مرحلة " الاستحقاقات الانتعاشية" – إن جاز التعبير – في هذا العام، وحتى في العام الذي يليه. سينقشع جزء من غشاوة الأزمة الاقتصادية العالمية، في العام الأخير من العقد الأول للقرن الحادي والعشرين، لكن السماء الملبدة بالغيوم، ستبقى إلى أجل "غير مرئي"، حتى عند أولئك الذين ينظرون إلى الأزمة بعيون ترى ومكبرات تُوضَح، مما يجعل الحرب أقرب إلى صالح الأزمة، منها إلى حساب "محاربيها". فعتاد هؤلاء لا يزال هشا، وعديديهم لا يزال مبعثرا في ساحة القتال، بينما لا تزال عمليات "تعزيز الصفوف" قيد التنفيذ. وإذا كان العالم بعيد عن استحقاقات الانتعاش أو التعافي أو الانفراج أو التقدم (لا يهم اختيار التوصيف إذا لم تثبت الرؤية!)، فإنه قريب من استحقاقات الأزمة، كقربه من آلامها ومصائبها وزلازلها، ومحصور في زواياها. فهي ليست أزمة آنية لتنتهي في زمنها، بل أزمة تاريخية فرضت زمانها، وشكلت الخطوط العريضة (والرفيعة) للمجتمع الدولي، بكل أطيافه ومكنوناته، وقبل هذا وذاك "موجوداته". والطاقة التي كانت هيكلية هذا المجتمع تقوم عليها، بدلتها الأزمة بطاقة فريدة من نوعها وطبيعتها، تحرك المجتمع وتحرقه في الوقت نفسه!. طاقة تغذي المحرك، ليدفع العربة إلى الوراء، فلا يمكن لهذه الطاقة أن تُشَغل إلا محركات "الدفع الخلفي"، ولا تصلح إلا لـ " التقدم" باتجاه المؤخرة!.

الفوران الاجتماعي الذي "غَلتْه" الأزمة، ظهر بمجموعة من الأشكال، كانت الجريمة - بكل أشكالها أيضا - المالية والجنائية والمُنظَمة والالكترونية منها. ولأنه فوران تاريخي من حيث درجة الغليان، فإنه لن يتوقف سوى بتحولات تاريخية صارمة، لن تأتي أو تُستحضَر، إلا ضمن نطاق الانتصار الشامل في الحرب المفتوحة على الأزمة. فالجريمة المتعاظمة، ما كان لها أن تصل إلى هذا الحجم المخيف، بمعزل عن الجريمة الاقتصادية الكبرى، وما كان لها أن تصبح جزءا من الحراك الاقتصادي – الاجتماعي العالمي، لو حقق العالم خطوات كبرى على صعيد حربه الدائرة ضد الأزمة بـ "عتادها وعديدها". وكلما فشلت معركة – في هذه الحرب – أو تأخرت، كلما تأصلت الجريمة بأشكال ومصائب جديدة. والواقع أن الحد من الجريمة المتعاظمة، لا يمكن أن ينجح لو استند فقط إلى الطرق التقليدية المعروفة، بما في ذلك القبض على المجرمين ومحاكمتهم ووضعهم في السجون أو حتى إعدامهم. فهذه الجريمة هي الوحيدة التي لن تهدأ، إلا بحلول اقتصادية – معيشية ناجعة. ولن تتراجع، إلا بخفض عدد العاطلين عن العمل، ووقف ارتفاع عدد الجياع، وتقليل معدلات الفقر، وخلق وتأسيس وتكريس عدالة اجتماعية عالمية (لا محلية). كيف يمكن أن يتحقق هذا، وقد أضافت الأزمة 59 مليون عاطل عن العامل في عام 2009، وضمت ما يقرب من 100 مليون جائع في العام نفسه ليصل العدد الإجمالي إلى 1,02 مليار إنسان، وأوقعت أعدادا هائلة من البشر تحت خط الفقر، حتى في الدول المتقدمة؟!.

إنها مصيبة كبيرة، دفعت مكتب مكافحة الجريمة والمخدرات التابع للأمم المتحدة، إلى تحذير الحكومات من تعاظم الجريمة بفعل الأزمة، سواء الفردية منها أو الالكترونية أو المنظمة. وهذه الأخيرة تجد من السهل في أوقات "المحن المالية" تحويل أموال غير شرعية إلى المصارف، التي تعاني من مشاكل في السيولة!. يا إلهي .. لقد حصلت هذه المصارف على "الأموال السوداء، لتبييض أيامها السوداء"!!. فالعصابات المنظمة التي كانت موجودة قبل الأزمة، وجدت فيها ملاذا آمنا وسهلا، لغسل أموال القتل والسرقة والمخدرات والاتجار بالبشر والأطفال والدعارة!. ومصادر الأموال لم تعد مطلبا مهما لهذا المصرف أو ذاك، وبعض الحكومات في الدول غير الراشدة، شجعت على شطب "من أين لك هذا" من لوائح مصارفها، بينما لا توجد لوائح أصلا في بعض دول أخرى!.

الجريمة المنظمة.. بحر هائل من الأوساخ والقمامة والشر وموت الضمير، يصعب حتى على الدول الكبرى حصرها، لكن من السهل تحديد الجرائم الفردية، لاسيما تلك الناجمة عن الأزمة. فعلى سبيل المثال، في منتصف العام 2009 أعلنت الحكومة البريطانية عن الحاجة إلى ألفي ضابط أمن إضافي خلال ثلاث سنوات، للسيطرة على الجرائم التي ارتفع معدلها بشكل مطرد بسبب حالة الركود الاقتصادي‏. وتتوقع إدارة الشرطة، أن ترتفع الجرائم ‏ بنسبة ‏25 في المئة خلال العامين 2010 و2011‏.‏ ولأن روسيا "ليست طاهرة" من الجرائم – في زمن الأزمات وغيره – فإن ظروف الحياة التي تحولت إلى الأسوأ، رفعت من معدلات الجريمة فيها، في خضم استياء لا حدود له لدى المستثمرين في هذا البلد. ففي شهر واحد فقط ارتفع معدل الجريمة في موسكو 16 في المئة، والاعتداءات التي تؤدي إلى الموت ارتفعت 44 في المئة!. أما السبب المباشر لهذا الارتفاع؟ فيعود إلى أن المهاجرين الذين تدفقوا على موسكو من الجمهوريات السوفيتية السابقة خلال سنوات الازدهار للعمل في مواقع التشييد والبناء والأعمال الصغيرة، فقدوا وظائفهم، ولم يعد أمامهم ملجأ من برد العاصمة ولا لقمة فيها. ولنا أن نعرف أنه في شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام 2008 فقد 5,8 مليون روسي وظائفهم. والأمر بنفس البشاعة على ساحة الولايات المتحدة الأميركية. فقد أظهر تقرير أميركي مستقل، أن العلاقة قوية جدا، بين انخفاض الأجور، ومعدلات البطالة المرتفعة للأفراد الأقل تعليماً، وبين ارتفاع نسبة الجريمة وتزايدها في كل القطاعات، وأن الساحة الأميركية تشهد جريمة واحدة كل خمس دقائق، في أعقاب اندلاع الأزمة الاقتصادية. والتاريخ يعزز هذه النتيجة. ففي زمن الانهيار الاقتصادي الولايات المتحدة الذي انطلق عام 1978، تصاعدت معدلات الجريمة، متى؟ في السنوات اللاحقة لهذا الانهيار، وبلغ ذروته في العام 1981، حيث ارتكبت ما يزيد عن 107 آلاف جريمة سرقة في مدينة نيويورك وحدها!، أي بمعدل294 جريمة في اليوم الواحد!.

هذه هي الصورة في ثلاث دول كبرى مؤثرة على الساحة العالمية، وصاحبة قرار اقتصادي عالمي. والوضع لا يختلف في بقية الدول الأخرى المشابهة مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها، فضلا عن الدول الفقيرة. ومن المصائب أيضا، أن جرائم السرقة ارتفعت داخل الشركات والمؤسسات، على أيدي موظفين فيها، وليس على أيدي عاطلين أو لصوص من خارجها!. والسبب الذي يروجه "السارقون الداخليون" تبريرا لسرقاتهم، أنهم يريدون الحفاظ على مستوى المعيشة المرتفع، الذي تعودوا عليه أثناء فترات الازدهار الاقتصادي. ولمزيد من الصدمات، فقد أنعشت الأزمة في بلد كالولايات المتحدة، تجارة بيع الأسلحة الشخصية، حيث اعتبر "المتسوقون" الجدد، أن احتمالات تعرضهم للسرقة والاعتداء من أجل السرقة، ارتفعت بصورة كبيرة ومخيفة في أعقاب الأزمة. وطبقا لشركة "سميث أند ويسون" Smith and Wesson الأميركية المتخصصة بصناعة الأسلحة النارية، فإنها تتوقع مضاعفة مبيعاتها في غضون ثلاث إلى خمس سنوات، بعد أن حققت في العام 2009 ارتفاعا في مبيعاتها بلغ 13 في المئة.

يقول الكاتب والمؤلف الأميركي جاري ويلس: " إن المنتصرين هم وحدهم فقط الذين يحددون ساعة انطلاق الحرب ضد الجريمة". والطامة الكبرى، أنه لا يوجد منتصر على الساحة في الوقت الراهن. فالحرب لا تزال جارية ومفتوحة على كل الجبهات ضد الأزمة الاقتصادية العالمية، كما أن مسببات الجريمة جاثمة على صدر المجتمع الدولي كله. وإلى أن تضع "الحرب" أوزارها، في زمن يمتد إلى سنوات لا أشهر، لا عجب إذا ما بدأ الأميركيون العاديون بشراء المدافع ، بدلا من المسدسات، والصواريخ بدلا من البنادق، لحماية أنفسهم من مجرمين، لم يكونوا على الساحة أصلا، قبل سبتمبر/ أيلول من العام 2008، الشهر الذي انفجرت فيه " القنبلة النووية البشرية"، ولوثت المجتمع الدولي، بإشعاعات، لا تنفع معها الكمامات ولا السترات الواقية!.


هناك تعليق واحد:

  1. هل ينفع الأمل .. هل ينفع الحلم .. حبل يتدلى من السماء .. هل تصعد هل نصعد جميعنا .. أم أن نستعمله مشنقة للمتفائلين .. فالذين تسلقوه لم يرجعوا ولم يسقطوا .

    ردحذف