الثلاثاء، 17 فبراير 2015

أسعار الغذاء تنخفض .. لكن ليس على الكل

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«عندما تهدر الطعام، كأنك تسرق من الفقراء»
 البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان

كتب: محمد كركوتــــي

تتحسن بالفعل أوضاع الإنتاج الغذائي حول العالم. وهي تتحسن من ناحية طبيعة الإنتاج، وكذلك من جانب التكاليف التي تنخفض والأسعار التي تتراجع. وفي كل تطور بهذا الاتجاه، تكمن المطالب (بل الأمنيات)، بأن تتواصل أوضاع الغذاء في التحسن، والأهم أن تشمل مناطق واسعة حول العالم في الإفادة منها. فعلى الرغم من كل التطورات الإيجابية المشار إليها، إلا أن هناك بلدانا لم تستفد منها، لأسباب عديدة، من بينها، عدم تناغم أسعار الغذاء العالمية مع أسعارها المحلية، وكذلك الهدر المتصاعد في معظم بلدان العالم للغذاء، ومساوئ تخزين الغذاء في عديد من البلدان. دون أن ننسى، الجانب الخاص بالتجار، وتحديدا أولئك الجشعين، الذين يحاولون إطالة أمد الأسعار المرتفعة محليا قدر ما استطاعوا. فضلا عن ضعف وترهل القوانين الرقابية على الجودة والأسعار، وعلى وجه التحديد في البلدان التي تحتاج منذ عقود إلى قوانين واضحة، بل "ماحقة" للجشع التجاري.
في الموسمين الماضيين (حتى قبلهما) زخر العالم بمحاصيل زراعية قياسية، وفق "مؤسسة وحدة المخابرات الاقتصادية". وعززت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "فاو"، بيانات المؤسسة المشار إليها، وفي الواقع سبقتها "فاو"، في أكثر من مناسبة للتأكيد على وفرة إنتاج الغذاء بأنواعه، ولاسيما الحبوب التي تمثل في حد ذاتها مؤشرا لمستوى الغذاء حول العالم. أما وصولها إلى مستويات قياسية أخيرا، فيعود إلى تحسن وضعية المناخ في غير منطقة من العالم، إضافة طبعا إلى هبوط أسعار النفط، الذي بدأ عمليا في منتصف العام الماضي. وهذا يؤكد أن استمرار الاستراتيجية النفطية التي وضعتها السعودية منذ سبعة أشهر، يحقق عددا من الأهداف في آن معا، ويفسح المجالات واسعة أمام تعاطٍ مختلف في النواحي الزراعية وغيرها.
الأرقام الجديدة للغذاء يمكن أن تخطف توصيف "التاريخية"؛ لأنه لم يسبق منذ عقود أن وصلت إليها. فأسعار الغذاء العالمية انخفضت 2.8 في المائة، وحولت الأسعار المحلية في 79 بلدا من أصل 109 إلى "أسعار معقولة". ورغم أن أسعار الحبوب لم تشهد انخفاضا يذكر –حسب فاو- إلا أن جميع السلع الغذائية شهدت الانخفاض المطلوب، ولاسيما منتجات الألبان والسكر. في حين سيصل إنتاج فول الصويا هذا العام إلى مستوى قياسي، بل إن إنتاج الذرة سيرتفع متجاوزا كل المستويات السابقة. وبالنظر إلى المعطيات العامة، يمكن لأسعار الغذاء العالمية أن تنخفض بأكثر من 2.8 في المائة في الأشهر القليلة المقبلة، إذا ما استمرت العوامل الراهنة المساعدة فترة معقولة. وعلى المنتجين استغلال كل عامل من هذه العوامل إلى آخر مدى. إنها فرصة يمكن الحفاظ على مكتسباتها، بمزيد من التخطيط والمنهجية.
في أواخر العام الماضي، انخفضت الأسعار فترة وجيزة بمعدل 3 في المائة، أي أنها تجاوزت المستوى القياسي المشار إليه. وفي بعض البلدان تراجعت الأسعار لتشمل حتى الحبوب، التي لم تشهد تراجعا ملحوظا عالميا. هذه الحقائق لم توفر بعد فوائد شاملة؛ أي أنها لم تنسحب على الجميع، وليس فقط على جملة من البلدان، حتى إن شكلت الأغلبية. ومن ضمن المشكلات التي يمكن حلها ببساطة، تلك المرتبطة برداءة التخزين، ولاسيما في البلدان غير المتقدمة، الأمر الذي ينتج كميات هائلة من الغذاء المهدور الذي تحتاج إليه شعوب هنا وأخرى هناك. ويمكن بيعه بأسعار معقولة لكلا الطرفين المشتري والبائع. والاستثمار في التخزين لا يقل أهمية عن الاستثمار في إنتاج السلع المخزنة نفسها. إنها عملية متكاملة لا يمكن أن تحقق كل النتائج إلا بوصل أطرافها بعضها ببعض.
ومن المشكلات الرئيسة أيضا أنه حتى في البلدان الراشدة، هناك مستويات مرتفعة من هدر الغذاء، على الرغم من قيام جهات في هذه البلدان باتخاذ إجراءات مثالية بالفعل للحد من الهدر بشكل عام، سواء المرتبط بالفرد أو بمحال بيع الأغذية. وعلينا أن نتصور مستويات الهدر في بلدان لم تصل بعد إلى الحد الأدنى من ثقافة "عدم الهدر"– إن جاز التعبير-. في أوربوا يهدر الفرد 90 كلج سنويا من الغذاء. وينخفض الهدر من منطقة إلى أخرى، وفق حقائق الوفرة، وليس النضج الاقتصادي والاجتماعي. وعندما تنخفض أسعار الغذاء عالميا ومحليا، يبدو واضحا أن مستويات الهدر ترتفع أيضا. ورغم قيام منظمة "فاو" بحملات مختلفة للتثقيف في هذا المجال، إلا أنها لم تحقق الأهداف كلها في هذا السياق. ولا شك أن الأمر يتطلب انطلاقا آخر جديدا، لتكريس الثقافة الموجودة ولكن الضعيفة.
صحيح أن تراجع أسعار الغذاء (ولاسيما السلع الأساسية) يمثل خطوة عظيمة إلى الأمام على صعيد خفض معدلات الجوع في غير منطقة من العالم، ولكن الصحيح أيضا أنه لا يوجد "استثمار" عالمي مواز للحفاظ على مكتسبات الانخفاض المشار إليه، والبناء عليه لمحاربة الجوع بالطبع، ولإحداث احتياطي غذائي عالمي يكون سندا في الأزمات والكوارث، وفي أزمنة الحاجة.
إنها مسؤولية عالمية لفائدة العالم أجمع. خصوصا عند أولئك الذين يجرمون السياسة في الغذاء.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق