الخميس، 11 يوليو 2013

الطفل.. التلفزيون.. الدراسات المتضاربة

(المقال خاص بمجلة "جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج")





 "الجودة تبدأ من الداخل ثم تحفر طريقها إلى الخارج"
بوب معوض، كاتب أميركي


كتب: محمد كركوتـــــي

هناك الكثير من الدراسات القديمة والجديدة، حول التلفزيون وتأثيراته السلبية والإيجابية (إن وجدت هذه الأخيرة)، وحول أهميته في التحولات الاجتماعية، وبعدها السياسية والاقتصادية. بالإضافة طبعاً، إلى طروحات، بما في ذلك، جدوى وجود هذا الجهاز في المنزل. وتكاد هذه الدراسات والبحوث الاستقصائية تُجمع على شيء واحد، هو: أن مساوئ التلفزيون لا تحصى، وأن محاسنه لا تحصى أيضاً، لأنها ببساطة غير موجودة! وهذه الدراسات لا تتعلق بالعالم العربي، الذي يعاني (من ضمن ما يعاني) من عدم وجود مراكز بحثية ودراسية عالية الجودة، مقارنة بمثيلاتها في العالم الغربي. وهذا بحد ذاته مصيبة تضاف إلى المصائب التي تواجه العرب في أكثر من مجال وأكثر من ميدان، ولا سيما الإعلامي بصورة عامة، والجانب الخاص بالأطفال على وجه التحديد.
على كل حال، قلبت دراسة بريطانية جديدة، كل استنتاجات الغالبية العظمى من الدراسات المشار إليها. وأظهرت هذه الدراسة الصادرة عن جهة أكاديمية عريقة هي جامعة لندن، أن التلفزيون ليس سيئاً كما يعتقد العالم، وليس مضيعة للوقت، وليس سلبياً، وليس مضراً.. لمن؟ للأطفال. ولعل أهم نقطة في هذه الدراسة، التي نُشرت في دورية علم الاجتماع، وتابعت حالات 11 ألف طفل، منذ الولادة وحتى سن السابعة، أن مشاهدة التلفزيون لفترات طويلة (!) تحسن الأداء المدرسي عند الأطفال. ويؤكد واضعوا الدراسة، أن هذه النتيجة جاءت على عكس ما هو معتقد، لأن الأهل يقومون عادة بالحد من مشاهدة أطفالهم للتلفزيون، اعتقاداً منهم أن التقليل من المشاهدة، يحسن مستواهم المدرسي. والذي يمنح هذه الدراسة أهمية، أنها تابعت بالفعل هذا العدد الهائل من الأطفال، ولم تدرس فقط "الحالة التلفزيونية" لهم، بل أيضاً تأثرهم بالعوامل الاجتماعية والعائلية، بالإضافة إلى النظام اليومي في المنزل.
وبعيداً عن الجانب الخاص بالمستوى التعليمي والاجتماعي للأهل، وتأثيراته على أداء الطفل مدرسياً ومجتمعياً وإنسانياً، إلا أن النتيجة الخاصة بالتأثير الإيجابي للتلفزيون على التحصيل المدرسي للطفل، تحتاج حقاً إلى وقفة،  وربما إلى إعادة النظر بالمسلمات الخاصة التي انتشرت منذ بداية انتشار التلفزيون نفسه. فهل يعقل أن التلفزيون يرفع من درجات التلميذ في المدرسة؟ بالتأكيد  المستوى الاجتماعي يساهم بصورة مباشرة، وهذا بحد ذاته ليس خبراً. لكن أن تكون الفوائد التعليمية للتلفزيون عالية جداً (حسب الدراسة)، وأنه لا يمكن إنكار الفوائد التعليمية له، وأنه يعطيهم الكثير من المعلومات والخبرات، بالإضافة للمفردات والكلمات والتعابير التي يمكن ألا  يسمعونها عند أهلهم. هذا هو الخبر! 
والحقيقة لم يحدد القائمون على الدراسة أي نوع من أنواع البرامج التي يمكن أن توفر هذه القيمة الكبيرة التي يتحدثون عنها، بما في ذلك طبعاً "التعابير والمفردات والكلمات"!  فحتى في القنوات التلفزيونية التي تعتمد الحد الأعلى من المعايير المهنية (في الغرب)، هبطت مستوى اللغة المستخدمة فيها إلى مستويات تظهر بوضوح في "السلوكيات اللفظية" للأجيال المتابعة لها.  دون أن ننسى أن البرامج التلفزيونية والأميركية ومعها الإنتاج الدرامي أو (الأكشن)، لا تستحوذ على مساحات متعاظمة من ساعات  بث القنوات التلفزيونية غير الأميركية فحسب، بل أيضاً أصابت الإنتاج الأوروبي نفسه بالعدوى. صحيح أن هناك برامج يمكن أن تدعم أداء الأطفال مدرسياً، لكن في الواقع نسبتها ليست عالية مقارنة مع البرامج الأخرى، التي تدعم أداء الأطفال مدرسياً واجتماعياً هبوطاً.
ولا نعرف أي الدراسات التي يمكن أن تشكل أساساً واقعياً لما تطرحه من أفكار واستنتاجات وحتى إحصاءات. ففي دراسة أكاديمية  صدرت مؤخراً في الولايات المتحدة الأميركية، كشفت علاقة مهمة بين التعرض المبكر والمتزايد لمشاهدة التلفزيون، ومشكلات الانتباه في سنوات العمر اللاحقة. والدراسة هذه قامت بها جهة أكاديمية ونشرت في دورية "طب الأطفال". حيق توصلت إلى أن مشاهدة التلفزيون (بحد ذاتها) تزيد خطر إصابة الطفل بمشكلات في الانتباه بنسبة 10 في المائة، وأن من أخطر المراحل العمرية في الإفراط بمشاهدة التلفزيون، هي تلك الواقعة بين السنة الأولى والثلاث سنوات. الدراسة الأميركية متعارضة تماماً مع الدراسة البريطانية، على الرغم من أنهما صادرتا عن جهات أكاديمية تتمتع  بحد كبير من المصداقية، تستندان إلى تاريخ طويل في هذا المجال.
ومع كل التقدير لجامعة لندن، إلا أنه لا يمكن أن نضع استنتاجات غالبية الدراسات على مدى عقود، بما في ذلك الدراسة الأميركية الأخيرة جانباً، والتسليم لنتائج الدراسة البريطانية. فقد تأكد علمياً على سبيل المثال، أنه يستحيل المستوى الآمن لمشاهدة التلفزيون بالنسبة للأطفال، بين العان والثلاثة. في حين يعتبر أكاديميون ( على عكس الدراسة البريطانية)، بأن الخطر يزداد بزيادة ساعات المشاهدة. دون أن ننسى، أن هناك الكثير من علامات الاستفهام، حول الإنتاج التلفزيوني الموجه للأطفال حتى في الغرب، الذي يطبق معايير صارمة بهذا الخصوص في كل الجوانب المتعلقة بهذا الأمر، على عكس العرب الذين يركزون فقط على جوانب دون أخرى. وبالطبع دون أن ننسى التوجيه الإعلاني المريع الذي يتعرض له الطفل. فإذا كان هذا النوع من التوجيه ينال من البالغين، علينا أن نتصوره في أوساط الأطفال.
يقول الكاتب الأميركي أندرو روس "أصغر مكتبة تحتوي في داخلها أفكاراً أكثر قيمة مما يقدمه التلفزيون طوال تاريخيه". وكان وودي آلان الممثل الأميركي، أكثر سخرية عندما قال "أنا أجد أن التلفزيون تعليمياً، وتثقيفياً. بمجرد أن يفتح أحدهم الجهاز، أذهب إلى الغرفة الأخرى لأقرأ كتاباً".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق