(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")
«لا توجد أسئلة حمقاء. توجد إجابات حمقاء»
أوسكار وايلد أديب وكاتب أيرلندي
كتب: محمد كركوتـــي
بعد أيام قليلة من الفوز الطفيف للرئيس المؤمن جداً محمد مرسي في الانتخابات المصرية، انتشر مناصرو جماعة المرشد والشاطر والعريان في الأرجاء، ''يرشدون'' الجماهير إلى ''بركات'' الرئيس الجديد. ومن فرط ذهولهم بهذا الفوز، غاب عنهم أن ''البركات''– إن وجدت أصلاً- لا تحتاج إلى مرشدين، ولا إلى شركات إعلان لترويجها. إنها تتحدث عن نفسها، كما كانت مصر تتحدث عن نفسها. اليوم تتحدث مصر عن محنتها ومصائبها، وعن مخاوفها حتى من شح المياه. فالنيل بات مهدداً ليس من سد إثيوبي، لن يؤثر في الواقع على إمداداتها المائية، بل من قيادة سياسية ضعيفة مرتبكة، لا وزن لها في محيطها القاري (كما في محيطها العربي) يشجع حالها، حتى على تحويل مجرى النيل نفسه. هذا النهر، كغيره من الممتلكات الوطنية المحقة، يحتاج إلى قيادة حامية، لا قيادة تتسرب منها الإرادة، كما الماء في الكف.
على كل حال، ''البركات'' التي قاموا بتسويقها في أعقاب فوز مرسي، هي أن موسم القمح في مصر تضاعف فجأة! وأن من انتخب مرسي، انتخب في الواقع شخصاً مباركاً! (كانوا بالفعل يضعون فوق الكلمة الأخيرة تنويناً، تجنباً للخلط بينه وبين المخلوع مبارك). وفي زحمة حماسهم، لم يتنبهوا إلى أن موسم حصاد القمح، يأتي بعد ستة أشهر من حملتهم التسويقية الهزلية والهذيلة هذه! لقد أحصوا الإنتاج، وما زال المحصول بذوراً! ولأن الأمر كذلك، فلم يكن هناك أي رادع لهم، عندما أعلنوا أن مصر ستحقق الاكتفاء الذاتي من القمح في غضون ثلاث سنوات. والحقيقة كان هناك تشجيع ''مُرسي''، لأن الرئيس نفسه أعلن أن مصر قد تكتفي ذاتياً من هذه المادة الحيوية والحياتية في أربع سنوات. فما قام به أصحاب حملة ''البركات''، أنهم اختصروا زمن الاكتفاء سنة واحدة! والسبب أنهم يريدون مادة لكتيب يحمل عنوان ''إنجازات مرسي''. فلا بأس من حصاد القمح في عز الخريف، وجني المشمش في الشتاء والتين والتوت معه!
يقول الفيلسوف البريطاني برتراند راسل ''من علامات الانهيار العصبي، أن يظن الإنسان أن ما يفعله في غاية الأهمية''. هذا هو حال صانعي القرار في مصر. هذه الأخيرة هي أكبر مستورد للقمح في العالم أجمع، وسيصل مخزونها منه بنهاية الشهر الجاري، إلى أقل من مليون طن، والسبب لا يرتبط فقط بمشاكل الزراعة والإنتاج، بل متصل بصورة مباشرة بالصعوبات الهائلة في عملية شراء القمح من الأسواق العالمية، مع التراجع المخيف للقطع الأجنبي في البلاد. وطبقاً للجهات المحايدة، البعيدة عن ''مؤسسة البركات''، كانت المخزونات المصرية من القمح في نهاية السنة التسويقية 2011-2012 التى بدأت في الأول من تموز (يوليو)، وانتهت في 30 من حزيران (يونيو) الماضي 6.7 مليون طن تقريباً. أي أن قدرة البلاد على تخزين القمح تراجعت في عام واحد أكثر من خمسة ملايين طن!
تجري في مصر الآن عملية خطيرة جداً يمكن أن نسميها ''تسييس القمح''. وإذا كان ''اللعب'' بالسياسة يحمل مخاطره معه، فعلينا أن نتخيل المخاطر التي ستنجم حتماً عن ''اللعب بالقمح''. يتحدث بعض المزارعين المصريين من حقولهم وليس من ''مكاتبهم''، أن ما تروجه الحكومة ومعها ''حملة البركات''، لا يعدو عن كونه مجموعة هائلة من الأكاذيب. لماذا؟ لأن إنتاج القمح لم يرتفع في أراضيهم إلا ما بين 1 أو2 في المائة فقط. ويؤكد هؤلاء أنهم من ناخبي مرسي، لكنهم لا يمكن أن يكذبوا ما تطرحه أراضيهم. لهذه الأخيرة القول الحق والفصل، ولها أن تُكذب العالم أجمع. ويقول أستاذ الزراعة نادر نور الدين، الذي سبق له العمل مستشارا لوزارة التموين عام 2005: ''إنتاج القمح لم يصل إطلاقاً إلى مستوى غير مسبوق، فتلك أكاذيب ومبالغات. لا توجد شفافية، وليس هناك سوى الخداع. والرئيس يعمل لمصلحة حزبه''.
لكن هل يعمل مرسي فعلاً لمصلحة حزبه، بينما الأكاذيب السياسية مكشوفة، والناتج على الأرض جلي، و''البركات'' وهمية، والمحصلة معروضة على الجميع؟ الحصاد بدأ بالفعل، ومرسي الذي ''قرر'' أن يصل إنتاج القمح هذا العام إلى 9,5 مليون طن، بزيادة 30 في المائة، مقارنة بحجم الإنتاج العام الماضي الذي بلغ 7,5 مليون طن، عليه مواجهة الحقيقة، وعليه أن يصدر أوامره لوقف ''حملة البركات''، التي لن تأتي إليه إلا بالويلات. والغريب أنه لا يزال مصراً على ''قراره'' هذا، على الرغم من أن المساحات المزروعة خاضعة بالفعل للمسح الإحصائي، وفي أفضل الأحوال لن تنتج أكثر من ثمانية ملايين طن. إن إنكار رئيس دولة للحقيقة، لا يشبه بأي حال من الأحوال إنكار رجل جالس على مقهى شعبي لها.
الإنكار (كما يقول الأديب الأمريكي مارك توين) ليس نهراً يجري في مصر. والقمح لا يأتي ولا ينمو ولا يزيد ولا يتخزن ببركات مرسي، ولا حتى مرشده نفسه. بما في ذلك ''شاطره'' و''عريانه''. كما أن القمح سلعة ليست قابلة لـ''التسييس''.