(امقال خاص بجريدة " الاقتصادية")
''السارق يأسف عندما يُجَر إلى حبل المشنقة. لا يأسف لأنه سارق''
مَثَل إيرلندي
محمد كركوتــي
في مقال سابق لي نشرته تحت عنوان ''في سورية.. رهين الاقتصاد والقوة''، تناولت كيف يمكن للاقتصاد المتهاوي في سورية أن ''يقوم'' بدور المتظاهرين السلميين في البلاد، ويطيح بنظام بشار الأسد إذا لم يتمكن المتظاهرون من الإطاحة به. ورغم استنادي إلى الكثير من المعطيات والتجارب التاريخية السابقة، التي كان فيها الاقتصاد ''الثائر'' الأقوى ضد أنظمة استبدادية مشابهة لنظامي الأسد الأب والابن، إلا أني استقبلت مجموعة من الرسائل الإلكترونية، التي هاجمتني، معتبرة أن الاقتصاد في سورية ليس سيئًا ولا يسير في اتجاه الهاوية، وبعضها أشار إلى أني متحامل. وقد افترضت أن الذين عارضوني في هذا الطرح، ربما كانوا وطنيين عاطفيين جداً، لكي لا أقول عنهم شيئًا آخر. لكن العاطفة الوطنية التي لا تستند إلى الحقائق أو تحاول تغييبها، تكون بالتأكيد مدمرة لصاحبها، وللجهة التي تُرسَل إليها. فعندما أقول: إن كميات هائلة من الأموال تم تهريبها من سورية في غضون شهرين، ولا تزال عمليات التهريب مستمرة، لا دخل للأمر بالوطنية أو الخيانة أو التخريب أو الاندساس أو التآمر، خصوصاً عندما استجدى بشار الأسد في خطابه الثالث بعد اندلاع الثورة في سورية المودعين الذين يودعون مبالغ مالية لا تزيد على الألف ليرة سورية، أو ما يوازي 20 دولارًا أمريكيًا، لكي يُبقوا على هذه ''المبالغ'' في المصارف، لوقف تسلسل انهيار الليرة. هذا وحده اعتراف من أعلى سلطة في البلاد بالحقيقة التي وصل إليها الاقتصاد. وتتفق الجهات المحايدة (لا المندسة ولا المتآمرة)، على أن أمر الاقتصاد السوري بات مجهولاً، تحت ضغط الثورة الشعبية العارمة، وهروب الأموال من البلاد (لا سيما الفاسدة منها)، وإمكانية بدء سلسلة من الإضرابات العامة، تقود بالضرورة إلى مرحلة عصيان مدني، لا أحد يستطيع أن يحدد أفقًا زمنيًا له، وإن كانت نتيجتها معروفة.
والحقيقة أن الاقتصاد السوري، لم يكن قائمًا على أسس اقتصادية تقليدية أو متبعة أو حتى معروفة، ليتمكن من المقاومة وتحمل الصدمات وما ينتج عنها. كان ولا يزال اقتصادًا أُسريًا بالمعنى الضيق لمفهوم الأسرة، ولا بأس من توسيع النطاق قليلاً، ليشمل الأسر القريبة والمقربة. وهذا النوع من الاقتصادات، لا يصمد أمام أرق الأزمات، فما بالنا بثورة شعبية عارمة لم تشهدها سورية حتى في ثمانينيات القرن الماضي. ويسجل التاريخ أن الاقتصادات الأسرية، تنهار سريعًا، وقبل أن تنهار تكون أموال الأسر قد وصلت إلى ملاذات آمنة بكل الطرق. وتثبت التجارب أيضًا أنه حتى في ظل الإجراءات والقوانين العالمية الصارمة لمكافحة الأموال المنهوبة (لا سيما من الشعوب)، فإن الناهبين يمكنهم العثور على ملاذات ما. وعلى هذا الأساس، رغم الأهمية الرمزية أو المعنوية للعقوبات الأمريكية والأوروبية على أركان النظام السوري وفي مقدمتهم بشار الأسد، إلا أنها لن تحول دون هروب الأموال من سورية، ولن ينفع التعميم الجديد للإدارة الأمريكية على المؤسسات المالية الأمريكية أو تلك المرتبطة بها، بضرورة أخذ الحذر والحيطة الآن أكثر من أي وقت مضى، فيما يرتبط بتحويلات مالية سورية، بل طالبت الإدارة هذه المؤسسات بحتمية التمحيص في هذا المجال، بعد أن تلقت معلومات مؤكدة بأن الأموال المهربة من سورية تتعاظم على مدار الساعة.
ليس مهمًا التحذير الأمريكي الجديد، ولا الأوروبي إن وجد. المهم أن أكثر من 20 مليار دولار أمريكي هُربت من المصارف السورية إلى اللبنانية، أو إلى خزائن سرية في لبنان. هل للإدارة الأمريكية سلطة ما على هذه المصارف؟! الجواب هو: لا. الحق أن هذا الرقم ليس من عندي، ولا أجرؤ أن أقدم رقمًا دون مصدر أو مرجع رصين. إنه رقم جمعته مجلة ''الإيكونوميست'' البريطانية العريقة، التي أظهرت تحقيقاتها أن شخصيات سورية على لائحة اتهام المحكمة الدولية هي التي هربت هذه المبالغ الهائلة. وإذا كان ليس مهمًا تحذير واشنطن الجديد للمؤسسات المالية الأمريكية من إمكانية تسرب أموال سورية فاسدة، مسروقة، منهوبة، مختلسة (لنسمها ما شئنا) إليها، فليس مهمًا أيضًا النفي اللبناني، بأن المصارف اللبنانية لا تستقبل أموالاً مشكوكًا في أمرها. فلا تزال لأيادي السلطة السورية أمكنة في لبنان. ولنا أن نعرف أن المصارف اللبنانية تمتلك 40 فرعًا في سورية، وتستقطب أكثر من 51 في المائة من إجمالي الودائع في المصارف الخاصة، التي تمثل ثلث النشاط المصرفي هناك. وإذا كان هذا ليس مهمًا، فإنه من المضحك والمثير للسخرية أن يعلن مدير هيئة الاستثمار السورية أحمد دياب أن الحكومة السورية تعمل على إعادة الأموال المهاجرة التي تقدر بنحو 100 مليار دولار أمريكي للاستثمار داخل البلاد!! وربما لمزيد من ''الدراما'' الاقتصادية، أنقل حسب ترجمتي الشخصية لمقال ''الإيكونوميست'': ''إن الأموال المهربة من الأراضي السورية إلى اللبنانية، تُنقل عن طريق سائقي سيارات خاصة، وأن نسبة كبيرة منها تعود لكل من ـــ السيئ الصيت والسمعة ـــ ماهر الأسد شقيق بشار، وآصف شوكت صهره، ورستم غزالة ـــ أحد أكثر الموالين للنظام في سورية''. وحسب المجلة الرصينة، فإن هؤلاء السائقين يعرفون مسبقًا أنهم ينقلون هذه الكميات الهائلة من الأموال. والمضحك المبكي في هذا الأمر، أن بشار الأسد، الذي يستجدي ألف ليرة من أي مواطن سوري لإيداعها في المصارف السورية لم يمنع، أو على الأقل لم يقنن خروج الأموال الهائلة من البلاد (لا سيما الشرعية منها)، رغم محاولات بائسة ويائسة من قبل بعض المسؤولين في البنك المركزي السوري، لتحديد سقف للسحوبات.
ما تم جمعه من الأموال الهاربة من سورية ـــ حتى الآن ـــ يصل إلى 20 مليار دولار أمريكي، وهذه الأموال منها الفاسد الناتج عن عمليات استحواذ تجارية قسرية من الأفراد المقربين من أسرة الأسد، في مقدمتهم ابن خاله رامي مخلوف، الذي يسيطر على 60 في المائة من اقتصاد البلاد، ومنها ما هو شرعي، لكنه في حدوده الدنيا. فالمصارف التي وسعت نشاطاتها بصورة كبيرة في سورية منذ خمس سنوات تقريبًا، يمكلك المقربون من أسرة الأسد إما غالبية أسهمها، أو أنهم يملكونها كاملة بشكل غير مباشر. وقد دخلت فيها كميات كبيرة من الأموال في إطار تحويلها إلى سيولة شرعية (غسلها بأكبر كمية ممكنة من مواد الغسيل)، غير أن هذا لم يضمن لها النظافة لدى غالبية دول العالم، ولا سيما الدول الغربية.
لقد هربت الأموال غير الشرعية من سورية منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة الشعبية العارمة، وتحولت إلى أماكن يصعب على المراقب الدولي ـــ أيًا كان ـــ الوصول إليها. وفي الواقع، لم تدخل هذه الأموال خزانة الدولة على الإطلاق، رغم أنها منهوبة من مقدرات الشعب السوري كله. ولذلك فهي لا تؤثر سلبًا ـــ من الناحية العملية لا الأخلاقية ـــ في الاقتصاد الوطني مباشرة؛ لأنها ليست محسوبة ضمن نطاقه أصلاً. الذي يؤثر حقيقة هو هروب الأموال الشرعية من البلاد، ومع ذلك فإن تكاليف الفساد السائد في سورية، أكبر بكثير من تكاليف المشاكل الكبرى التي يواجهها الاقتصاد حاليًا. وفي كل الأحوال هي تكاليف ينبغي أن تُدفع، إذا ما أُريد للتغيير في سورية أن يتحقق.
في التاريخ، نهضت دول من بين الركام. لم ينهر الاقتصاد فيها فحسب بل لم يبقَ حجرٌ على حجر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق