الخميس، 26 مارس 2015

الاقتصاد البريطاني «أعور بين عميان»

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"حكومة المحافظين ستحافظ على الضرائب منخفضة، أكثر من تلك التي تفرضها حكومة حزب العمال. هذا الأمر جزء أصيل من مبادئ المحافظين"
وليام هيج رئيس مجلس العموم البريطاني


كتب: محمد كركوتــي

مهما لف ودار رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، فالميزانية العامة التي قدمتها حكومته الائتلافية (مع حزب الديمقراطيين الأحرار)، تبقى أكثر الميزانيات التي تستهدف الانتخابات المقبلة في أيار (مايو) المقبل، أكثر مما تستهدف من واقع اقتصادي حقيقي. فالحملات الانتخابية في بريطانيا بدأت في الواقع مبكرا إلى درجة مثيرة للسخرية. فكل الأحزاب خائفة على مصيرها الانتخابي، بما في ذلك بالطبع حزب العمال المعارض، الذي أثبت أنه يعيش حالة من التخبط، وضعفا واضحا، بصرف النظر عن نتائج استطلاعات الرأي، التي لم تعد تشكل مؤشرا واقعيا للحالة الانتخابية ككل. ولأن الأمر كذلك، فقد انغمس حزب الأحرار في المشاركة في الحكومة، مع توجهات المحافظين، في توافق اقتصادي نادر بين حزبين يفترض أنهما لا يلتقيان في ساحة السوق، ولا حتى في الساحة السياسية. إنه ليس إلا تكالب على السلطة، بصرف النظر عن تبريرات قادة الأحرار.
الوضع الاقتصادي البريطاني جيد، ليس لأنه حقق قفزات نوعية في السنوات التي أعقبت الأزمة الاقتصادية العالمية، بل لأن اقتصادات الاتحاد الأوروبي سيئة بكل المقاييس. ولذلك تلقى وزير المالية جورج أزبورن ما يستحق من السخرية، عندما شدد خلال عرضه للميزانية العامة، على أن اقتصاد بلاده تعافى مقارنة بدول أوروبية أخرى. فالمقارنة الحقة، ينبغي أن تكون مع الأكثر نجاحا، وليس مع الأكثر فشلا. ومع ذلك، يرى المنتقدون لهذه "الثقة" عند حكومة كاميرون، أن المشهد ينطبق عليه المقولة الشهيرة "أعور بين عميان". سيكون هذا "الأعور" بمنزلة "تلسكوب" فائقة الجودة والدقة وجلب المشاهد الواضحة. ليس مهما التوصيفات في الوقت الراهن، المهم، يبقى منحصرا في العوائد الانتخابية التي سيجنيها المحافظون ومعهم أعوانهم الأحرار في الشهر الخامس المقبل.
وفي كل الأحوال، لقد قدموا ميزانية مغرية، ولاسيما فيما يرتبط بتخفيض الضرائب على بعض الشرائح، ورفع الحد الأدنى للأجور بنسبة هي الأكبر منذ ثماني سنوات، وتشجيع الادخار، وزيادة قيمة الهدايا المالية المعفاة من الضرائب والمقدمة للجمعيات الخيرية، ودعم المناطق الشمالية في البلاد بصورة أكبر. وإعفاء جديد على المدخرات الشخصية. والأهم في هذا الوقت بالذات، حزمة خفض التكاليف لمكافحة انهيار أسعار النفط، ولمساعدة آلاف العاملين في هذا القطاع للإبقاء على وظائفهم. ليس مهما هنا أيضا، خفض الإنفاق العسكري. لقد تحولت المملكة المتحدة في ظل حكومة كاميرون إلى دولة داخلية جدا، أو إلى دول خارجية قليلة جدا. المنتقدون لسياسة الحكومة الحالية الخارجية، يقولون، إن ديفيد كاميرون يتعاطى مع العالم الخارجي، كمناطق لقضاء العطلات والسياحة.
من حق أي حكومة أن تقدم ميزانيات انتخابية إذا ما كانت الأجواء مناسبة لذلك. ولكن ليس من حقها أن تفترض أشياء غير حقيقية، خصوصا فيما يتعلق بالمقارنة بينها وبين بلدان الاتحاد الأوروبي. كما أن أحدا لا يمكنه أن يثق بتقديراتها للسنوات المتبقية من العقد الجاري. فهي تقول إن العجز سيتحول إلى فائض بحلول عام 2019 - 2020، وتذهب أبعد من ذلك للقول إن ذلك سيساعد على توفير 16 مليار جنيه استرليني، ستخصص لخفض إجراءات وتدابير التقشف، ولتحويل الأموال إلى خدمات! وإذا وجدت الحكومة من "يشتري" تخفيضاتها الضرائبية، فإنها لن تعثر بسهولة على "مشتر" لتقديراتها الخاصة بالسنوات المقبلة. هناك استحقاقات كثيرة أمامها، كما أنها تواجه أيضا مشكلات ناتجة عن الأزمات العامة في الاقتصاد العالمي ككل. ولهذا السبب عليها أن تركز على ما قدمته، وليس ما ستقدمه.
تتمتع الحكومة الائتلافية الراهنة بوضعية ليست ضعيفة، ذلك أن وضعية حزب العمال ليس في المستوى الذي يمكن أن يشكل تهديدا قويا أو حاسما. وحتى لو حقق العمال نتائج أفضل من المحافظين في الانتخابات المقبلة، إلا أنهم (كما تبدو المؤشرات) لن يتمكنوا من تشكيل حكومة بمفردهم، عليهم اللجوء إلى "المحلل" التاريخي حزب الديمقراطيين الأحرار، الذي قبل أن يتناغم (بصورة أو بأخرى) مع حزب لا تجمعه معه قواسم مشتركة، في حين أن هناك الكثير من التطابق مع حزب العمال. وأيا كانت نتائج الانتخابات العامة المقبلة، لن تكون الأوضاع الاقتصادية للبلاد جيدة كما يسوق المحافظون، وهي ليست سيئة كما يروج العمال أيضا. إنها الأفضل بين الأسوأ.
يحارب المحافظون حزب العمال على جبهة الاقتصاد، وهي الجبهة الأولى لأي حزب في العالم الغربي، لأنها ترتبط بالناخب مباشرة، بل ملتصقة به. وعلى هذا الأساس، لا تمثل السياسات الخارجية قضية انتخابية للناخب البريطاني، ولكن في الوقت نفسه لا يتوقف عن طرح التساؤلات عن نفوذ بلاده خارجيا، وحول مكانة بريطانيا على الساحة الدولية. نقول مكانة بريطانيا؟! لنسأل الولايات المتحدة عنها. ولكيلا نبتعد كثيرا جغرافيا، لنسأل حكومة أنجيلا ميركل الألمانية عن هذه المكانة. لدى واشنطن وبرلين الجواب الحق.

السمنة المعولمة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«يمكن أن تكون سمينا، وتحب نفسك. ويمكن أن تكون سمينا بشخصية عظيمة. ولكن لا يمكن أن تكون سمينا وبصحة جيدة».
سوزان بوتر متخصصة أسترالية في الصحة الغذائية


كتب: محمد كركوتـــي

لا تتوقف الحكومات في البلدان الراشدة، عن التحرك في مجال التوعية الصحية. وهي تقوم بحملات مستمرة تشمل كل شيء يرتبط بالصحة الشخصية والعامة. من الأمراض المنتشرة المعروفة، إلى تلك الكامنة، إلى السمنة المفرطة في غالبية بلدان العالم، التي أصبحت مع الوقت، ومن فرط انتشارها، أزمة اقتصادية للموازنات العامة. ومنذ سنوات طويلة، بدأت البلدان الأكثر تقدما تنظر إلى هذا النوع من السمنة كمرض لا بد من علاجه، ليس فقط لخفض معدلات السمنة، بل للحيلولة دون انتشار مزيد من الأمراض التي يعانيها أصحاب الأوزان الثقيلة. الضغط، السكري، القلب، الكولسترول، وغيرها من الأمراض التي باتت معروفة للجميع، وأصبحت معلومة حتى في أوساط الشرائح غير المتعلمة بل الأمية أيضا.
يقول الممثل الكوميدي الأمريكي الراحل رودني دانجيرفيلد، في خضم سخريته الدائمة "إذا أردت أن تشعر بأنك نحيف الجسم، ما عليك إلا أن تصاحب البدناء". وهذا يقابله تقريبا التعبير الذي يستخدمه العرب "الذي يرى مصيبة غيره، تهون عليه مصيبته". أي أنك في هذا المشهد ستكون صاحب الجسم الرياضي الأمثل، بصرف النظر عن حجم الزيادة في الوزن لديك. لم تعد في غالبية دول العالم قضية البدانة خاصة أو فردية. كما أنها لم تعد مادة لإطلاق النكات، لأنها ببساطة مسألة خطيرة، على الفرد والمجتمع، ولأن نتائجها بالضرورة سيئة. وفي زمن التقتير الاقتصادي، الذي يطلق عليه"كسادا" أو "ركودا"، يتم وضع كل القضايا المرتبطة بالاقتصاد على الطاولة، بما فيها تلك التي تكون عادة في الأدراج، أو خارج السياق الاقتصادي العام.
ولأن الأمر خطير، تقوم المنظمات الدولية المختلفة بإعداد تقاريرها حول مسألة البدانة، وتقدم دائما حلولا، وتطرح توصيات من أجل احتوائها. وانضمت أخيرا إلى قائمة هذه المنظمات، منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "الفاو"، التي اعتبرت أن المسألة وصلت إلى مستوى أكثر من خطير، وأن على حكومات البلدان المختلفة أن تتقدم بقوة على هذا الصعيد، لاحتواء ما يمكن احتواؤه. وحجم الخسائر الناجمة عن أمراض السمنة الذي توصلت إليه "الفاو" استنادا أيضا إلى تقارير من معهد "ماكينزي العالمي"، صادم للغاية، لأن الخسائر على المستوى العالمي تقدر بـ 1.4 تريليون دولار. وتمضي أبعد من ذلك، عندما تؤكد، أن ارتفاع مخاطر البدانة عالميا يكبد العالم نحو تريليوني دولار سنويا! وقد استندت هذه التقارير، إلى حسابات تأخذ الأبعاد التراكمية للمشكلة في العالم، وآثارها المتشعبة التي تضر بالناتج الاقتصادي.
لا توجد دولة من بلدان العالم، بما فيها تلك التي حققت بعض التقدم في مجال الثقافة الصحية، خارج هذه النتائج. والمثير، أن معدلات السمنة ترتفع بصورة كبيرة في البلدان الأكثر ثقافة صحية، وهي في غالبيتها تتمتع بمستويات معيشية مرتفعة مقارنة بغيرها. وعلى هذا الأساس، يمكن ببساطة أن نطلق مجازا على السمنة العالمية في الوقت الراهن أنها "السمنة المعولمة". فإذا لم تستفد كل دول العالم من العولمة التي سيطرت على الساحة حتى انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، فها هي السمنة "تعولم". أي أنها نشرت قيمها في مسألة خطيرة، أو لنقل في أزمة متصاعدة. وهي كذلك بالفعل، لأن "عداد" البدناء لم يتراجع أو يهدأ طوال العقود القليلة الماضية، في حين أن "عداد" المال لدى الحكومات يزيد أيضا بصورة طردية.
وعلى هذا الأساس، يمكن أن يعاد طرح مسألة السمنة وآثارها الخطيرة من الزاوية الاقتصادية فقط، طالما أن التوعية الصحية والإرشادات لم تحقق شيئا إيجابيا. يضاف إلى ذلك، أن حكومات العالم تواجه مشاكل اقتصادية تعود إلى عام 2008 عندما انفجرت الأزمة العالمية. وقد بلغت حدة الأمر، أن اقترح بعض السياسيين سن قوانين تفرض ضرائب على الأطعمة التي تحتوي على معدلات كبيرة من المواد غير الصحية، وتحديدا الدسم والسكر. واقترح هؤلاء أن تستهدف الضرائب بداية المنتجات الغذائية التي تستقطب الأطفال وصغار السن عادة، على أن يتم تعميمها على كل المنتجات في وقت لاحق. إلى جانب مقترحات، بمنع الإعلانات التجارية لهذا النوع من المنتجات، تماما كما هو الحال بالنسبة للسجائر والتبغ.
لـ "تعولم" فعلا الهيئات التابعة للأمم المتحدة هذه القضية المتفاعلة، وتطرح مشاريعها العامة التي تخدم الهدف الأهم، وهو تقليل نسبة البدناء حول العالم، الحماية الصحية لهم أولا، ولتخفيف أعباء الإنفاق على معالجة أمراض السمنة المختلفة على كاهل الموازنات العامة، لا شك أن المسألة ليست سهلة، بدليل أن حكومات في دول متقدمة تواجه الفشل تلو الآخر بهذا الخصوص. نظرة واحدة إلى تدفق الناس في شارع في إحدى المدن الأمريكية، يمكن أن تعطي صورة واضحة لهذا الفشل القديم المتجدد. والأمر نفسه تقريبا، في المدن الغربية الأخرى. إن الأموال المهدرة بسبب السمنة، يمكن أن تخلق اقتصادا هائلا، ولا سيما عندما ينتقل "عداد" الخسائر من مئات الملايين إلى التريليونات.

قذارة العقارات البريطانية في أموالها

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«مليار هنا ومليار هناك، قريبا سوف تتحدث عن مال حقيقي جدا»
إيفريت ديريكسين سيناتور أمريكي


كتب: محمد كركوتـــي

يقول مايكل بارينتي المؤرخ والأكاديمي الأمريكي "الأرباح، هي تلك التي تجنيها دون أن تعمل". وهذا ينطبق إلى حد بعيد على مالكي الأموال القذرة، وينطبق بإحكام على أولئك الذين ضخوها بكميات هائلة في قطاع العقارات البريطانية. وحول القطاع المذكور صمت رهيب، وإن تخلله بعض الهمس هنا أو هناك، ولا بأس من تصريح لجهة غير حكومية، و"غمزات" من جهات بريطانية وغير بريطانية. غير أن ذلك لن يكسر الصمت بصورة تتضح فيها الحقيقة، بل لنقل بشكل تنفتح فيه كل الملفات. وهي ملفات كثيرة ومتضخمة، تماما كما تضخم الأموال ذات الصلة، بالعقارات التي تقتنصها. إنها عقارات من تلك التي لا يمكن لشخص عادي (حتى ولو تمتع بدخل شهري جيد) أن يفكر في امتلاك شقة منها، وتحديدا في النطاق الداخلي للندن.
تكاد العقارات البريطانية التي يتم شراؤها بالأموال القذرة، تشبه الخزائن المشينة التي تتلقف كل دولار قذر، وكل يورو فاسد، وكل فرنك سويسري ملوث، وكل العملات المنهوبة. الحكومة البريطانية، وتحت الضغط المحلي، تفكر في فرض ضرائب على العقارات التي يزيد سعر الوحدة منها على مليوني جنيه استرليني. وكذلك يعتزم حزب العمال المعارض، إذا ما نجح في الانتخابات العامة التي ستجري في أيار (مايو) المقبل، وسط تقارب شديد في مكانة الحزبين الرئيسين انتخابيا، لكن في الواقع هذا لا يهم أيا من مالكي العقارات. لماذا؟ لأن الذي يمتلك عقارا بهذه القيمة يمكنه أن يدفع، دون أن يتأثر، أي مبلغ مطلوب كضريبة، كما أن الأموال نفسها، ليست أمواله في الواقع، لأنه حصل عليها سرقة وسطوا وتهريبا. حصل عليها بكل الطرق غير الشرعية. فماذا يضيره فيما لو فرضت عليه ضريبة صغيرة؟!
إن القضية بحالتها الواقعية، لا علاقة لها بضرائب تعلنها الأحزاب بقصد جلب الأصوات، بل بأموال قذرة إلى حد مخيف. أموال باتت واضحة للعيان، كما وضوح العقارات نفسها. ولهذا السبب أقدمت منظمة الشفافية العالمية أخيرا على إطلاق تحذير للحكومة البريطانية، لكي تقوم بتحرك ما بهذا الصدد. ولم تترك المنظمة الأمر للحكومة، بل قدمت لها خطة عمل، للحد من تدفق الأموال القذرة إلى عقارات البلاد. وهي تعتمد أساسا على إلزام الشركات الأجنبية التي تشتري العقارات، بالإعلان عن ملاكها الحقيقيين. والهدف من هذه الخطوة، هو تقليل استخدام هذه الأموال في شراء العقارات. نعم في بريطانيا يمكن أن تشتري عقارا بمائة مليون جنيه، دون أن يعرف أحد هويتك الحقيقية. لماذا؟ لأن هؤلاء يشترون العقارات بأسماء شركات وهمية مسجلة في بلاد وراء أعالي البحار، وبالأصح في أنصاف دول.
وفي بلد يعتمد النظم الرسمية في التعاملات منذ قرون، يمكن شراء العقار نقدا! ولهذا السبب ترى المنظمة ضرورة منع الشراء النقدي، وأن يتم ذلك عن طريق المصارف والتحويلات المصرفية المتبعة. ولمزيد من السخرية، فإن الشرطة البريطانية أجرت تحقيقات خلال السنوات العشر الماضية، في صفقات عقارية لا تزيد قيمتها عن 180 مليون جنيه استرليني، في حين هناك عقارات في قلب لندن وصلت قيمة الوحدة منها إلى أكثر من 200 مليون جنيه! أي أن الشرطة كانت ربما تتبع أصغر أصحاب الأموال القذرة، ولم تقترب من أولئك الذين ينقلون المليارات إلى داخل بريطانيا. مهمة تعقب الأموال ليست سهلة، ولكنها أيضا ليست من الصعوبة بحيث لا يتم ضبط نسبة مقبولة على الأقل للجهات التي تسعى إلى الحد من تحرك الأموال المشار إليها.
والأمر برمته بات واضحا للجميع. فعلى سبيل المثال، إن أغلب مالكي العقارات الفارهة المشبوهة في بريطانيا، يأتون من شرق أوروبا ومن روسيا. دون أن ننسى أن نسبة متعاظمة من هؤلاء تأتي بزخم كبير من بعض بلدان آسيا. وكما هو معروف، فإن غالبية البلدان المشار إليها، تعج بمستويات من الفساد اللامحدود. أي أن التحقيق يمكن أن يبدأ ببساطة وفق جنسية المالك، لإثبات أن أمواله نظيفة. وإذا كان من الصعب متابعة الشركات المسجلة في أنصاف الدول، يمكن أيضا وببساطة متابعة مالكيها الحقيقيين، الذين أثبتت الإحصاءات أنهم يفضلون العيش في بريطانيا، عن غيرها من بلدان العالم. أي أن المسألة ليست معقدة كما قد يظهر للوهلة الأولى.
نحن لا نتحدث هنا عن مالكي الأسهم من الأجانب. وتكفي الإشارة هنا إلى أن الإحصاءات الرسمية البريطانية أظهرت أخيرا، أن الأجانب يملكون أكثر من نصف الأسهم البريطانية التي يصل حجمها الإجمالي إلى 1.76 تريليون جنيه. ليس أمام السلطات البريطانية المندمجة مع نظيراتها الغربية في محاربة الفساد وملاحقة الأموال القذرة، إلا أن تبدأ المهمة في عقر دارها. لقد أظهرت المعلومات المتداولة (على سبيل المثال) أن نسبة كبيرة من أموال المسؤولين الحاليين والسابقين في بلدان فقيرة، تقبع في بريطانيا. وهي بلا أدنى شك منهوبة من شعوب تحتاج إلى دولار لتعيش يومها.

الطعام المهدر أرقام صادمة فقط

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





"هناك بشر في هذا العالم يتضورون جوعا. الرحمة لا تظهر لهم إلا على شكل قطعة خبز"
مهاتما غاندي الزعيم الهندي الراحل

كتب: محمد كركوتـــي

لا تتوقف المعلومات المفجعة الخاصة بهدر الغذاء على المستوى العالمي دائما هناك إحصائيات جديدة مرعبة، وأرقام مخيفة، وحقائق صادمة، حتى لدى أولئك الذين ينتمون إلى شريحة المتابعين والمهتمين بمثل هذه القضايا. لقد أضحى هدر الطعام نفسه اقتصادا تذهب عوائده إلى المزابل، لاسيما أن الهدر يشمل كل بلدان العالم دون استثناء، بما فيها تلك التي وصلت إلى مراحل متقدمة من "الرشد"، وتتمتع بمجتمعات أكثر وعيا من مثيلاتها في مناطق أخرى. ولذلك، يمكننا القول إن هدر الغذاء يكتسب صفات العولمة من جهتها السلبية ومن المفجع حقا أن البلدان التي ارتقت في مجال الحفاظ على الغذاء، لا تزال دون المستوى الذي يضعها في قائمة "غير الهادرين" علما بأن هذه القائمة لا تزال خاوية من أي دولة.
المنظمات الدولية والمختصة، بما فيها تلك التي تنتمي إلى شرائح الكيانات غير الربحية، فشلت تماما في جعل الأمور تتحسن، على الرغم من كل ما تبذله من جهود وتنفقه من أموال على جعل هذه القضية ماثلة على الساحة دائما فهي تعلم (كما العالم أجمع)، أن هدر الغذاء، لا يسبب خسائر مالية لمن يهدرونه فحسب، بل يعتدي على حق أمم تحتاج إلى الغذاء حقا ولذلك يمكن أن نفهم أهمية وعمق ما قاله بابا الفاتيكان فرانسيس يوما "عندما تهدر الطعام، كأنك تسرق من الفقراء". صحيح أنك تشتري هذا الغذاء من مالك الخاص، لكن الصحيح أيضا أنك تهدره بصورة يمكن أن يستفيد منها محروم هنا وجائع هناك، والحق، أنه حتى في البلدان المتقدمة تزداد شرائح الذين يستفيدون مما يعرف بـ "بنوك الطعام"، خصوصا في أعقاب الأزمات الاقتصادية التي شهدتها -ولا تزال- هذه البلدان دون أن ننسى، المعونات الحكومية الغذائية التي توفر لهذه الشريحة المتعاظمة.
بعد المنظمات التابعة للأمم المتحدة، لاسيما منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، وبعد عدد كبير من المنظمات الخيرية الأخرى، تؤكد مجموعة بحثية تابعة للجنة العالمية للاقتصاد والمناخ التي يرأسها الرئيس المكسيكي الأسبق فيليب كالديرون، أن تقليص مستويات هدر الغذاء من جانب المستهلكين، قد يوفر للاقتصاد العالمي ما يصل إلى 300 مليار دولار سنويا بحلول عام 2030 وتقول المجموعة نفسها، إن قيمة الهدر الغذائي على مستوى العالم تبلغ 400 مليار سنويا، وإن هذا الرقم قد يقفز إلى 600 مليار دولار في الأعوام العشر المقبلة ومن النتائج الصادمة بالفعل، أن خفض حجم الأغذية التي يتخلص منها المستهلكون ما بين 20 و50 في المائة، قد يوفر ما بين 120 و300 مليار دولار بحلول العقد الثالث من القرن الجاري. أمام هذه الحقائق، تفيد الإحصائيات الدولية، أن أكثر من 805 ملايين نسمة يذهبون إلى النوم كل يوم وهم جوعى!
ومن ضمن المشكلات التي تعج بها هذه القضية، عدم الوصول إلى استراتيجية (وليس نشاطات تقوم بها جماعات ومؤسسات خيرية) ضمن البلدان المتقدمة، لأن هذه الأخيرة تتمتع بالفعل بكل المقومات اللازمة لوضع الاستراتيجية وتنفيذها بصورة عالية الجودة، وطبقا للمفوضية الأوروبية، فإن ما يزيد على 100 مليون طن من الطعام تم هدره في العام الماضي فقط، وتعتقد المفوضية أن هذا الحجم الهائل من الطعام المهدر سيصل إلى 126 مليون طن سنويا بحلول عام 2020! وعلى الرغم من ذلك، لا توجد سياسة أوروبية ناجعة للحد من الهدر، سواء عن طريق التشجيع أو التنظيم الشامل، أو من خلال غرامات أو رسوم أو ما شابه ذلك فالبلدان الأوروبية تعج بالرسوم من كل الأنواع، بما فيها تلك التي تعتبر رسوما غريبة في بلدان العالم الأخرى.
تقدم وكالات الأمم المتحدة والجمعيات غير الربحية في العالم كثيرا من النصائح والإرشادات لتقليل هدر الطعام وهي مفيدة للغاية، وتؤدي حتما لخفض الهدر وتوفير المال الناجم عن الهدر المشار إليه وأقامت هذه الوكالات بوابات إلكترونية بهذا الخصوص، لكن (مرة أخرى) لم يتضح بعد مدى فاعليتها وإذا ما استندنا إلى الحقائق والأرقام التي تظهر دائما فإننا نخلص إلى نتيجة أن هذه البوابات لم تثبت فاعليتها بعد ويبدو واضحا، أن الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك على المدى البعيد، خصوصا في ظل تزايد كبير لمنسوب الهدر الغذائي وإذا كانت نسبة الذين يعيشون في البلدان الصناعية القادرة على الوصول إلى الإنترنت عالية جدا مقارنة ببقية بلدان العالم، تكفي الإشارة هنا، إلى أن الأمم المتحدة قدرت هدر الطعام في البلدان الصناعية بنسبة 40 في المائة !
ستظهر كثير من الأرقام الصادمة في هذا الصدد في المستقبل ولن تتوقف وبالنظر إلى الحراك العام، فإن العالم سيظل يراجع هذه الأرقام ويعبر عن صدمته، ليستكمل بعدها سلوكياته في التعاطي مع الغذاء الذي ينفق عليه ويستهلكه. إن الأمر بات (منذ زمن بعيد) خطيرا حيث تجاوز مرحلة الإرشادات والنصائح، ويتطلب خطوات وقرارات فاعلة، وآليات تنفيذ توازيه فاعلية.