الثلاثاء، 27 أغسطس 2013

إنهم يحبون أن يكرهوا المصارف

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






''من الأفضل ألا يعرف الناس كيف يعمل النظام المصرفي. إن عرفوا ستكون هناك ثورة في صباح اليوم التالي''
هنري فورد الصناعي الأمريكي



كتب: محمد كركوتـــــي

كأن الرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون يتحدث عن يومنا هذا أيضاً، حين قال قبل أكثر من قرنين من الزمن ''إن المؤسسات المصرفية تشكل خطراً داهماً على الحريات، أكثر من الجيوش المحتشدة''. قليلون ونادرون أولئك الذين يحبون المصارف. ويمكن القول، إنه لم يظهر (إلى الآن) من تغنى بها، أو على الأقل من لا ينتقدها أو من لا يهاجمها. بعد جيفرسون بمائة عام تقريباً، قدم الأديب الأمريكي الشهير مارك توين توصيفاً ساخراً على طريقته المعهودة، وعميقاً في دلالاته. ماذا قال؟ ''المصرفي هو الشخص الذي يقرضك مظلة في الأيام المشمسة، ويطالبك بها في اللحظة التي تبدأ فيها الأيام الممطرة''. وبعد توين بمائة عام أخرى، كان الكوميدي الأمريكي المعروف بوب هوب أكثر عنفاً، عندما قال ''المصرف هو المكان الذي يقرضك الأموال، بشرط أن تثبت أنك لست بحاجة إليها''. لا أصدقاء مخلصين للمصارف والمصرفيين. فحتى أولئك الذين يستفيدون منها، ينظرون إليها بعين الريبة المستدامة. على طريقة ''أحب أن أكرهك''، أو ''أكره من يحبك''.
احتاجت الحكومات في العالم لفترة طويلة لوضع قواعد للسيطرة على المصارف وألاعيبها. ولولا انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية قبل خمس سنوات، لكان ''الحفل الراقص'' بين الطرفين (الحكومات والمصارف) متواصلاً. فآثام المصارف لم تكن نتاجها وحدها، رغم أنها لا تحتاج إلى منتِج مساعد في هذا المجال. كانت الحكومات تقف إلى جانبها ظالمة أو مظلومة، مع التأكيد على أنها لم تُظلَم، منذ تأسيس أول مصرف في التاريخ (يقال إن أول مصرف كان في بلاد ما بين النهرين). المصارف تفعل كل شيء لتكديس ''الدشم'' المالية في خزائنها. هي لا تُقرض من لا يحتاج القرض فقط، بل تقوم بفرض تكاليف عالية على المقترض وحتى المودع أيضاً. دون أن ننسى أنها تملك أكبر ''المصابغ'' لماذا؟ لـ ''الغسل والكي والتعليق''. في الأشهر القليلة الماضية، دفعت مصارف كبرى مثل ''إتش إس بي سي'' و''ستاندارد تشارترد''، و''باركليز'' ومجموعة لويدز البريطانيتين، و''كريدي سويس'' السويسري، و''آي إن جي'' ومجموعة إيه بي إن أمرو في هولندا، إلى آخر السلسلة.. دفعت مليارات الدولارات غرامات على مخالفات، وتبييض أموال كل شيء، المخدرات، الاتجار بالبشر، المنظمات الإرهابية، والنهب من الشعوب. ولعل العار الأكبر، أن عدداً كبيراً من المصارف الكبرى، استخدمت هذه الأموال القذرة في محاولة إنقاذ نفسها من الأزمة الاقتصادية.
الحكومات في العالم الغربي، وجدت أخيراً أن العار الكلي للمصارف، ينسحب عليها هي نفسها. وفي أعقاب الأزمة، بدأت بوضع تشريعات جديدة، تأخرت في تطبيقها لسبب واحد فقط، هو أن المصارف (رغم المصائب التي أوقعتها الأزمة فيها)، ظلت تمتلك بعض أسلحة المقاومة، لأي قوانين تستهدفها. ومع الضغوط الشعبية - الانتخابية في العالم الغربي، صعدت الحكومات من تحركاتها ليس فقط لإقرار الأنظمة الجديدة، ولكن أيضاً لتنفيذها بأسرع وقت. فالمبررات انعدمت، والحجج انتهت، والأكاذيب نفدت. تريد الحكومات (خصوصاً الإدارة الأمريكية)، أن تعزز صلابة المصارف في حال نشوب أزمة مالية جديدة، من خلال تطبيق قواعد تنظيمية مختلفة، أُطلق عليها اسم ''بازل 3''. ورغم أن مثل هذه القواعد ستعزز وضعية المصارف، بما في ذلك الترفيع في الحد الأدنى من رأس المال، إلا أن المديرين لا يزالون يقاومون. فالقواعد التنظيمية الجديدة، تعني رقابة أكثر تشدداً على أداء المصارف، الأمر الذي يقيد التسيب التاريخي في هذه المصارف. والتسيب في النهاية يعني العمل بأقل قدر من الضوابط، وأدنى مستوى من الأخلاقيات.
على الجانب الأوروبي، بدأت المفوضية الأوروبية التحضير لإطلاق سلسلة جديدة من الأنظمة التي تختص بما يعرف بـ ''مشتقات الائتمان''. وهذه الأخيرة، تمثل بالفعل أرقاً دائماً للسلطات. فعملية نقل مخاطر القروض من جهة إلى أخرى، تُحدث ''تشوهات'' مصرفية. وحين تنفجر أزمة، يهرع المصرفيون إلى الحكومات. إن نقل المخاطر في حد ذاتها عملية فيها من المخاطر الكثير. وفي كل الأحوال، تتضمن الإجراءات التنظيمية الجديدة، وتلك التي ستفرض لاحقاً، عقوبات واضحة على المصارف التي تخالفها، وهذا ما لا يريده أي مصرفي في هذا العالم. فالمصرفيون الذين يجمعون الأموال بكل طريقة ممكنة وغير ممكنة، يسعون في الوقت نفسه، إلى تطويع ما أمكن القوانين العقابية، فكيف الحال بقوانين جديدة، لن تكون رحيمة!
التوجه الغربي الجديد بشأن المصارف، يأتي في الواقع في نطاق حماية كل الأطراف، بما فيها المصارف نفسها. كما أنه يأتي (ولو متأخرا) في سياق ''اعتذار'' كان مطلوباً، على أخطاء الحكومات التي انفجرت في ظلها الأزمة الاقتصادية العالمية. اعتذار للشعوب التي تعرضت للسرقة والتضليل والاحتيال من هذه المصارف، لكنها (يا للمفارقة) كانت المنقذة الوحيدة لها! فكل عملية إنقاذ جرت لمصرف، كانت في الحقيقة، عملية تأميم مؤذية. لأن كل ما أُمم من المصارف كان ركاماً. لقد اشترت الشعوب الممولة للحكومات، ديونها مرة أخرى!

الخميس، 22 أغسطس 2013

إيران.. استدامة الأكاذيب الاقتصادية بدلاً من اقتصاد مستدام

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




 " عليك ألا تروع الناس، وفي نفس الوقت عليك ألا تضللهم"
سير ديفيد أتينبرة منتج برامج وثائقية بريطاني



كتب: محمد كركوتي
لم تكن حكومة أحمدي نجاد في إيران، منذ وصولها إلى الحكم، وحتى اليوم الأخير لها في السلطة، سوى ''مصنع'' للأكاذيب، ينتِج ''السلع'' وفق صورة لا تنحرف للحظة في تطابقها مع متطلبات ''السوق''. ولأن الأمر كذلك، فقد ابتكرت هذه الحكومة، ما يمكن تسميته بـ ''أكاذيب استباقية'' إلى جانب الأكاذيب المتجددة. كما أنها كانت تحضر الأكاذيب، لمواجهة استحقاقات محددة وواضحة. ويضم ''مصنع'' حكومة نجاد سلسلة متعددة من خطوط ''الإنتاج''، السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحلية، إلى جانب خطوط إنتاج مخصصة للتصدير.. دولية وإقليمية وعربية ونووية وتخريبية. ولأنها كانت ''مباركة'' من المرشد الأعلى علي خامنئي، كان إنتاجها وافراً، يتماشى مع التبريكات العليا، ويتماهى مع المقدمات المطلوبة لظهور المهدي الفالت، الذي لم يتم العثور عليه حتى الآن!
ورغم أن الحكومات الإيرانية التي سبقت حكومة نجاد، لم تكن بمنأى عن سياسة التضليل والأكاذيب، ولاسيما فيما يرتبط بضوابط التُقية الصارمة، إلا أن الحكومة الأخيرة تجاوزت كل الحكومات في ذلك، خصوصاً على الصعيد الداخلي، و''تفننت'' بالأكاذيب في المجال الاقتصادي المحلي، الذي يمس المواطن الإيراني مباشرة. فلم تقدم تقريراً صحيحاً واحداً عما يحدث في اقتصاد البلاد، على مدى ثماني سنوات. وقد بلغت فداحة الأمر، أن امتنع حتى المصرف المركزي الإيراني لسنوات عن إصدار بيانات تتعلق بالنمو والتضخم والبطالة والفقر وارتفاع الأسعار والاحتياطي من القطع الأجنبي. وانضمت إليه مؤسسات محلية فضلت أيضاً عدم التعاطي بالتقارير الاقتصادية الواجبة، تجنباً لأية مواجهة حتمية مع حكومة نجاد، وأركانها الذين اعتقدوا أن للأكاذيب استدامة، وأعفوا أنفسهم من واجب العمل لـ ''اقتصاد مستدام''، أو على الأقل لاقتصاد قابل للنمو، كي لا نقول: الازدهار. وفي الوقت الذي كان يتوجب عليها فيه أن تعلن الحقائق كما هي، خصوصاً مع وجود بعض المبررات للأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تعيشها البلاد، بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليها، فضل نجاد إنتاج الأكاذيب وتسويقها وتصديرها!
في الأيام الأولى لتسلم حسن روحاني مقاليد الحكم في إيران، تلقى رسالة من تجمع خبراء الاقتصاد المحلي، يمكن ببساطة أن يكون عنوانها ''انتبه من أكاذيب نجاد''. الرسالة تحذر الرئيس الجديد، من الأوضاع الاقتصادية التي ورثها عن حكومة سلفه، ويتهم أصحابها هذه الحكومة بالكذب والتلاعب بالأرقام والإحصاءات الاقتصادية، لتحقيق هدف واحد، وهو تضليل الرأي العام. ويهتم ''تجمع خبراء الاقتصاد'' بالدرجة الأولى، في ضرورة عدم وضع برامج وخطط اقتصادية تستند إلى التقارير والإحصاءات التي أصدرتها الحكومة السابقة. ولحل هذه المشكلة، فقد وجد هؤلاء ''أهمية الاستعانة بالتقارير الاقتصادية التي صدرت عن جهات اقتصادية مستقلة خارج إيران، لإنقاذ الاقتصاد الإيراني المريض''. والحقيقة أن مثل هذا الأمر لا يحدث إلا في الدول المارقة التي تتغير فيها الحكومات. هذا إن تغيرت فعلياً.
ولعل من أهم النقاط في هذه الرسالة، التحذير من وقوع حكومة روحاني في فخ الأجواء الدعائية التي نشرتها حكومة سلفه. وهذا لا يعني أن قيام الرئيس الجديد بعرض الحقائق كما هي، سيؤدي الغرض ويحقق الهدف، بل عليه العمل من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من اقتصاد على وشك الانهيار. وهنا تكمن المصيبة. فحتى لو افترضنا أن روحاني عازم بالفعل على محاولة الإنقاذ، فإنه لن يحقق شيئاً في هذا المجال، إذا لم يحصل على ''تبريكات'' خامنئي، الذي يعيش في عالم يتصادم (في الواقع) مع الواقع! ولمرشد ''الثورة'' مشاريع سياسية- اقتصادية خارجية تخريبية، تعطل منذ سنوات أي مشاريع محلية تهدف إلى احتواء التداعيات المتواصلة على الساحة. والحقيقة.. المثل الشعبي المعروف ''ما يحتاجه البيت يحرم عن الجامع''، هو عند خامنئي بالمقلوب!
يقدم خبراء الاقتصاد في إيران مجموعة من الآليات والاستراتيجيات لمواجهة المحنة الاقتصادية في بلادهم، بما في ذلك استقلالية البنك المركزي، وإجراء إصلاحات في السياسات المالية، يكون محورها، أهداف اقتصادية شاملة، وإحياء دور وزارة المالية، ووضع ضوابط وقوانين صارمة من أجل تسهيل تطبيق الآليات والسياسات الضريبية في البلاد. ويعتقد هؤلاء، أن هذه الآليات هي الوحيدة التي يمكن أن تحقق شيئاً إيجابياً في المرحلة المقبلة. خصوصاً أنها ستصنع شيئاً مع التضخم، وستمنع حدوث هبوط مفاجئ للعملة. غير أن هذا كله، يظل في النطاق النظري، في بلد يحتكر فيه الكلمة الأخيرة ''مرشد''، ليس قابلاً لفهم حقيقة ما يجري، لأنه ليس مستعداً للاعتراف بما يجري! فكل الآليات والمخططات تبقى بلا قيمة.
في إيران اليوم.. لو كان رئيسها في السلطة وليس في الحكم فقط. هناك حل بسيط جداً للعديد من الأزمات الاقتصادية التي تعيشها، لا يكلف شيئاً يذكر، وهو أن يقوم الرئيس الجديد بدراسة متأنية للمخططات الاقتصادية التي أطلقها سلفه أحمدي نجاد، وينفذها بالعكس. لكن السؤال يبقى هو.. هو، هل يقبل خامنئي (منتظِر المهدي) بذلك؟! الجواب بسهولة الحل نفسه. لا.

السبت، 17 أغسطس 2013

ألمانيا تنجح بعدم «فزلكة» اقتصادها

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«يجب علي ألا أقلق من الألمان. لقد انتصرنا عليهم مرتين في قرن واحد»
مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة


كتب: محمد كركوتي

كان من الطبيعي أن تتقدم ألمانيا، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدول الأوروبية التي أغرقتها أزمة العام 2008، والتي تعمقت فيها الأزمات الاقتصادية المرتبطة بصورة مباشرة أو غير مباشرة. لا أحد (بالطبع) يملك قدرة ألمانيا على الإنقاذ، بصرف النظر عن الذل والمهانة الألمانية للطرف الخاضع للإنقاذ. لقد بلغت مشاعر الإهانة حداً دفع بعض أولئك الألمان الذين لا يزالون يعيشون أحلام قوة زالت (بل واندثرت)، إلى الدعوة لاحتلال دولة كاليونان، طالما أن هذه الأخيرة خاضعة لخطة الإنقاذ الأوروبية. وهذه الخطة (بصرف النظر عن أي اعتبارات) هي ألمانية أكثر منها أوروبية. ولولا ألمانيا، فإن بقية الدول الأوروبية الكبرى، وفي مقدمتها فرنسا، لا يمكن أن تطلق خطة إنقاذ عملية وواقعية. ألمانيا في القرن العشرين تسببت في تدمير أوروبا مرتين، لكنها الآن هي المنقذ المثالي لقارة ستظل تعيش تحت ''صواريخ'' الأزمة الكبرى، لأجل ليس قصيراً.
لا يمر يوماً إلا ويطرح السؤال التقليدي. لماذا تمكنت ألمانيا من تحقيق تقدم وازدهار اقتصادي حتى في عز الأزمة؟ وطبعاً هذا السؤال يجر معه أسئلة أخرى، على شاكلته، هل إيطاليا وإسبانيا واليونان (على سبيل المثال) ضعيفة إلى هذا المستوى؟ غير أن السؤال الأهم يبقى هو.. هو، ما هذا ''السر'' الألماني؟! وبالطبع يظهر سؤال آخر على الساحة فوراً. هل تستطيع ألمانيا المضي إلى ما لا نهاية بهذا الزخم الاقتصادي النادر في التاريخ الحديث؟ أين أصابت ألمانيا، وأين أخطأت دول مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها؟ الأسئلة كثيرة، والأجوبة لا تحتاج إلى كبير عناء للوصول إليها. لقد باتت الساحة الاقتصادية العالمية (بعد الأزمة) مكشوفة إلى حد الفضيحة. لا أسرار في هذا العالم، حتى وإن مارست الولايات المتحدة ثقافتها التجسسية، ليس على الأصدقاء فحسب، بل على ما هو مكشوف حقاً!
على كل حال، من بين أسباب الصمود الاقتصادي الألماني، والنجاحات المتتالية حتى في عز ضربات الأزمة، أن الحكومات الألمانية المتعاقبة بعد هزيمة بلادها في الحرب العالمية الثانية، لم ''تتفزلك'' اقتصادياً. وظلت ملتصقة بالاقتصاد التقليدي المنتج، الأمر الذي فتح أمام منتجاتها أسواق، فشلت دول صناعية عديدة في الوصول إليها. وفي الأزمات، لا يصمد إلا الاقتصاد الواضح، وفيها أيضاً تظهر مكامن الضعف في هذا الاقتصاد أو ذلك. ففي الوقت الذي تنكمش فيه اقتصادات دول كاليونان وإيطاليا وإسبانيا وحتى فرنسا وبريطانيا، تسجل ألمانيا نمواً في هذا العام يصل إلى 0,7 في المائة، ومن المتوقع أن تحقق نمواً في العام المقبل يصل إلى 1,6 في المائة. الاقتصاد التقليدي البعيد عن ''الفزلكة''، وفّر لألمانيا مساحة أمان واسعة للغاية. فقد ظلت ألمانيا وفية لحراكها الصناعي (ولا سيما الصناعات الثقيلة والصناعات الميكانيكية). لقد ظل هذا القطاع يشكل 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فيه تراجع دور هذا القطاع في بلدان منطقة اليورو إلى 10 في المائة فقط.
هذا الحراك الإنتاجي، وفّر لألمانيا أسواقاً جديدة. وهذا يعني أن الاقتصاد التقليدي، فتح أسواقاً غير تقليدية، وتحديداً في الدول الناشئة التي تأخذ دورها المتصاعد على الساحة الدولية ككل. على الجانب الآخر، عجزت دول منطقة اليورو أن تفتح أسواقاً قوية لها في البلدان الصاعدة. وقد احتفظت ألمانيا (بالطبع) بأسواقها الأوروبية التقليدية التي تشكل لها أساساً لا يمكن الاستغناء عنه بأي شكل من الأشكال. وطبقاً للخبراء، فإن صادرات ألمانيا إلى الصين تشكل نصف مجموع الصادرات الأوروبية إلى هذا البلد، وقد وصل التصدير الألماني للدول الصاعدة إلى ما يوازي 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين لا يتعدى الـ 1,2 في المائة في فرنسا! ولعل من أهم عوامل النجاح الألماني المستمر، أن الشركات الألمانية تقوم بإنتاج ما تحتاج إليه الأسواق في العالم. ومثالاً على ذلك، يقول ألكسندر شومان، رئيس اتحاد غرف الصناعة والتجارة الألمانية: إن آلات ومعدات البنى التحتية، وتقنيات الطاقة، كلها مهمة جداً، للدول التي تتجه حالياً إلى تحديث نفسها، وتريد أن تتطور بسرعة. وكل ما تحتاج إليه تلك الدول لهذه العملية يمكن لألمانيا أن توفره من الآلات الثقيلة حتى البراغي''.
الذي حدث أيضاً أن دولاً مثل بريطانيا وإسبانيا ركزت بصورة كبيرة جداً على قطاعات الخدمات والاستثمارات المصرفية والعقارات، في حين لم تعط الشركات الألمانية هذه القطاعات أكثر مما تستحق، واحتفظت بذهنية الاقتصاد الوطني التقليدي، ولم تعتمد 100 في المائة على أدوات ما يعرف بـ ''الاقتصاد الجديد''. لم تنجح ألمانيا بنشاطها الصناعي فقط، ولكنها نجحت أيضاً في تفادي الشوائب والمخاطر التي يأتي بها ''الاقتصاد الجديد''. ستظل ألمانيا المحور الرئيس لمنطقة اليورو، وستتحمل دول هذه المنطقة، الإهانات الألمانية، لأن خياراتها الإنقاذية ليست سوى ألمانية.

الاثنين، 5 أغسطس 2013

مشروع «مارشال مصري»

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«الرجل الحكيم يُعرَف من أجوبته.. لا من أسئلته»
نجيب محفوظ روائي مصري، حائز جائزة "نوبل" في الآداب



كتب: محمد كركوتـــي

في مصر الآن، هناك أخبار اقتصادية جيدة، إلى جانب (طبعاً) الأخبار الاقتصادية السيئة، بل المخيفة في بعض النواحي. صحيح أن ''السيئة'' منها تطغى على ''الجيدة''، لكن الصحيح أيضاً، أنه قلما نجد دولة في حالة مصر الراهنة تكون مصدراً لأخبار غير سيئة. فالفوضى التي تحاول جماعة الإخوان حتى ''مأسستها'' باستخدام أدوات الضحية، كبيرة. وأول ضحايا هذه الفوضى هو الاقتصاد بروابطه السياسية والاجتماعية.. وبالطبع المعيشية. خصوصاً، أنه لا يزال هناك سوق عالمي لـ ''الضحية - الإخوان''، لكنها تظل سوق ''طيارة''، لا استدامة لها. ليس فقط من فرط الوهم السائد، بل أيضاً من جهة عمرها الافتراضي. فالغرب المتباكي على ديمقراطية فظيعة، لا يزال ''يتسوق''، ولكن لا يحمل في ''جيوبه'' ما يُمكِنُه من ''الشراء''. وفي الواقع هو ''الزبون'' الوحيد في هذه السوق، التي وجد نفسه فيها، لا قسراً، ولكن فشلاً في صنع قرار يحاكي التحولات. كيف لا؟ و''مطبخ'' صنع القرار الدولي نفسه، بلا مواقد.
من الأخبار الجيدة اللافتة، أن مصر بعد شهر من عزل الرئيس المؤمن جداً محمد مرسي، شهدت ارتفاعاً في صادراتها التي بلغت نسبتها 10 في المائة. نعم.. لا يمكن لهذه النسبة أن تُحدث فارقاً كبيراً على الساحة الاقتصادية، لكنها بمنزلة مؤشر على أن الاقتصاد المصري، يمكن أن يتعافى في مساحة زمنية ليست طويلة. وتعني هذه الزيادة، أن المُصنعين المصريين، يستطيعون الإنتاج حتى في وقت الفوضى السياسية، فكيف الحال إذا ما كانت هناك حكومة مستقرة وأكثر استدامة؟ وسط ما يجري في مصر، أعطت بورصتها مؤشرات إيجابية أيضاً، من خلال استعادة نسبة من خسائرها، والأهم ارتفاع قيم شراء الأجانب المتداولين فيها للأسهم. فهؤلاء لم يهربوا، كما تمنى بعض مؤيدي الإخوان في البلاد. على الجانب المعيشي، انفرجت أزمة السولار والبتوجاز، إلى درجة دفعت حتى المهربين والمحتكرين، إلى بيع ما احتكروه وقت الأزمة، بسعر التكلفة للتخلص من تكاليف التخزين. وحتى الجنيه الذي أصيب بداء الانخفاض المتتالي، بدأ في التماسك، مع ضرورة الإشارة إلى أن انخفاضه، كان عاملاً محفزاً على مزيد من التصدير.
إنها إشارات إيجابية. إنها معطيات حقيقية على الأرض، تؤكد أن بإمكان مصر تجاوز محنتها الاقتصادية، خصوصاً في ظل وجود أشقاء وأصدقاء حقيقيين للشعب المصري. وأول ما تحتاج إليه البلاد، هو الاستقرار السياسي. وهذا لن يتحقق طالما أن مؤيدي جماعة الإخوان الباطنية، مصرون على ممارسة سياسة ''حافة الهاوية''، وعلى استمرار عرض ''مسرحية الضحية''. وهذه الجماعة ترى، أن كل تفاقم جديد للأزمة الاقتصادية في مصر، يولد قوة دفع لها على الساحة. فكيف الحال بانهيار اقتصادي؟! وهذا النوع من الجماعات (التي لا تفهم السياسة، إلا من خلال الخداع والتربص) عادة ما تجلب خرابها لنفسها.. بنفسها. وهي جماعة (وفقاً لأدبياتها) تقوم أساساً على اللاوطنية. فلا مانع لديها من التخريب الوطني، إذا ما كان ذلك يدفع باستراتيجيتها إلى الأمام.
الخطوة المثالية تجاه مصر الآن، ليست أقل من مؤتمر يجمع أصدقاء كل مصر لا بعضهم، للوصول إلى ''مشروع مارشال مصري''، لا يعتمد على المنح بصيغها الاستهلاكية - الإنقاذية، بل إلى المشاركة المباشرة في الإصلاح والتنمية. والمشاركة الصحيحة توفر عوائد للأصدقاء، كما تقدم الاحتياجات للاقتصاد المصري. وبمعزل عن ذلك، سيكون المؤتمر (أي مؤتمر) مادة إعلامية فقط، ينتهي مفعولها في اليوم التالي. وتضع الحكومة الإنتقالية الخطوط العريضة لمثل هذا المشروع المحوري. وسيكون من الأفضل لو اشتركت دول الخليج ومن يرغب من الدول المانحة الأخرى، مباشرة في رسم معالم ''مارشال المصري''. فالكل متفق على أن الحل الأمثل، هو تدوير عجلة الاقتصاد المصري، وتحريك النمو، وخلق فرص عمل، وإعادة صياغة قوانين الاستثمار، وتنشيط ما هو جامد منها. وهذا لن يتم إلا بمساعدة الجهات الصادقة في المساعدة. فالأساس موجود، والمطلوب البناء عليه، وفق منهجية عالية الجودة.
ولكن تظل نقطة الإنطلاق مرتبطة بسرعة الوصول إلى أفضل مستوى ممكن من الاستقرار السياسي. فعلى سبيل المثال لا تملك الحكومة الراهنة تفويضاً شعبياً، يمكنها من مواجهة عجز الموازنة العامة المتصاعد. وهو أمر يُربك المانحين كما يربك القائمين حالياً على صنع القرار السياسي في مصر. فقد ورثت حكومة ما بعد ثورة 30 يونيو، عجزاً في الميزانية من حكومة محمد مرسي، يبلغ 3,2 مليار دولار شهرياً، منذ بداية العام الحالي. ولا شك في أن الحكومة الحالية، تتسم بالواقعية. فهي ترغب في أن تمهد الطريق، ليكون العون القادم إلى مصر في مكانه، وضمن الخطوط التي توصل الاقتصاد إلى محطات آمنة ومستقرة ومنتجة. غير أن هذا لا يمنع من الوصول إلى خطة ''مارشال المصرية''، في الوقت الذي يجري فيه العمل على تمهيد الطريق. إن وجود مثل هذه الخطة، يساهم (في الواقع) في ''ورش'' عملية التمهيد هذه.

الخميس، 1 أغسطس 2013

الرعب الاقتصادي في إيران

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«الذي يحيا بمحاربة عدو ما، تظل مصلحته في الإبقاء على هذا العدو حياً»
فريدريك نيتشه فيلسوف وشاعر ألماني


كتب: محمد كركوتـــي

في بلد يقرر فيه ''المرشد'' أي شيء، بما في ذلك تسريب فحوى ''اتصالاته'' مع ''المهدي الضائع''، ليس للرئيس الإيراني المنتخب حسن روحاني، إلا أن يسمع ويطيع. فهو (كغيره) يعرف أنه كرئيس منتخب، مملوك أيضاً لـ ''مرشد'' غير منتخب. وتستند ملكية هذا الأخير، إلى كونه ''مكشوفا عنه الحجاب''، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.. وبالطبع دينياً! فكيف لروحاني وغيره تقديم رؤى مختلفة ومشاريع لا تتوافق مع ''الحقائق'' المطلقة التي يستحوذ عليها علي خامنئي. فحتى لو كانت هناك ''حقيقة'' مشوشة ما، يحسمها اتصال مباشرة بينه وبين المهدي! وهو أمر لا يكلف ''المرشد'' شيئاً، سوى دموع من فرط رهبة الحضور، وهي متوافرة من خلال دورة مياه في العيون. جاهزة لكي تنهمر في أي وقت وأي حالة ووضعية. على روحاني، أن يبقى في صف ''المرشد''، هذا إن استطاع حتى مناقشته، فكيف الحال بالابتعاد عنه؟!
السلطة المطلقة لـ ''المرشد''، دون مسؤولية، هي الحفرة المضمونة لكي يُدفن فيها أي رئيس للجمهورية! وهنا تكمن المعضلة الواضحة. فالممنوعات كثيرة، بما فيها التعاطي المستقل بالشأن الاقتصادي. وإذا كان هذا الشأن من الممنوعات، فالشأن السياسي من المحرمات. وعليه، فإن على روحاني الذي يواجه مصيبة اقتصادية هائلة، ألا يعيش أوهام صنع القرار الجمهوري، لأن القرار الإرشادي هو الأصل (بل والصورة أيضاً). هل يستطيع روحاني (وغيره) أن يحلم للحظة، ويطلب من ''المرشد'' ضرورة إيقاف الدعم المالي الإيراني (مثلاً) لسفاح سورية بشار الأسد، من أجل مواجهة المصيبة الاقتصادية المتعاظمة في إيران؟! هل يمكنه أن يؤخر خطاً من الخطوط الائتمانية للأسد، ولو لشهر واحد فقط؟! بل هل يستطيع حتى تقديم دراسة (لا طلب)، تتضمن أهمية الإعلان عن إيقاف جزء من النشاط النووي الإيراني، على أمل في تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد؟! في إيران ملهاة ''ديمقراطية'' على شكل مسرحية، تحتوي على فصول، ولكنها بلا نهاية، سعيدة كانت أو حزينة.
سيتسلم حسن روحاني منصبه، وقد ترك له أحمدي نجاد ملفات اقتصادية مفتوحة خانقة. ولا أعرف لماذا لا يستجدي خامنئي ''المهدي الضائع'' لإغلاق حتى ملف واحد منها فقط؟! البيانات الرسمية الإيرانية الجديدة، تُظهر أن معدل التضخم في البلاد ارتفع إلى 45 في المائة في نهاية حزيران (يونيو) الماضي. وفي دولة كإيران، فإن الرقم الرسمي الخاص بالأزمات، هو بالضرورة أقل من الرقم الحقيقي، والعملة في الحضيض، والعقوبات الدولية في أعلى مستوى لها. وعلى الرغم من أن البنك المركزي الإيراني، لم يصدر منذ عام 2008 أي بيانات خاصة بالتضخم، إلا أن الرئيس المنتخب، اعترف علانية أمام البرلمان، بأن بلاده تواجه أعلى مستوى للتضخم في المنطقة بأسرها. وهذا الإعلان بالطبع، لا يمس السلطة المطلقة لـ ''المرشد''، بل هو شكل مفهوم من أشكال تبرئة النفس مسبقاً، من المصائب الاقتصادية التي ظهرت في عهد سلفه نجاد. وهي أيضاً، أداة وقائية له عندما سيفشل في حلها. ولم يترك أصلاً مجالاً للتأويل، فقد قال صراحة : ''سنبين ماذا استلمنا من الحكومة السابقة''.
ولهذا السبب، بدأ البنك المركزي ''المعصوم'' عن إصدار بيانات الرعب الاقتصادي، بإعلان بعض الأرقام. هناك – حسب البنك المذكور - 47 مليون إيراني من بين 70 مليون نسمة، يعيشون تحت خط الفقر. أي أقل من 4 دولارات أمريكية في اليوم. ويبدو أن روحاني، ''سيحل'' المشاكل ''روحانياً''! لماذا؟ لأنه ببساطة، قدم هذه المشاكل على أنها تعود لأداء حكومة نجاد، ووضع ''الضغوط الخارجية الظالمة'' – حسب تعبيره - في المركز الثاني! علماً بأن محركات الاقتصاد شبه متوقفة، بفعل العقوبات، وبعدها التعاطي الفاشل الفاضح لحكومة نجاد في الحالة الاقتصادية العامة. صحيح أن هذا الأخير، استخدم النظام الائتماني (على سبيل المثال) لتقديم قروض للموالين له، ولشراء دعم أعضاء كبار في الحرس الثوري، ومجموعة كبيرة من الملالي، بمجموع بلغ أكثر من 5 آلاف شخص. لكن الصحيح أيضاً، أنه ليس هناك ما يمكن الاستثمار فيه في إيران، بصورة تكفل شيئاً من الإصلاح الاقتصادي.
في بلد يمكن أن يفرح أصحاب المصانع فيه من جراء الانخفاض الحاد في الاستيراد، تتوقف المصانع عن العمل الوحد تلو الآخر! والسبب، أن تكاليف الإنتاج ارتفعت (بشكل اعتبره البعض خياليا)، بفعل العقوبات وبعدها فشل أداء حكومة نجاد. وفي ظل هذا المشهد، بات التهريب والعمليات المشبوهة، جزءاً أصيلاً من الحراك الاقتصادي. بل إن الهيئات الدولية، توقفت عن إحصاءات العوائد النفطية الإيرانية، لأنها إما مهرَبة أو متوقفة. في إيران الغالبية العظمى من الشعب هي الخاسرة، خصوصاً أولئك الذين ينتمون إلى الطبقتين الوسطى والدنيا. وهذا الحال، عادة ما يُنتِج وقوداً لتمرد كامن على النظام بأسره. وهو تمرد لن تنفع معه كل الاتصالات الخاصة بين ''المرشد'' و''المهدي الضائع''، ولن يفيد التغيير السياسي ''الاسمي'' الذي يحدث في البلاد. فالمصائب التي تواجَه بالأوهام، توفر عوائد وهمية لحقائق الخراب.

عندما تصبح الليرة السورية ورقة زائدة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«الحياة قصيرة. لكنها طويلة بما يكفي للتخريب لمن يرغب أن يخرب»
جوش بيلينجز أديب وكاتب أمريكي

كتب: محمد كركوتـــي

قبل ثلاثة أسابيع تقريباً، كنت ضيفاً على قناة ''سي إن بي سي''، للحديث عن الليرة السورية واقتصاد سورية بشكل عام. وكان في البرنامج نفسه ضيف ''خبير'' آخر من دمشق، قارن بين أزمة الاقتصاد السوري، وأزمة اقتصاد قبرص! وقبله (على شاكلته)، من قارن بين اقتصاد سورية واقتصاد اليونان. ولا أعرف إن كان سيظهر ممن بقي من محبي سفاح سورية بشار الأسد، ليقارن أزمات اقتصاد سورية بأزمات اقتصادات اليابان أو الصين أو الولايات المتحدة الأمريكية! فهؤلاء ''رغم الحقائق الماحقة عن الأسد''، باتوا جزءاً أصيلاً مما يمكن تسميته بـ ''اقتصاد التمنيات''، والأصح ''اقتصاد الأوهام''. وهم في الواقع يتحدثون عن اقتصاد لا يستحق حتى هذا التوصيف. في سورية ''كما يعلم الجميع''، عصابة تاريخية تقودها أسرة، احتلت البلاد بشعبها ومقدراتها. وعندما واجهت مصاعب في مواصلة الاحتلال، تعاقدت مع محتلين أجانب. وهي مستعدة للتعاقد مع إسرائيل (مبتكرة الاحتلال في المنطقة)، إذا ما كان العقد يوفر لها يوماً إضافياً في حكم منهوب.
على كل حال، الضيف الأول رد معترضاً على ما قلته ''إن الليرة السورية لم تتراجع بل انهارت''. فقد اعتبر أن الليرة تراجعت بسبب الظروف العامة، وأن البنك المركزي سيتدخل خلال ساعات، لسندها وإعادتها إلى ما كانت عليه! الذي حدث ''بعد ساعات''.. قفز الدولار من 220 إلى 310 ليرة دفعة واحدة ''قبل الثورة الشعبية العارمة كان الدولار بـ 47 ليرة''. وأطلق هذا البنك، سلسلة من القوانين تعاقب الصرافين بالسجن، وتهديدات وصلت حتى إلى الإعدام. هكذا فعل حافظ الأسد ''والد سفاح سورية الحالي''، عندما أسرع لتغطية ما نهبه شقيقه رفعت الأسد من الخزانة العامة. والحقيقة أن ''سفاح مدينة حماة''، لم ينهب من الخزانة، بل سرقتها كلها، وكان حتى وقت قريب، يتفاخر بأنه أخذ نصيبه من نهاية الخدمة! ولأنه ينتسب إلى هذه الأسرة المجرمة، فقد تفاخر في أحد التسجيلات، بأن عدد من قتلهم في حماه ليس 25 ألفاً، بل 50 ألفاً!
في الأيام الماضية ظهرت تقديرات، بأن اقتصاد سورية تقلص 35 في المائة، وأن تكاليف الحرب خلال عامين ونيف، وصلت إلى 80 مليار دولار أمريكي، التهمت الاحتياطي من القطع الأجنبي. وعن الإنتاج الصناعي فقد توقف، مما أدى إلى ارتفاع عدد المتعطلين عن العمل إلى نصف عدد السكان. وأن حركة ميناءي اللاذقية وطرطوس تراجعت 35 في المائة. والحقيقة، لم أفهم الرابط بين تماثل نسبة تقلص الاقتصاد ونسبة تراجع حركة الميناءين المذكورين. الأمر ليس مهماً. ما هو مهم، أن الاقتصاد تقلص أكثر من النسبة المتداولة، ويمكن القول، إنه لا يوجد اقتصاد بالمفهوم المعروف له. ليس فقط لأن الليرة انهارت، ولا لأن البطالة ارتفعت إلى هذا المستوى الفادح، ولا لخواء الخزانة التي يفترض أنها عامة، بل لأنه، حتى ''اقتصاد العصابة'' انتهى في مناطق واسعة من البلاد. أما في المناطق التي لا يزال يسيطر عليها الأسد والقوات الأجنبية المحتلة المساندة له، فالأوضاع تسير من سيئ إلى أسوأ، دون أن تظهر بصورة واضحة آثار التمويل المالي الذي لم يتوقف من إيران.
تجري حالياً في أوساط الأسد، مشاورات لإلغاء الليرة، وإطلاق عملة جديدة، بغرض استيعاب الانهيار الذي أصابها. وفي بلد أعلنت فيه السلطات أن تصدير المواد الغذائية أمر غير قانوني، فإن كل شيء وارد، دون أن ننسى، بأن كميات كبيرة من الأوراق النقدية طُرحت في السوق بلا رصيد أو سند لها. اليوم، لم تعد الليرة هماً بالنسبة للسوريين، بل أضحت ورقة زائدة في الجيب لا قيمة لها، وكلما أسرع السوريون بتحويل ما لديهم من أموال إلى عملات مضمونة، كلما استطاعوا المحافظة على ما تبقى من قيمتها المتلاشية. ويبدو واضحاً، أن الإمدادات المالية الإيرانية الشهرية التي تقدر بنصف مليار دولار أمريكي، في طريقها إلى التوقف. فإيران تخلفت منذ ستة أشهر عن دفع أقساط ديونها للبنك الدولي. كما أن العقوبات المفروضة على هذا النظام الهمجي، باتت سلاحاً قوياً في وجهه، وإن كانت من ناحية أخرى تؤثر سلباً على المواطنين السوريين. فالعقوبات ''أي عقوبات'' التي تطول، تطال الشعوب.
لو استمر نظام الأسد حتى نهاية العام الجاري، فسيتم تداول العملات الأجنبية بدلاً من الليرة. على غرار ما حدث في لبنان خلال الحرب الأهلية. والحل يبقى هو.. هو، منذ البداية، الإسراع في إزالة هذا النظام ليس فقط رأفة بالشعب السوري، بل لحماية المنطقة من الخراب الذي يمثل له استراتيجية حقيقية. فالأسد الابن ''كما الأب'' لا يعيش إلا بجعل المصائب مستمرة، ويستمر لأطول فترة، في تعميم هذه المصائب على أوسع رقعة ممكنة، سواء بصورة مباشرة، أو عبر عصاباته. لو كان هذا النظام ديكتاتورياً فقط، لأسقطه الاقتصاد، لكنه نظام دموي همجي، لا تسقطه إلا القوة.