الثلاثاء، 16 يوليو 2013

مصر .. من «البركات الاقتصادية» إلى الواقع الاقتصادي

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






 
«قد يسمع الناس كلماتك، لكنهم بالتأكيد يشعرون بسلوكياتك»
جون ماكسويل مؤلف خبير في قضايا القيادة


كتب: محمد كركوتـــــي

مع عزل الرئيس المؤمن جداً محمد مرسي، لم تنته ''بركات'' جماعة الإخوان المسلمين، فلا يزال خطباء لـ ''الإخوان''، يعلنون من على منابرهم أن هناك من يرى في ''منامه'' الرئيس المعزول، وعلى كتفيه ثماني حمامات، دلالة على أنه سيكمل فترتين رئاسيتين! وأن جبريل - عليه السلام، دخل في مسجد رابعة العدوية في القاهرة، ليثبت المصلين! بل إن أحد الخطباء وصل بأوهامه وتضليله إلى أبعد من ذلك، بأن الرسول - قدّم مرسي (نعم مرسي)، ليؤم المصلين بحضوره! ''البركات'' ومعها الرؤيا و''الأحلام''، وتفسير المفسَر، وتعقيد البسيط، ستبقى جزءاً أصيلاً من ''استراتيجية'' الجماعة. هذا هو سلاحها ''النووي''. لكن، انتهى في مصر عهد ''البركات الاقتصادية'' .. لماذا؟ لأن الذين كانوا يخططون الاقتصاد بـ ''البركات''، يستعرضون حالياً رؤياهم وأحلامهم (فقط). لم يعودوا صانعي قرار مطلق. كما أنهم توقفوا عن ''إحصاء'' إنتاج القمح في مصر، مربوطاً بـ ''بركات'' الرئيس المعزول. فهو مرتفع عندهم! لكن في أرض السنابل.. منخفض.
 
لا ''بركات اقتصادية''. هذه أهم خطوة باتجاه إصلاح ما يمكن إصلاحه، وتصحيح المسار، أو بالأحرى وضع مسار جديد. وقبل هذا وذاك، سيكون هناك اقتصاديون واقعيون حرفيون، يفهمون ما يتناولون ويطرحون. فضلاً عن أنهم يعرفون كيفية التعاطي، محلياً وخارجياً. وتكفي الإشارة هنا إلى أن فريق صندوق النقد الدولي، الذي كُلف بالتفاوض مع حكومة هشام قنديل (الذي قال يوماً: أنا ماعرفش، بس شاكك، مع أني كنت متأكدا!)، توصل إلى نتيجة، لم يخفها. وهي أنه لم يجد في الواقع مفاوضين، بل مجموعة من الهواة الذين لا يعرفون الفارق، بين قرض دولي ومنحة! كانوا مجموعة موالية (للمرشد، والشاطر والعريان..إلى آخره) ولم تكن مؤهلة. مجموعة، أجبرت مفاوضي''الصندوق''، على الخروج عدة مرات من صالة الاجتماعات، لـ ''ممارسة'' الاندهاش. فالمفاوضون المصريون، كانوا أقرب إلى مجموعة من التلاميذ الفارين من يوم دراسي.
 
في مصر، أزمات هائلة.. وأرقام مريعة.. ورئيس الوزراء الانتقالي حازم الببلاوي يواجه خَطبا كبيرا. والاقتصاد المصري ما بين الثورتين (25 يناير و30 يونيو)، بات مشابهاً (إن لم يكن أسوأ) لحاله قبل الثورة الأولى. ومن أهم مزايا اختيار الببلاوي لهذه المهمة الصعبة جداً، أن هذا الأخير، قبل أن يكون اقتصادياً محترفاً بكفاءة عالية، ليس قابلاً للاستقطاب. وبالتالي فهو محمي من هذه الناحية. ولن تكون هناك مفاجأة، إذا ما اصطدم مع الجيش نفسه، فيما لو سعى الأخير أن يستقطبه، وفق المفهموم التقليدي المريع لـ ''الاستقطاب''. غير أن استقلالية الرجل (ووطنيته)، لن تقلل من من الهموم والمصائب التي يواجهها الاقتصاد المصري. مع ضرورة التأكيد على أن هذه الاستقلالية، تمنحه –إن جاز التعبير- ''زمناً وطنياً ثميناً''.
 
أعطى التزام السعودية والإمارات والكويت بتقديم 12 مليار دولار أمريكي لمصر على شكل هبات ومنح ومساعدات (وهي مساعدات لكل مصر لا بعضها)، دفعة لاقتصاد مصر كان يحتاج إليها في هذا الوقت بالذات لأن المشهد الاقتصادي الذي تركه مرسي وهشام قنديل (رئيس وزراء خيرت الشاطر!)، مريع. لماذا؟ لأن الديون الداخلية بلغت (ما بين الثورتين) 1500 مليار جنيه مصري، والخارجية وصلت إلى 50 مليار دولار، بعدما كانت في حدود 34 مليارا. وفي غضون عام من حكم مرسي، تمت إضافة 11 مليارا، إلى جانب خمسة مليارات على شكل منح، في حين بلغ العجز الكلي في الموازنة 204,9 مليار جنيه. قفزت البطالة إلى 13 في المائة، وستصل إلى 13,5 في المستقبل المنظور. تم تخفيض التصنيف الائتماني لمصر خلال عام واحد، سبع مرات!
 
وماذا أيضاً؟ الاستثمارات الخليجية بلغت 346 مليار دولار فقط لاغير في العام الماضي، وهرب عدد كبير من المستثمرين، ولم تُحسن المليارات التسعة التي تلقتها حكومة الرئيس المعزول، من مستوى الاحتياطي النقدي! سجل الدولار (لأول مرة في تاريخه) أكثر من تسعة جنيهات في السوق السوداء! وهو ما ساهم في ارتفاع التضخم في أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة 9 في المائة. ستبلغ مدفوعات الفائدة نحو 182.1 مليار جنيه في موازنة 2013/2014، مقارنة بنحو 138.6 مليار جنيه عام 2012/2013. في مصر، يعيش الآن أكثر من 20 مليون شخص تحت خط الفقر، وتتدرج نسب الفقر من الإسماعيلية7,9 في المائة، إلى أسيوط 58,1 في المائة! مخزون مصر من القمح لا يزيد على مليون طن، وظلت البلاد ''بجدارة'' وبلا منافس، على رأس قائمة الدول الأكثر استيراداً لهذه المادة الحياتية.
 
لا يتحمل مرسي وأعوانه المسؤولية كلها، ولكنه بالتأكيد كان سبباً مباشراً في استفحال الأزمات الاقتصادية التي تمر بها بلاده. ما بين الثورتين، تضاعف الخراب، وعمت الفوضى الاقتصادية، ليس ''لضيق ذات اليد''، بل لضيق أفق الذين وصلوا إلى حكم البلاد بصورة طفيفة.. وطفيفة للغاية. تواجه حكومة الببلاوي الكثير من ''البلاوي''، والامتحان الأول(الأهم) أمام العهد الجديد، يكمن في فرض إجراءات التقشف المطلوبة، ولكن ليس على طريقة صندوق النقد الدولي، بل على طريقة من أحبوا مصر، ويعشقونها.

الخميس، 11 يوليو 2013

بوتين «البوتكسي» وأوباما.. ولقمة الشعب السوري

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«رأيت شخصاً يتضور جوعا.. ورأيت أشخاصاً يضحكون»
بوب ديلان - شاعر ومغن أمريكي



كتب: محمد كركوتـــي

بإمكان الرئيس الروسي ''البوتكسي'' فلاديمير بوتين، أن يأخذ ''مجده'' على الساحة، ويمرح ويعربد. فالكبار غائبون. والأصح غير موجودين، خصوصاً عندما أثبت باراك أوباما (في أكثر من مناسبة) أنه مثل الموظف الذي لا يعمل، سعياً وراء نهاية خدمة مضمونة، ينقصه فقط، أن يحمل بطيخة معه إلى المنزل، بعد نهاية يوم عمل، لتكتمل الصورة. ليس مهماً دخوله ملفات التاريخ كأضعف رئيس للولايات المتحدة، بقرار منه! فـ ''سحره'' الذي استند إليه، انقلب عليه وعلى الكثير من الملفات الدولية، التي تحتاج إلى رئيس أمريكي، لا إلى رئيس جمعية أمريكية، وهذا ما يبرر الخلافات معه ليس من قبل الجمهوريين، بل من جانب بعض أركان إدارته نفسها. على بوتين الذي انتقل من ''سياسي مضبوط''، إلى قاطع طريق، أن يشكر ''نظيره'' الأمريكي يومياً، تماماً كما يشكر رؤساء العصابات، رجال الأمن المتعاونين معهم. والمصيبة، أن الإهانات الناجمة عن سياسة أوباما- إن وجدت سياسة أصلاً- لم تشمل بلاده، بل أخذت معها أولئك الذين كانوا يوماً محاور العالم أجمع.
عطل بوتين (كالعادة) قراراً من مجلس الأمن، ليس لتسليح الثوار في سورية، ولا لإزالة سفاحها بشار الأسد، ولا لتشكيل حكومة سورية وطنية شرعية، ولا لفرض حظر جوي، بل لدخول مساعدات إنسانية إلى مدينة حمص، المحاصرة والمنكوبة والمدمرة، والمقصوفة على مدار الدقيقة. هذا التعطيل، جاء بعد ساعات قليلة من إعلان الأمم المتحدة، أن أربعة ملايين سوري (أي نحو خمس السكان)، لا يستطيعون إنتاج أو شراء ما يكفي من الغذاء لاحتياجاتهم. لماذا؟ لأن من تبقى من المزارعين السوريين، لا يجدون البذور والأسمدة، التي يحتاجون إليها لزراعة المحصول. مع الإشارة طبعاً، إلى أن نسبة متعاظمة من هؤلاء، خسروا أراضيهم باحتلال عصابات الأسد لها، بينما أحرقت العصابات الأراضي التي لم تستطع احتلالها. وحسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للمنظمة الدولية، ومعها برنامج الغذاء العالمي، فإن سورية تحتاج إلى استيراد 1,5 مليون طن من القمح في موسم 2013-2014.
عندما وصف رئيس فرنسا فرانسوا هولاند نظام الأسد بأنه ''حقير عليه أن يرحل''، لخص حال هذا النظام، على الرغم من أن هولاند، لم يوفر ما يُسرِع الرحيل، على غرار زملائه في الغرب والشرق. لقد فرض الأسد منذ اندلاع الثورة الشعبية على البلاد ''اقتصاد المقايضة''، وهو مرحلة طبيعية لـ ''اقتصاد الفقر وما دونه'' الذي ساد سورية على مدى أكثر من أربعة عقود. ولكن حتى ''المقايضة'' باتت ترفاً، لا يمكن للسوريين في المناطق المستهدفة من قواته وعصاباته، ممارستها. ماذا فعل هذا النظام القاتل أيضاً؟ منع كل الاحتياجات الخاصة بالإنتاج الزراعي، بما في ذلك الوقود والسماد والبذور والمبيدات عن هذه المناطق، فاستراتيجيته تتخلص بـ ''إما أن يقتل السكان، أو يموتوا جوعاً''. وقبل ذلك، كان هؤلاء يعيشون بالفعل أيامهم وفق ما يتيسر للمقايضة، دون أن ننسى، أن الفواجع المعيشية، تسود كل المناطق، ماعدا تلك التي ينتمي أغلبية سكانها ومزارعيها إلى طائفته، وهذا في الواقع يصب في مخطط التطهير الطائفي، والفرز الاجتماعي، وكان لا بد من الاستعانة بعصابات حزب الله الشيعي، لاستكمال هذا المخطط، الذي تعاقِب عليه الإنسانية كلها.
التاريخ يسجل، أن بوتين يمنع الخبز وحليب الأطفال والدواء عن الشعب السوري، ولكنه يسجل أيضاً أن أوباما (ومعه توابعه في الغرب)، لم يمنع جريمة الرئيس الروسي الجديدة، واكتفى بالندب، وتحميل الأخير المسؤولية، حتى أنه لم يعمل بسرعة على تلبية طلب برنامج الغذاء العالمي، كنوع من التعويض عن المهانة التي كبل نفسه بها، فهذا البرنامج لن يورِد إلى سورية قاذفات صواريخ، ولا أسلحة بيولوجية، ولا حتى ''خرطوش''، يقدم العون الواجب (وليس المطلوب) لمناطق منكوبة، يعيش فيها بشر لا يعرفون الفارق بين سلاح وآخر. ''برنامج الغذاء''، طلب 41,7 مليون دولار، لتقديم العون إلى 768 ألف سوري تحت القصف والقتل. الفاجعة الجديدة، أنه لم يصل من هذا المبلغ سوى 3,3 مليون دولار فقط.
يقول الأديب والشاعر الإنجليزي ديفيد هيربيرت لورانس ''الفاجعة، مثل الأسيد الخالص. يُذوِب كل شيء إلا الحقيقة''. مع ارتفاع وتيرة التطهير الذي يقوم به الأسد وعصاباته، وتلك المستوردة من لبنان وإيران والعراق، وكلها عصابات شيعية، انخفض (حسب الإحصاءات الدولية) إنتاج الدواجن والأغنام والماشية بمعدل 50 في المائة. إلى جانب (طبعاً) انخفاض إنتاج القمح إلى 2,4 مليون طن، وهو أقل بنسبة 40 في المائة، من متوسط المحصول السنوي الذي بلغ قبل حرب التطهير أربعة ملايين طن. كان لا بد من قرار دولي ما، لتلبية الاحتياجات المعيشية أو بعض منها. وكان بإمكان أوباما (الموظف الحالم بنهاية خدمة مضمونة) أن يتجاوز (ولو لمرة واحدة) سياسته الانبطاحية، في قضية لا يمكن الجدل حولها، حتى من جهة بوتين الذي يمرح على الساحة الدولية، ليس لغياب الكبار فقط، بل لأنه أكبر صغير موجود في الميدان.

الطفل.. التلفزيون.. الدراسات المتضاربة

(المقال خاص بمجلة "جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج")





 "الجودة تبدأ من الداخل ثم تحفر طريقها إلى الخارج"
بوب معوض، كاتب أميركي


كتب: محمد كركوتـــــي

هناك الكثير من الدراسات القديمة والجديدة، حول التلفزيون وتأثيراته السلبية والإيجابية (إن وجدت هذه الأخيرة)، وحول أهميته في التحولات الاجتماعية، وبعدها السياسية والاقتصادية. بالإضافة طبعاً، إلى طروحات، بما في ذلك، جدوى وجود هذا الجهاز في المنزل. وتكاد هذه الدراسات والبحوث الاستقصائية تُجمع على شيء واحد، هو: أن مساوئ التلفزيون لا تحصى، وأن محاسنه لا تحصى أيضاً، لأنها ببساطة غير موجودة! وهذه الدراسات لا تتعلق بالعالم العربي، الذي يعاني (من ضمن ما يعاني) من عدم وجود مراكز بحثية ودراسية عالية الجودة، مقارنة بمثيلاتها في العالم الغربي. وهذا بحد ذاته مصيبة تضاف إلى المصائب التي تواجه العرب في أكثر من مجال وأكثر من ميدان، ولا سيما الإعلامي بصورة عامة، والجانب الخاص بالأطفال على وجه التحديد.
على كل حال، قلبت دراسة بريطانية جديدة، كل استنتاجات الغالبية العظمى من الدراسات المشار إليها. وأظهرت هذه الدراسة الصادرة عن جهة أكاديمية عريقة هي جامعة لندن، أن التلفزيون ليس سيئاً كما يعتقد العالم، وليس مضيعة للوقت، وليس سلبياً، وليس مضراً.. لمن؟ للأطفال. ولعل أهم نقطة في هذه الدراسة، التي نُشرت في دورية علم الاجتماع، وتابعت حالات 11 ألف طفل، منذ الولادة وحتى سن السابعة، أن مشاهدة التلفزيون لفترات طويلة (!) تحسن الأداء المدرسي عند الأطفال. ويؤكد واضعوا الدراسة، أن هذه النتيجة جاءت على عكس ما هو معتقد، لأن الأهل يقومون عادة بالحد من مشاهدة أطفالهم للتلفزيون، اعتقاداً منهم أن التقليل من المشاهدة، يحسن مستواهم المدرسي. والذي يمنح هذه الدراسة أهمية، أنها تابعت بالفعل هذا العدد الهائل من الأطفال، ولم تدرس فقط "الحالة التلفزيونية" لهم، بل أيضاً تأثرهم بالعوامل الاجتماعية والعائلية، بالإضافة إلى النظام اليومي في المنزل.
وبعيداً عن الجانب الخاص بالمستوى التعليمي والاجتماعي للأهل، وتأثيراته على أداء الطفل مدرسياً ومجتمعياً وإنسانياً، إلا أن النتيجة الخاصة بالتأثير الإيجابي للتلفزيون على التحصيل المدرسي للطفل، تحتاج حقاً إلى وقفة،  وربما إلى إعادة النظر بالمسلمات الخاصة التي انتشرت منذ بداية انتشار التلفزيون نفسه. فهل يعقل أن التلفزيون يرفع من درجات التلميذ في المدرسة؟ بالتأكيد  المستوى الاجتماعي يساهم بصورة مباشرة، وهذا بحد ذاته ليس خبراً. لكن أن تكون الفوائد التعليمية للتلفزيون عالية جداً (حسب الدراسة)، وأنه لا يمكن إنكار الفوائد التعليمية له، وأنه يعطيهم الكثير من المعلومات والخبرات، بالإضافة للمفردات والكلمات والتعابير التي يمكن ألا  يسمعونها عند أهلهم. هذا هو الخبر! 
والحقيقة لم يحدد القائمون على الدراسة أي نوع من أنواع البرامج التي يمكن أن توفر هذه القيمة الكبيرة التي يتحدثون عنها، بما في ذلك طبعاً "التعابير والمفردات والكلمات"!  فحتى في القنوات التلفزيونية التي تعتمد الحد الأعلى من المعايير المهنية (في الغرب)، هبطت مستوى اللغة المستخدمة فيها إلى مستويات تظهر بوضوح في "السلوكيات اللفظية" للأجيال المتابعة لها.  دون أن ننسى أن البرامج التلفزيونية والأميركية ومعها الإنتاج الدرامي أو (الأكشن)، لا تستحوذ على مساحات متعاظمة من ساعات  بث القنوات التلفزيونية غير الأميركية فحسب، بل أيضاً أصابت الإنتاج الأوروبي نفسه بالعدوى. صحيح أن هناك برامج يمكن أن تدعم أداء الأطفال مدرسياً، لكن في الواقع نسبتها ليست عالية مقارنة مع البرامج الأخرى، التي تدعم أداء الأطفال مدرسياً واجتماعياً هبوطاً.
ولا نعرف أي الدراسات التي يمكن أن تشكل أساساً واقعياً لما تطرحه من أفكار واستنتاجات وحتى إحصاءات. ففي دراسة أكاديمية  صدرت مؤخراً في الولايات المتحدة الأميركية، كشفت علاقة مهمة بين التعرض المبكر والمتزايد لمشاهدة التلفزيون، ومشكلات الانتباه في سنوات العمر اللاحقة. والدراسة هذه قامت بها جهة أكاديمية ونشرت في دورية "طب الأطفال". حيق توصلت إلى أن مشاهدة التلفزيون (بحد ذاتها) تزيد خطر إصابة الطفل بمشكلات في الانتباه بنسبة 10 في المائة، وأن من أخطر المراحل العمرية في الإفراط بمشاهدة التلفزيون، هي تلك الواقعة بين السنة الأولى والثلاث سنوات. الدراسة الأميركية متعارضة تماماً مع الدراسة البريطانية، على الرغم من أنهما صادرتا عن جهات أكاديمية تتمتع  بحد كبير من المصداقية، تستندان إلى تاريخ طويل في هذا المجال.
ومع كل التقدير لجامعة لندن، إلا أنه لا يمكن أن نضع استنتاجات غالبية الدراسات على مدى عقود، بما في ذلك الدراسة الأميركية الأخيرة جانباً، والتسليم لنتائج الدراسة البريطانية. فقد تأكد علمياً على سبيل المثال، أنه يستحيل المستوى الآمن لمشاهدة التلفزيون بالنسبة للأطفال، بين العان والثلاثة. في حين يعتبر أكاديميون ( على عكس الدراسة البريطانية)، بأن الخطر يزداد بزيادة ساعات المشاهدة. دون أن ننسى، أن هناك الكثير من علامات الاستفهام، حول الإنتاج التلفزيوني الموجه للأطفال حتى في الغرب، الذي يطبق معايير صارمة بهذا الخصوص في كل الجوانب المتعلقة بهذا الأمر، على عكس العرب الذين يركزون فقط على جوانب دون أخرى. وبالطبع دون أن ننسى التوجيه الإعلاني المريع الذي يتعرض له الطفل. فإذا كان هذا النوع من التوجيه ينال من البالغين، علينا أن نتصوره في أوساط الأطفال.
يقول الكاتب الأميركي أندرو روس "أصغر مكتبة تحتوي في داخلها أفكاراً أكثر قيمة مما يقدمه التلفزيون طوال تاريخيه". وكان وودي آلان الممثل الأميركي، أكثر سخرية عندما قال "أنا أجد أن التلفزيون تعليمياً، وتثقيفياً. بمجرد أن يفتح أحدهم الجهاز، أذهب إلى الغرفة الأخرى لأقرأ كتاباً".

الثلاثاء، 2 يوليو 2013

ليرة الأسد وتومان خامنئي

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





 
«خراب وراء خراب. هزيمة وراء هزيمة.. الفوضى تكون عادية»
جون ميلتون شاعر وأديب إنجليزي
 
 
كتب: محمد كركوتـــي
 
ليس مهمًّا اعتراف قدري جميل، نائب رئيس وزراء سفاح سورية بشار الأسد، بأن هذا الأخير، لا يتلقى فقط دعمًا عسكريًّا وسياسيًّا من إيران وروسيا والصين، بل أيضًا يحصل على دعم اقتصادي، يبلغ 500 مليون دولار شهريًّا. هذا الدعم بمجمله وببشاعته وآثامه.. طبيعي. هو من عصابات تدعي أنها حكومات، إلى عصابة تدرجت من حقل قطاع الطرق، إلى ميدان المرتزقة. بشار الأسد (وقبله والده) بدأ رئيسًا لعصابة، وهو ينتهي الآن واحدًا من المرتزقة. وهذه في الواقع نهاية حتمية، لكل من يغتصب حكمًا، لم يكن له. فكيف الحال، مع من اغتصبه بالوراثة، ويحميه بالقتل والتشريد والتدمير والخراب وتقطيع الأوصال، وفوق هذا وذاك، يجلب محتلين جددا لسورية. قليلة هي الدعوات التي وجهها محتلون لمحتلين آخرين في التاريخ القديم والحديث.
يقول الشاعر والفنان الإنجليزي وليام بليك ''الكلب الذي يتضور جوعًا على بوابة صاحبه، يعكس الخراب الذي يعم خلف البوابة''. المشهد واضح، يتحدث عن حاله بأبلغ المفردات. يفضح نفسه، يُعريها، ليس من فرط الحرارة، بل من وَهْم الملابس. والـ 500 مليون دولار الشهرية التي تصل إلى العميل المكلف بخراب سورية، لا قيمة لها. كما أنها ليست قابلة للاستمرار، لأسباب عديدة ومختلفة. مشاركة الرئيس ''البوتكسي'' فلاديمير بوتين فيها، مرحلية، تنتهي عندما ينتهي مفعول الأسد بالنسبة لبوتين، وكذلك الأمر على صعيد المشاركة الصينية، فبكين أثبتت تبعية فريدة من نوعها، لماذا؟ لأنها استعذبت التبعية في زمن بلغت فيه من القوة، كما لم تحلم بها من قبل. وفي كل الأحوال، مشاركتها المالية في دعم الأسد، شارفت على الانتهاء، مع إمكانية (حذَر منها المصرف المركزي الصيني نفسه) لانهيار القطاع المصرفي في البلاد، على غرار ما حدث في الولايات المتحدة في عام 2008.
أما إيران (دولة المهدي الفالت)، فقد صحت بعد أيام فقط من أحلامها التي ربطتها بالرئيس الجديد حسن روحاني. واكتشف ناخبوه أن أحلامهم نفسها ليست سوى أوهام حقيقية. لقد بدأت كذلك، لتتحول إلى كابوس واقعي لا يقبل الإنكار، ولا الاختباء خلف الجدران ''الروحانية''، ولا حتى داخل غرفة انتظار ''المهدي الفالت''. دخل ناخبو روحاني بأسرع حالة من الإحباط قاطبة. كيف يمكن لعلي خامنئي مواصلة دعم ليرة الأسد، و''تومانه'' ينافسها خرابًا؟! فالليرة خسرت على مدى الأشهر الماضية 77 في المائة من قيمتها، والتومان خسر النسبة نفسها تقريبًا، والمسيرة تمضي نحو الأسفل. كان هناك تحسن وهمي لتومان خامنئي بعد الانتخابات، ليتحول فورًا إلى تراجع حقيقي. فمسيرة الأسد وخامنئي السياسية، تصاحبها مسيرة متطابقة اقتصادية. إنها قوانين الحقيقة، ومفرزات التعاون الآثم، الذي يقود إلى وحدة الخراب.
بعيدًا عن الدعم الذي يتلقاه الأسد من خامنئي، بما في ذلك السلاح والمرتزقة وخبراء القتل، إضافة طبعًا إلى عصابات حزب الله الإيراني الشيعي، فما يعلنه من تبقى من أفراد إلى جانب الأسد على الصعيد الاقتصادي بين الحين والآخر، لا يخرج عن كونه الأداة الوحيدة التي يمتلكونها من أجل نشر شيء من الطمأنينة في الأوساط المحلية السورية. فهم لا يعرفون كيف يوقفون الانهيار المتواصل لليرة الأسد، والحق أنهم لا يملكون ما يساعدهم على ذلك. فقد وجد هؤلاء أن التصريحات عن دعم أصدقاء الأسد، يمكن أن تؤثر إيجابيًّا بصورة أو بأخرى، في حال هذه الليرة. الذي حدث، أن الجنون دب في أوساط من تبقى من المتعاملين في سوق الصرف في سورية، وقفز الدولار من 180 ليرة إلى 220 ليرة دفعة واحدة. هذا التطور، أوقع أعوان الأسد في فوضى عارمة، تسودها الأكاذيب، ولا سيما تلك الخاصة بتدخل البنك المركزي. ولتخفيف حدة هذه الأكاذيب ضخ البنك المركزي الخاوي من القطع الأجنبي، 50 مليون دولار، لم يمتصها السوق فحسب، بل لم تظهر آثارها بأي صيغة كانت.
بتصريح للرئيس الأمريكي باراك أوباما عن موافقة بلاده لتسليح الثوار في سورية، غاصت ليرة الأسد ومعها تومان خامنئي. ورغم أن مثل هذه التصريحات أضحت أشبه بتلك التي يطلقها عاجز عن الدفاع عن نفسه بالعبارة الشهيرة ''طيب سوف أوريك''، إلا أنها لعبت بالعملتين الفقاعتين. وبصرف النظر عن جدية الرئيس الأمريكي (في تصريحاته هذه) الذي استعذب الانزواء وترك الساحة الدولية للصغار وقطاع الطرق، من بوتين إلى خامنئي إلى المالكي إلى حكومة لبنان، إلا أن مصير الليرة والتومان تقرر بالفعل على أرض كل من سورية وإيران، الأمر الذي حول تعليقات المسؤولين الإيرانيين، ومعهم أتباع الأسد حول الأوضاع الاقتصادية، إلى مادة تغص بالتمنيات، وهي الخطوة التي تلي عادة الأحلام، والأوهام، والروحانيات، كما أنها مادة تقدم أوضح تفسير لأسوأ مشهد.
يخسر الأسد 500 مليون دولار شهريًّا من توقف عوائد النفط، ويخسر خامنئي شهريًّا خمسة مليارات دولار من جراء العقوبات على نفط بلاده. ومثل هذه الخسائر، لا تقدم رابحًا واحدًا في نظامين، ربطا مصيرهما مع بعضهما البعض. الأول يقتل ليستمر يومًا واحدًا في حكم لا يملكه، والثاني ينتظر عودة ''مهدي'' تاه حتى في طريق ''العودة''.
 

«الروحانية» لن تُنقذ الاقتصاد الإيراني

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






«من عجز عن إصلاح نفسه كيف يكون مصلحاً لغيره؟»
جمال الدين الأفغاني - أحد أعلام الفكر الإسلامي


كتب: محمد كركوتـــــي

ليس مهماً، إن كان الرئيس الإيراني المنتخَب ''الدكتور'' حسن روحاني، يحمل شهادة الدكتوراه أم لا. فهو يقول، إنه حصل على ماجستير في القانون الدستوري، من جامعة ''جلاسكو كالدونيان'' الاسكتلندية في عام 1995، عن أطروحة بعنوان ''السلطة التشريعية الإسلامية، بالإشارة إلى التجربة الإيرانية''. وفي عام 1999 حصل على شهادة الدكتوراه من الجامعة نفسها، لكن ''جلاسكو كالدونيان'' أكدت في توضيحات لها، أن روحاني لم يكن من طلابها في يوم من الأيام! بعض أنصاره (المتحمسين حتى الغباء)، روّجوا أنه تلقى تعليمه فيها قبل التسعينيات، دون أن ينتبهوا لأن الجامعة نفسها لم تكن موجودة قبل عام 1993، وهو تاريخ تأسيسها! على كل حال، هذا ليس جديداً فقد مر رؤساء حملوا شهادات عالية من جامعات لا يعرفون لغاتها! وربما لا يعرفون عناوينها.
ليس مهماً هذا الأمر في حالة روحاني، تماماً مثلما هو بلا قيمة مع غيره من مدعي الشهادات، و''مرضى'' الانتماء الجامعي، و''مدمني'' الادعاء الأكاديمي. فإيران لا تحتاج إلى حاملي شهادات (حتى ولو كانت صحيحة)، إنها في أمسّ الحاجة إلى حاملي عقول فيها من الحكمة، أكثر مما فيها من الحمق، وفيها من الإصلاح، أكثر مما فيها من الاعتدال. ورغم أهمية هذا الأخير في كل شيء، لكنه يظل بلا قيمة إذا لم يكن جزءاً أصيلاً من الإصلاح والتغيير المستحق. والعالم كله، يعيش أزمة حقيقية من جراء اعتدال أمريكي مريع، يقوده باراك أوباما، على حساب تغيير محوري حتمي يحتاج إليه العالم، ولا سيما في المناطق الساخنة منه. وسورية إحدى هذه المناطق. فهذا الاعتدال ''الأوبامي'' أنتج - على سبيل المثال - تطرفاً روسياً ظن العالم أنه انتهى إلى الأبد، وزاد من وتيرة التطرف في دول مارقة مثل إيران وكوريا الشمالية وزيمبابوي، وأنظمة مارقة، مثل المالكي في العراق، وحكومة لبنان، وغيرهما.
على كل حال، أعود إلى ''الدكتور'' روحاني، الذي انتُخب في الواقع من قبل الإيرانيين، ليس لاعتداله، بل بحثاً عمن ينقذ البلاد من الأزمة الاقتصادية المتجهة شيئاً فشيئاً نحو حالة يعتبرها البعض خراباً. فهو أمام معضلة اقتصادية، لم تخلقها العقوبات الغربية المفروضة على بلاده فحسب، بل أيضاً السياسات الاقتصادية التي اتبعها سلفه أحمدي نجاد، وساهمت بصورة أساسية - إلى جانب العقوبات - في استفحال المشهد الاقتصادي العام، وأوجدت معاناة معيشية متعاظمة، وصلت إلى حد التمرد في بعض المناطق الإيرانية. يضاف إلى ذلك، أن ''المرشد'' الإيراني، كبل بلاده بالتزامات مالية كبيرة لعدد من الأنظمة والعصابات التي يمولها، وفي مقدمتها نظام سفاح سورية بشار الأسد. ففي غضون عام ونصف العام - على سبيل المثال - حصل هذا الأخير على أكثر من عشرة مليارات دولار، إضافة إلى مجموعة من التسهيلات الائتمانية، والاتفاقيات التجارية وتلك الخاصة بتزويد الأسد وعصاباته بالوقود والسلاح. بينما تحتاج إيران في وضعها الراهن إلى كل دولار ممكن وغير ممكن. ماذا حصل؟ رفع المتظاهرون الذين خرجوا في شوارع البلاد، شعاراً له دلالات واضحة، ينبغي أن تدفع أي عاقل إلى استيعابها ''لا غزة ولا سورية ولا لبنان .. أرواحنا فداء إيران''.
في زحمة الحملات الانتخابية للمرشحين، لم يتجرأ مرشح واحد منهم بمن فيهم ''الدكتور'' روحاني نفسه على طرح حلول لأزمات الاقتصاد، أو حتى حل واحد لأزمة واحدة. لماذا؟ لأن المشهد الاقتصادي هو على الشكل التالي: تراجع سعر صرف العملة الإيرانية مقابل العملات الرئيسية الأخرى إلى 60 في المائة.. والتراجع مستمر. وصول معدلات البطالة إلى 45 في المائة.. وهي متواصلة. نسبة التضخم بلغت (رسمياً) 22 في المائة، لكنها في الحقيقة تساوي ضعف هذه النسبة. 30 مليون إيراني يعيشون تحت خط الفقر النسبي.. وأعداد هؤلاء في تزايد. ارتفاع أسعار المحروقات والمواد الغذائية الأساسية.. والارتفاع ماضٍ إلى أعلى. تشهد (بين الحين والآخر) بعض المناطق الإيرانية، تأخراً في رواتب موظفيها (قبل ستة أشهر تأخرت رواتب حتى العاملين في مفاعل ''بوشهر'' النووي)! يخسر الاقتصاد ما يقرب من خمسة مليارات دولار شهرياً.. والخسارة ستستمر طبقاً للعقوبات المتجددة على البلاد. توقف غالبية مستوردي النفط الإيراني عن استيراده.. لم يبق في الساحة إلا عدد قليل جداً من الزبائن. انخفضت شحنات النفط الخام إلى 700 ألف برميل يومياً.. وما زالت تنخفض، والولايات المتحدة تسعى علانية، لإيصال الإنتاج الإيراني، إلى 500 ألف برميل يومياً. وكما هو معروف، تشكل العوائد النفطية 80 في المائة من دخل الخزانة العامة.
سيتمتع ''الدكتور'' روحاني قليلاً جداً، بعدم تشديد العقوبات على بلاده من قبل الغرب، والسبب أن الدول الغربية تريد أن تمنحه فرصة. لكن ليست هناك أي مؤشرات على إمكانية أن يتقدم روحاني خطوة إلى الأمام بهذا الخصوص. لأنه، وإن احتل الرئاسة منتَخباً، لكنه لم ولن يحتل الحكم نفسه. هذه هي تركيبة الحكم في إيران. الذي يحكم هو المرشد، الذي بدوره حكم على نفسه بعودة ''المهدي التائه''.