الخميس، 20 يونيو 2013

القمح سلعة ليست قابلة لـ «التسييس»

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





 
«لا توجد أسئلة حمقاء. توجد إجابات حمقاء»
أوسكار وايلد أديب وكاتب أيرلندي
 
 
 
كتب: محمد كركوتـــي
 
بعد أيام قليلة من الفوز الطفيف للرئيس المؤمن جداً محمد مرسي في الانتخابات المصرية، انتشر مناصرو جماعة المرشد والشاطر والعريان في الأرجاء، ''يرشدون'' الجماهير إلى ''بركات'' الرئيس الجديد. ومن فرط ذهولهم بهذا الفوز، غاب عنهم أن ''البركات''– إن وجدت أصلاً- لا تحتاج إلى مرشدين، ولا إلى شركات إعلان لترويجها. إنها تتحدث عن نفسها، كما كانت مصر تتحدث عن نفسها. اليوم تتحدث مصر عن محنتها ومصائبها، وعن مخاوفها حتى من شح المياه. فالنيل بات مهدداً ليس من سد إثيوبي، لن يؤثر في الواقع على إمداداتها المائية، بل من قيادة سياسية ضعيفة مرتبكة، لا وزن لها في محيطها القاري (كما في محيطها العربي) يشجع حالها، حتى على تحويل مجرى النيل نفسه. هذا النهر، كغيره من الممتلكات الوطنية المحقة، يحتاج إلى قيادة حامية، لا قيادة تتسرب منها الإرادة، كما الماء في الكف.
على كل حال، ''البركات'' التي قاموا بتسويقها في أعقاب فوز مرسي، هي أن موسم القمح في مصر تضاعف فجأة! وأن من انتخب مرسي، انتخب في الواقع شخصاً مباركاً! (كانوا بالفعل يضعون فوق الكلمة الأخيرة تنويناً، تجنباً للخلط بينه وبين المخلوع مبارك). وفي زحمة حماسهم، لم يتنبهوا إلى أن موسم حصاد القمح، يأتي بعد ستة أشهر من حملتهم التسويقية الهزلية والهذيلة هذه! لقد أحصوا الإنتاج، وما زال المحصول بذوراً! ولأن الأمر كذلك، فلم يكن هناك أي رادع لهم، عندما أعلنوا أن مصر ستحقق الاكتفاء الذاتي من القمح في غضون ثلاث سنوات. والحقيقة كان هناك تشجيع ''مُرسي''، لأن الرئيس نفسه أعلن أن مصر قد تكتفي ذاتياً من هذه المادة الحيوية والحياتية في أربع سنوات. فما قام به أصحاب حملة ''البركات''، أنهم اختصروا زمن الاكتفاء سنة واحدة! والسبب أنهم يريدون مادة لكتيب يحمل عنوان ''إنجازات مرسي''. فلا بأس من حصاد القمح في عز الخريف، وجني المشمش في الشتاء والتين والتوت معه!
يقول الفيلسوف البريطاني برتراند راسل ''من علامات الانهيار العصبي، أن يظن الإنسان أن ما يفعله في غاية الأهمية''. هذا هو حال صانعي القرار في مصر. هذه الأخيرة هي أكبر مستورد للقمح في العالم أجمع، وسيصل مخزونها منه بنهاية الشهر الجاري، إلى أقل من مليون طن، والسبب لا يرتبط فقط بمشاكل الزراعة والإنتاج، بل متصل بصورة مباشرة بالصعوبات الهائلة في عملية شراء القمح من الأسواق العالمية، مع التراجع المخيف للقطع الأجنبي في البلاد. وطبقاً للجهات المحايدة، البعيدة عن ''مؤسسة البركات''، كانت المخزونات المصرية من القمح في نهاية السنة التسويقية 2011-2012 التى بدأت في الأول من تموز (يوليو)، وانتهت في 30 من حزيران (يونيو) الماضي 6.7 مليون طن تقريباً. أي أن قدرة البلاد على تخزين القمح تراجعت في عام واحد أكثر من خمسة ملايين طن!
تجري في مصر الآن عملية خطيرة جداً يمكن أن نسميها ''تسييس القمح''. وإذا كان ''اللعب'' بالسياسة يحمل مخاطره معه، فعلينا أن نتخيل المخاطر التي ستنجم حتماً عن ''اللعب بالقمح''. يتحدث بعض المزارعين المصريين من حقولهم وليس من ''مكاتبهم''، أن ما تروجه الحكومة ومعها ''حملة البركات''، لا يعدو عن كونه مجموعة هائلة من الأكاذيب. لماذا؟ لأن إنتاج القمح لم يرتفع في أراضيهم إلا ما بين 1 أو2 في المائة فقط. ويؤكد هؤلاء أنهم من ناخبي مرسي، لكنهم لا يمكن أن يكذبوا ما تطرحه أراضيهم. لهذه الأخيرة القول الحق والفصل، ولها أن تُكذب العالم أجمع. ويقول أستاذ الزراعة نادر نور الدين، الذي سبق له العمل مستشارا لوزارة التموين عام 2005: ''إنتاج القمح لم يصل إطلاقاً إلى مستوى غير مسبوق، فتلك أكاذيب ومبالغات. لا توجد شفافية، وليس هناك سوى الخداع. والرئيس يعمل لمصلحة حزبه''.
لكن هل يعمل مرسي فعلاً لمصلحة حزبه، بينما الأكاذيب السياسية مكشوفة، والناتج على الأرض جلي، و''البركات'' وهمية، والمحصلة معروضة على الجميع؟ الحصاد بدأ بالفعل، ومرسي الذي ''قرر'' أن يصل إنتاج القمح هذا العام إلى 9,5 مليون طن، بزيادة 30 في المائة، مقارنة بحجم الإنتاج العام الماضي الذي بلغ 7,5 مليون طن، عليه مواجهة الحقيقة، وعليه أن يصدر أوامره لوقف ''حملة البركات''، التي لن تأتي إليه إلا بالويلات. والغريب أنه لا يزال مصراً على ''قراره'' هذا، على الرغم من أن المساحات المزروعة خاضعة بالفعل للمسح الإحصائي، وفي أفضل الأحوال لن تنتج أكثر من ثمانية ملايين طن. إن إنكار رئيس دولة للحقيقة، لا يشبه بأي حال من الأحوال إنكار رجل جالس على مقهى شعبي لها.
الإنكار (كما يقول الأديب الأمريكي مارك توين) ليس نهراً يجري في مصر. والقمح لا يأتي ولا ينمو ولا يزيد ولا يتخزن ببركات مرسي، ولا حتى مرشده نفسه. بما في ذلك ''شاطره'' و''عريانه''. كما أن القمح سلعة ليست قابلة لـ''التسييس''.

الأربعاء، 5 يونيو 2013

صادرات إيران التي تدفع ثمنها

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






«الحقيقة تحمل معها الخراب أيضًا»
بيل واترسون مؤلف أمريكي




كتب: محمد كركوتــي

بالتأكيد، لعلي خامنئي مرشد ''الثورة'' في إيران، القدرة على إبعاد من لا يريد في الانتخابات الرئاسية الإيرانية. ولا شك في أنه يُبعد ويعزل، حسب القائمة التي توصل إليها مع ''المهدي المنتظر''، الذي قيل سابقًا إنه يتواصل معه بكل وسائل الاتصال، بما في ذلك الرسائل النصية والهاتف النقال! وبالطبع دون تحديد لشبكة الاتصالات التي يستخدمها. المهم أن رصيده يكفي، ورصيد المهدي يغطي. وبالتأكيد أيضًا، سيصل إلى الرئاسة الإيرانية من يقبله خامنئي. فالديمقراطية في إيران أصلها خمينية لا إغريقية. تبدأ من عند المرشد وتنتهي في أحضانه. وفي أسوأ السيناريوهات الحرس ''الثوري'' جاهز لإقرار ''الديمقراطية'' وتثبيتها. لماذا نذهب بعيدًا؟ سيناريو انتخابات عام 2009 ما زالت مشاهده تعرض نفسها بأشكال مختلفة.
لكن هذه القدرة الطاحنة للديمقراطية والحقيقة لا قيمة لها أمام الاستحقاقات الاقتصادية التي تواجه الرئيس ''الخامنئي'' المقبل. لا المرشد ولا زميله المهدي الضائع ولا الحرس الثوري ولا فيلق القدس، ولا كل المخبرين والمتجسسين، يمكنهم أن يغيروا المشهد الاقتصادي والمعيشي المستحق أو ذاك الذي استحق. ففي هذه الساحة لا تسود إلا الأرقام، ولا تظهر إلا عواقبها، ولا مكان لا للترغيب ولا الترهيب. كما أنه لا مساحة في الساحة لعمليات تجميل. فالحقيقة أبشع من أن تُجمل أو حتى تُخبأ. وليس أمام هذا الذي سيأتي ''ببركات'' خامنئي إلا مواجهتها. ومن هنا، يبدو أولئك الذين يطالبون مرشحي الرئاسة في إيران ببرامج لنجدة الاقتصاد يعيشون خارج الواقع بالفعل، أو أنهم يطلبون لمجرد الطلب فقط. لا توجد أجوبة. وكل ما يجري الآن أن المرشحين يتبارون ويتناطحون في الحديث عن أزمات الاقتصاد، لكن أحدًا منهم لم يجرؤ على تقديم حل لأزمة واحدة منها. فالذي يقدم الحلول ينبغي له أن يمسك ولو بمفتاح واحد لها، في حين أن المفاتيح مفقودة (ربما مع المهدي) والأقفال ضائعة.
مع المليارات التي أنفقها نظام الملالي لتصدير الثورة ولشراء ''جيوب'' إقليمية طوال السنوات، ولإنشاء العصابات المسلحة، ولتكوين الميليشيات الإرهابية، ولتجميع الخلايا النائمة، اكتشف أنها بلا عوائد، بل إن بعض عوائدها بات يأتي معاكسًا لاستراتيجية ''الاستثمار''. وهذا النوع من ''التصدير''، هو الوحيد الذي يدفع المُصَدِّر ثمنه! ورغم خسارة هذه ''الصادرات'' التي لا تحتاج إلى خبير اقتصادي لاستشرافها، إلا أن هذا النظام لا يزال مصرًّا على المضي في التصدير وتحمل الخسائر، إلى جانب (طبعًا) حماية صادراته! والحماية تستوجب الإنفاق في الحالة الطبيعية، فكيف الحال، وهي تمر بأسوأ حالاتها؟
ومع تصاعد العقوبات الغربية على إيران، لا يريد خامنئي الاعتراف بأن اقتصاد بلاده على شفا الانهيار، وأن المصائب التي كبل بها البلاد تسير بها إلى الخراب، وأن ''رئيسه'' المقبل سيكون متفرجًا على كوارث اقتصادية داخلية متجددة. ففي حين يتم التضييق (على سبيل المثال)، على صادرات النفط الإيرانية بصورة مؤذية بلا حدود، يظهر وزير مالية خامنئي ليتوعد العالم، بأن الاقتصاد العالمي سيدفع ثمن تصعيد العقوبات على النفط، وستتسبب تداعيات هذه العقوبات في تعطيل سوق النفط وليس إيران! وفي الوقت الذي يبلغ فيه حجم الخسائر المالية نتيجة للعقوبات والحظر خمسة مليارات دولار شهريًّا، يحصل سفاح سورية بشار الأسد، على إمدادات مالية إيرانية تبلغ سبعة مليارات دولار.
المرشحون لانتخابات الرئاسة الذين وردت أسماؤهم في قائمة خامنئي- المهدي، يعترفون علنًا بأن البلاد تحتاج وبصورة فورية إلى توفير أكثر من مليون فرصة عمل، لا لحل مشكلة البطالة، بل لاستقرار معدلها. ويقول حسن روحاني الذي يوصف بأنه محافظ معتدل، إن 800 ألف شاب من حملة الشهادات مستعدون لدخول سوق العمل، لكن ليس لديهم أي أمل في ذلك. ويعترف بعض المرشحين بأن قيمة الريال تدهورت أمام الدولار الأمريكي بنسبة 70 في المائة، وأن نسبة التضخم بلغت أكثر من 30 في المائة، علمًا بأنها في الواقع أعلى من ذلك بكثير، وكذلك الأمر في معدلات البطالة. في ظل هذا المشهد، تراجعت عوائد النفط الإجمالية إلى النصف، بعدما كانت في 2011-2012 قد بلغت أكثر من 100 مليار دولار.
الوضع الاقتصادي والمعيشي المأساوي في إيران ينتقل من رئيس إلى آخر، بأشكال أكثر سوءًا وفداحة. ومن حسن حظ أولئك الذين أبعدهم خامنئي عن الساحة الانتخابية أن يكونوا خارج هذه الساحة، بصرف النظر عن طبيعة ''اعتدالهم'' وتفهمهم للحالة العامة. والحلول الناجعة لن تأتي عبر أوامر خامنئي وشعاراته، كما أنها لن تظهر في ظل استراتيجية العناد والتطرف وتحدي الحقيقة، وإعلان مواقف باتت مثارًا للسخرية، حتى عند الذين ينجحون في إيجاد شيء ما في هذه الثورة. فبدلًا من تصدير ثورة يصعب بيعها بصورة طبيعية حتى في بلد المنشأ، ليس على خامنئي سوى ''استيراد'' الواقع والتعاطي معه بكل حقائقه. بالتأكيد لا أمل في ذلك، طالما أنه سيعيش إلى أن تحين نهايته، تلك الحالة الوهمية التي تجمعه، سلكيًّا ولا سلكيًّا بالمهدي الضائع!