السبت، 30 مارس 2013

الاقتصاد المصري من وكالات التصنيف إلى «العرَّافين»

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«لا تضيع الوقت في الضرب على الجدار، على أمل أن يتحول إلى باب»
كوكو شانيل مصممة ومؤسسة دار شانيل



كتب: محمد كركوتــي


طال انتظار حكومة الرئيس المصري المؤمن محمد مرسي، لوفد صندوق النقد الدولي. فالوفد (حتى الآن) لم يحجز تذاكر سفره إلى القاهرة، رغم جاهزية مكان إقامته فيها. ولو أراد غرفاً في القصر الجمهوري بدلاً من الفنادق لتوفرت فوراً. ولا توجد حتى مواعيد افتراضية للسفر. فالمقاعد شاغرة على الدرجة الأولى، لكن لا نية لأحد بإشغالها. فالطائرات الآتية إلى مصر فارغة حتى من السياح. وعندما تفرغ من هؤلاء، تفرغ ''أوتوماتيكياً'' من مسافري ''الصندوق''، ومن أولئك الباحثين عن الاستثمارات. لا داعي للذهاب إلى المطار لاستقبال القادمين، طالما أن الهاتف المنتظر لم يرن بعد. وقد يكون حاله، كحال المهدي المنتظر. والمشكلة، أن حكومة هشام قنديل الحاضرة في ''قاعات'' الانتظار، غائبة عن الساحة! وربما لأول مرة في التاريخ تغيب حكومة من مواقعها، لانتظار غائب تدل كل المؤشرات على أنه لن يأتي.
في الانتظار، تلقي وكالة ''موديز'' للتصنيف الائتماني ''قنبلتها'' في وجه المنتظرين الغائبين، لتعلن خفضاً مريعاً جديداً للتصنيف الائتماني لمصر من درجة B3 إلى درجة CAA1، بعد أسابيع قليلة فقط من تخفيض سابق. والأسباب تُحصى لكنها كثيرة، وفي مقدمتها ''غياب القدرة على التنبؤ بالسياسات المالية والاقتصادية ونتائجها''. وهذا وحده عزز عدم قدرة حكومة مرسي- قنديل على تأمين قرض صندوق النقد الدولي الذي تسعى إليه لاستعادة توازن اقتصادها. وللذين لا يهتمون بدرجات التصنيف، فهذه الوكالة الكبرى تعتمد درجة C كآخر مستوى لدرجات التصنيف، وحسب التفسير الاقتصادي، تعني هذه الدرجة ''التزامات ضعيفة، وتحمل مخاطر ائتمانية مرتفعة جداً. والمؤسسات التي تحمل هذا التصنيف قد تكون متأخرة مالياً وعن السداد''. والتصنيف الجديد لمصر، ينقلها إلى مصاف الدول الفقيرة، على حساب توصيف النامية.
ليس أمام حكومة مرسي الآن سوى ''العرافين'' الاقتصاديين، لكي ''يعرفوا'' درجات التصنيف الائتماني للبلاد. ففي النظام نفسه، من يعتقد أن محصول القمح تضاعف (حتى قبل موسم الحصاد!)، ببركة الرئيس مرسي. ووفق هذا الاعتقاد، قد نرى مشكلة عويصة في مصر، ترتبط بكيفية التخلص من فائض القمح! هل ترميه في البحر أو النهر، أم تهبه للدول الفقيرة؟! ''العرافون'' الاقتصاديون، هم الوحيدون الذين يمكنهم أن يطمئنوا النظام الحاكم في مصر، وربما اضطروا إلى القيام (بعمل) لجلب النحس على وكالات التصنيف. ففي إحدى القنوات التلفزيونية المصرية المؤيدة لمرسي، أكد ثلاثة أشخاص يحملون شهادات الدكتوراه، أن الرئيس ''معمول له عمل''! ونادى آخرون بضرورة العمل ليس لحل مشكلة السولار (المازوت) في البلاد، بل لـ ''فك العمل''! والسولار، ليس كافياراً ولا مستحضراً لتلميع الأحذية، إنه المادة التي أثرت بصورة مخيفة على ماذا؟ على الصناعة والزراعة والنقل وحركة المرور، وكل القطاعات المرتبطة بصورة مباشرة أو غير مباشرة به.. وحتى الصيد.
قدمت حكومة هشام قنديل، الذي قال يوماً: ''لا أعرف لكن أنا متأكد مع أني كنت شاكك!''، برنامجاً اقتصادياً، امتنع خبراء صندوق النقد الدولي على تكملة قراءته. فالعناوين الفرعية وحدها في هذا البرنامج، كانت كافية للوصول إلى الاستنتاج النهائي حوله. ولأنها حكومة ضعيفة (بل وغائبة)، فقد ظنت أنها قادرة على استدراج ''الصندوق''، في حين أنها لو قرأت التاريخ من سطحه لا من عمقه، لعرفت فوراً أن الذي يستدرِج في هذه الحالة هو ''الصندوق'' لا الطرف الآخر. والحقيقة، هذه استراتيجية ثابتة متبعة، تجلب معها مخاطر كثيرة جداً، مع صمامات أمان قليلة جداً. لا يحتاج الأمر إلى خبراء متعمقين في قضايا الإقراض. نقرة واحدة على الشبكة الدولية تأتي المعلومات المطلوبة، خصوصاً في فترة الانتظار الطويلة لاستقبال وفد، لن يأتي سريعاً، وغالباً لن يأتي.
تعيش مصر اليوم، حالة غريبة. ففي الوقت الذي لا غنى لها فيه عن وجود حكومة احترافية، جلب مرسي معه حكومة موالية، ولم يعرف أن مرحلة إعادة البناء تحتاج إلى كل العمال بدوام كامل. لقد ''أخون'' – من إخوان- الحقائق، وهو أمر لا ''يُؤَخْوَن'' ولا يُسيَس. لا أحد يتوقع الريادة من الرئيس المصري ''المنتخَب طفيفاً''، ليس فقط لعدم قدرته على التحدث بلغة أجنبية مفهومة، ولكن لأنه قدم شكراً مجلجلاً لباكستان عن دورها العسكري في حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973! بينما لم ترسل (في الواقع) حتى ملحقاً عسكرياً لسفارتها في القاهرة. والريادة لا تأتي من قوة (أو هول) القيادة، بل من حكمتها. وهذه الأخيرة، مفقودة.
مصر اليوم، ليست على مفترق طرق، وذلك لغياب الطرق لا المفترق. يمكنها أن تنهض، شرط أن تزيل وزارات ولجان ''الأوهام والعرافين'' التي تصنع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وهي تحتاج في هذه المواقع إلى عارفين لا عرافين.. وإلى حرفيين لا موالين، وإلى رئيس وزراء، ''يعرف ومتأكد.. لكنه ليس شاككاً''. وإلى رئيس ينبغي أن يدرك أن مصر كلها للجميع، لا للجماعة. غير أن السؤال الأهم يبقى ''هل يتركونه ليدرك''؟!

الثلاثاء، 19 مارس 2013

«صمود» الاقتصاد السوري آتٍ من عدم وجوده

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«الاقتصاد الحر، يحترم كرامة الفرد. يكافئ بعدالة، ويبني التضامن بين المواطنين»
بول راين رئيس لجنة الموازنة في الكونجرس الأمريكي


كتب: محمد كركوتـــي

يسأل البعض لماذا لم ينهر الاقتصاد السوري بعد عامين من حرب الإبادة التي يشنها سفاح البلاد بشار الأسد؟ ويقول آخرون، في سياق تثبيتٍ آخر للأكاذيب التي اعتمدها نظام الأسد (الأب والابن) على مدى أكثر من أربعة عقود: إن الاقتصاد صمد لعامين، وهذا يؤكد بالتالي الكذبة الكبرى التي عاشتها سورية، أن الأوضاع الاقتصادية سيئة بحكم السياسات الدولية تجاهها. ويظهر (على الطرف) آخرون، ليؤكدوا أن الاقتصاد السوري كان دائماً قوياً، لولا الفساد (ومعه النهب المنظم) الذي مأسسه النظام في سنوات طويلة. ويرى البعض أسباباً أخرى لـ ''صمود'' الاقتصاد السوري، ليست واقعية في أغلبيتها، وتطفو عليها مشاعر الكراهية المبررة، مع استنتاجات مبالغ فيها. وهذا عموماً يحدث في نطاق حالة مأساوية كالتي تمر بها سورية اليوم. المبالغات، الاستنتاجات ''الحالمة''، المقاييس العاطفية، المعلومات المضللة، القوة الوهمية، الممتلكات ''الفالتة''.. كلها عناصر تسكن هذه الحالة. هناك حتى في أوروبا الراشدة، من يعتقد أن الزعيم النازي أدولف هتلر، ما زال حياً يرزق!! وفي الولايات المتحدة نفسها، من يؤمن بأن المغني الشهير ألفيس بريسلي، لم يمت، ولكنه سافر للعيش على سطح القمر!
هناك إجابة واحدة قصيرة عن السؤال المحوري ''لماذا صمد الاقتصاد في سورية''؟.. وهي ببساطة: ''لا يوجد اقتصاد في الواقع''. وفي حالة عدم وجود الشيء، لا يمكن القياس عليه، أو تحليله أو نقده أو تفصيله أو حتى تجاهله. وكل ما كان مرتبطا به، بما في ذلك الاستثمارات الأجنبية، و''الانطلاقات'' السياحية، ووجود فروع لمصارف لبنانية.. وغير ذلك، كان وهماً، وفي أفضل الأحوال، كان ''صدى الصمت''، ولم يكن ''صدى الصوت''. غير أن هذا، لا يعني أن نظام الأسد بلا روافد اقتصادية وتمويلية، مكنته من مواصلة حرب الإبادة لمدة عامين، إلى جانب تلكؤ المتلكئين، في الإقدام على مساعدة شعب يُباد، وفي إطالة أمد آلام تعصف، وخراب يسود. ورغم أن عقوبات هؤلاء المفروضة على الأسد، أحدثت أضراراً لهذا الأخير، إلا أنها لم ترق (كغيرها من العقوبات التي فُرضت على أنظمة مماثلة) إلى مستوى يمكنها من أن تكون بمنزلة معول مباشر في إزاحته، خصوصاً في ظل وجود ثغرات منتشرة في جسم آليات التنفيذ.
رواتب شريحة من الموظفين في سورية تتأخر، وقد حُرمت المناطق التي لا يسيطر عليها الأسد من رواتب موظفيها، الليرة السورية تسلمت الخط البياني الهابط بسرعة قياسية، بينما تعلق التضخم بالخط البياني المتجه إلى الأعلى بقوة صاروخية. خزانة البنك المركزي فارغة، المواد الاستهلاكية الرئيسة شحيحة، الوقود ''ينقرض''. الدواء مفقود، والأسد وعصاباته يسرقون حتى المساعدات الطبية، إما لبيعها أو لتوزيعها على أعوانهم. بل إن اللقاحات الواجبة، تذهب إلى أطفال الموالين لا إلى ذرية الوطن! ليس هناك حراك مصرفي يذكر، في حين أُغلقت أغلبية المصانع في البلاد. لا توجد في سورية منطقة زراعية طبيعية الآن. الموجود فقط أراض زراعية تنتج حسب موقعها، لا وفق خصوبتها. دون أن ننسى أن السياحة التي تمثل 12 في المائة من الدخل الوطني – إن استحق هذه الصفة أصلاً- باتت تفتقر إلى سائح واحد لا اثنين! أين الاقتصاد الصامد إذن؟!
العقوبات الدولية المفروضة على الأسد، لم تنل من روافده الاقتصادية التمويلية. وهذه الحلقة الأضعف للعقوبات بعد آلياتها الصدئة. وحكومات الدول التي فضلت الوقوف مع القاتل (كل لأسبابه) فتحت صنابير أموالها، بمن فيها تلك التي تعاني أزمات مالية واقتصادية مريعة. إلى جانب (طبعاً) غياب الإنفاق العام، وانحطاطه إلى أدنى المستويات. ويحصل الأسد حتى اليوم، على الأموال اللازمة له لاستكمال حرب الإبادة، ممن تبقى من ''رجال أعمال''، لا يمكنهم أن يتكسبوا هذه الصفة، إلا في بيئة فاسدة كتلك التي وفرها الأسد الأب والابن، فضلاً عن الصناعات التي لا تزال تُدار (بصورة أو بأخرى). ونظراً لأهمية هذا الرافد التمويلي الأخير، فقد اضطر الأسد للطلب علانية، بنقل المصانع إلى المناطق التي يسيطر عليها، والأصح إلى المناطق التي لا تزال موالية له طائفياً، وتحديداً في المناطق الساحلية من البلاد.
لا اقتصاد في سورية. وما هو موجود ليس سوى حراك مالي، يستند في كل نشاط له، إلى ''النظرية'' الاقتصادية لـ آل كابون، وغيره من قادة العصابات الخارجة عن القانون والأخلاق. ولا غرابة في ذلك. فهذا النظام، لم يحول فقط الاقتصاد إلى قطاع ''مافيوي''، بل جعل من جيش البلاد نفسه عصابة كبيرة بعديدها وغياب أخلاقها. وأولئك الذين لا يزالون يسألون لماذا لم ينهر الاقتصاد؟ غاب عنهم، أن الاقتصاد (أي اقتصاد)، يحتاج أيضاً إلى بلد كي يحظى بهذه الصفة. كانت سورية قبل الثورة الشعبية العارمة، أكثر من ''مزرعة'' وأقل بكثير من بلد. وهذه الثورة لم تقم إلا من أجل أن يستعيد البلد مقوماته، وفي مقدمتها الاقتصاد. إن ما يجري ليس سوى إعادة ولادة، لكنها صعبة.. صعبة جداً.

الثلاثاء، 12 مارس 2013

واشنطن.. «تخدير» صندوق النقد دون عملية جراحية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«العالم محكوم بمؤسسات غير ديمقراطية: صندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية»
خوسيه ساراماجو - شاعر وأديب برتغالي


كتب: محمد كركوتـــي


على حكومات الصين والبرازيل والهند، وغيرها من تلك التي تستحق دورا أقوى وأكثر أهمية في صندوق النقد الدولي، أن تنتظر أكثر، كي تلوح أمامها (وأمام العالم) بوادر الإصلاحات التنظيمية والإدارية والتصويتية في ''الصندوق''. هذه القضية باتت تشكل أزمة صامتة مرة وصاخبة مرات عدة، وتتشابه (بصورة أو بأخرى) مع مجلس الأمن الدولي، في مسألة تمرير القرارات، مع فارق واحد، وهو أن صوتا واحدا في ''الصندوق'' هو الذي يتحكم بالنقض (الفيتو)، ''تصيح'' به الولايات المتحدة، بينما هناك خمسة أصوات ''تصيح'' بهذا (الفيتو) في المجلس المذكور. واحد لأمريكا طبعا. المصيبة الأكبر أن تنسحب ''معطلات'' إصلاح ''المجلس''، على ''معطلات'' إصلاح ''الصندوق''. وقد يعني هذا، أن حربا عالمية ثالثة باتت ''ضرورية'' لإتمام الإصلاح! كما يحب أولئك الغاضبون من واشنطن، أن يتخيلوا.
لعل السؤال الأكثر اعتدالا فيما يتعلق بصندوق النقد الدولي، هو ذاك الذي يُطلق على الشكل التالي ''هل إدارة الصندوق تجاوزها الزمن؟'' وهي صيغة لا علاقة لها بالمتطرفين في الإصلاح المنشود، أو المانعين له. كما أنها محقة، خصوصا أن ''الصندوق'' لم يشهد إصلاحاً أو تعديلاً تنظيمياً - إدارياً يذكر منذ تأسيسه في العام الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية. ظل مثل شركة عاملة ينتظر الورثة موت الأب لتطويرها، فهذا الأخير (عادة) يرى في التطوير موتا ليس للشركة فحسب، بل له شخصياً. ومع التغير المستحق للأزمنة، فإنها تتجاوز كل ثابت، وكل رافض للتغيير، دون أن ننسى، أن قوة الثابت توفر له مساحة زمنية للمقاومة. قد تطول، لكنها في كل الأحوال لا تدوم.
ومن هنا، يمكن القول دون تردد إن الزمن تجاوز إدارة ''الصندوق''، لكن هل لا تزال هذه الإدارة تملك ''الأسلحة'' لمواصلة المقاومة؟ وبصورة مباشرة، هل ستواصل الولايات المتحدة مقاومتها للتجديد الإداري والتنظيمي في ''الصندوق؟ فإذا كان الجواب بـ ''نعم''، كيف يمكن لإدارة باراك أوباما المضي قدماً في تسويق ''سياسة الإشراك'' التي ابتكرتها منذ وصولها إلى الحكم؟ إنها ''سياسة'' متميزة حقاً، لم تشهد الولايات المتحدة مثيلاً لها في تاريخها، لكنها لا تزال ''ممنوعة'' من دخول ''الصندوق''! ما يترك المجال لتساؤلات عديدة. في مقدمتها، هل اكتفت واشنطن بالسماح بـ ''أوروبية'' مدير الصندوق فقط، بصرف النظر عن جنسيته؟ الواضح تماماً، أن الولايات المتحدة ليست مستعدة بعد لخوض غمار التغيير والتجديد في هذه المؤسسة العالمية المحورية، بصرف النظر عن بعض إخفاقاتها التي أظهرتها الأزمة الاقتصادية العالمية على السطح.
الذي يحدث الآن، أن إدارة أوباما تتبع أسلوب التخدير في هذه المسألة دون أن تُشرع بتنفيذ العملية الجراحية، وتحاول أن تستوعب ما أمكن لها من الانتقادات (حتى الهجوم) باعتبارها السد المنيع لإصلاح ''الصندوق''. فلا غرابة إذن، أن نسمع تصريحات لمسؤولين كبار من بينهم وزير الخزانة الأمريكي نفسه، يعلن عن ماذا؟ عن ''ضرورة منح المزيد من الأصوات للدول الناشئة!''. يُذكِّر هذا بتصريحات أمريكية تاريخية حقاً عن أن ''أيام بشار الأسد معدودة''، متى؟ منذ بدء الثورة الشعبية ضده. وهو ما يترك المجال أمامنا، للتساؤل. هل الأيام المقصودة ضوئية أم أرضية؟ وعلى هذا المنوال يتحدث الأمريكيون عن إعطاء الدول الناشئة المزيد من الأصوات، ولكن مع وقف التنفيذ، بل وفي ظل ''تجميد'' أمريكي لأي تغيير مطلوب. وفي كل المناسبات لا تخفي مجموعة هائلة على الساحة الدولية كـ ''مجموعة العشرين'' امتعاضها من السلوك الأمريكي. فقد وصفت ''التجميد'' الأمريكي بأنه ''يضع سمعة صندوق النقد على المحك، ويؤثر في مصداقية قراراته''.
ومن الواضح، أن إدارة الصندوق نفسها ممثلة في مديرتها الفرنسية كريستين لاجارد، بدأت تشعر بالحرج الشديد من مسألة جمود عملية إصلاح صندوق النقد. ويبدو أنها استنفدت كل المفردات ''التخديرية'' من جانبها بهذا الخصوص، لأنها اضطرت مؤخراً لما يمكن أن نصفه بالاعتراف، حين قالت ''نرى نقطة الوصول. إنها قريبة، وأحض مجدداً الدول الأعضاء على عبورها''! ولكن مهلاً، هل هناك معابر حقاً؟! الجواب ببساطة هو: لا كبيرة. وإذا كانت هناك معابر بالفعل، فإن لاجارد (وغيرها)، لا تملك في الواقع صلاحيات على ''حراس'' المعابر. بالطبع لا تستطيع أن تقول: نحن معكم، ولكن الولايات المتحدة ليست كذلك. وعلى هذا الأساس لم تشر مديرة ''الصندوق'' ولا مرة واحدة، إلى الطرف المعطل.
لن تسير الأمور على صعيد إصلاح صندوق النقد بسرعة، بصرف النظر عن التصريحات الوهمية التي تصدر من هنا وهناك. ولهذه المشكلة التاريخية فرعان. فرع يتعلق بالإدارة الأمريكية، والفرع الآخر يرتبط بالكونجرس الأمريكي. فحتى لو وافقت إدارة أوباما غداً على الإصلاح والتغيير، فإن الأمر (حسب الإجراءات المتبعة) يتطلب موافقة الكونجرس الذي لن يمنحها بسهولة، هذا إذا قرر منحها فعلاً. ليس على الصين والبرازيل والهند ومجموعة العشرين سوى الانتظار. فالتخدير الأمريكي هو السائد حالياً لـ ''الصندوق'' المريض.

الأربعاء، 6 مارس 2013

بسبب القرض .. لا «تكفير اقتصادي» في مصر

المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«الوضع في مصر مستقر. نحن جاهزون للسياحة والاستثمارات»
محمد مرسي رئيس مصر



كتب: محمد كركوتـــي

يرى الرئيس المصري محمد مرسي، الوضع في بلاده مستقر في محاولة (تحمل بؤسها معها) لاستعادة سياحة ''هاربة'' من مصر، واستثمارات سبقت السياحة في هروبها، لكن الأمر على الأرض ليس كذلك. فالوضع غير مستقر، والأزمات الاجتماعية الناجمة عن الفوضى الاقتصادية تتزايد، والغلاء في ارتفاع، والاحتياطي من القطع الأجنبي في انخفاض، وبعض المعاشات في تأخر، والجنيه في ''تهالك''، والبطالة في أوجها، والحكومة منشغلة في إقناع صندوق النقد الدولي، بأنها لا تعتمد على قراءة الكف ولا البلورة السحرية، والضرب بالرمل، في رسم صورة مستقبلية للاقتصاد المصري، مقبولة لدى الصندوق. بعض التفسيرات المتداولة في مصر لما يجري للرئيس مرسي، أن ''عملاً معمول له''، وهذه التفسيرات يمكن أن تصادفها بسهولة على بعض المحطات الفضائية الموالية لمرسي! المصيبة هنا، تكمن في أن يترك هؤلاء العمل الحقيقي، ويركزوا اهتمامهم بـ ''فك العمل''.
بات القرض المؤجل أو المتعثر أو الصعب من صندوق النقد الدولي لمصر، ''نجم'' الاقتصاد والسياسة في البلاد. فالذي يتناول حيثياته وتداخلاته وطبيعته، ليس مرسي ولا رئيس وزرائه ولا المسؤولون المكلفون في متابعة القرض فقط، بل أيضاً ''صبيان'' المقاهي. والمثير أن بعض هؤلاء، أعطوا شرحاً يوازي قيمة الشروحات المقدمة من المختصين على صعيد القرض المنشود. وفي بعض الأحيان يفوقها قيمة! وليس غريباً (بالفعل) أن يطلق أحد ''صبيان'' المقهى حواراً قسرياً معك حول هذا الأمر، إذا ما عرف أنك كاتب. وليس صعباً، أن تعثر على نقاط ذات قيمة من كلامه. بما في ذلك، تأكيداته على ضرورة أن ''تمسك البلد'' حكومة ''تكنوقراط'' احترافية، في المرحلة الراهنة، تُبعد اقتصاد البلاد عن آثام ''أخونة'' المؤسسات والسياسات، وعن مضار الصراع السياسي، خصوصاً أن مرسي لا يستطيع أن يدعي تمسكه بأغلبية ساحقة أو كبيرة. فقد وصل إلى الحكم بفارق ضئيل جداً، مستفيداً من خوف كامن في الشارع المصري، من أي شخصية حُسبت في يوم من الأيام على نظام المخلوع حسني مبارك. فهو في الواقع استفاد من هذا الأخير بصورة مباشرة.
ومن المفارقات أن مرسي ونظامه، الذي يعيش أحلك أيامه الاقتصادية (والسياسية أيضاً)، وجد ضرورة لـ ''مغازلة'' فلول نظام مبارك من رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال، بصرف النظر عن نظافة أو قذارة هذه الأموال. فقد أرسل لهم، في زحمة الوصول إلى صيغة مقنعة لصندوق النقد الدولي، إشارات واضحة بالعودة المضمونة إلى الوطن، دون ملاحقات أو اتهامات أو ''تكفير اقتصادي'' إن جاز التعبير. فالذي يطلب من مفتي الجمهورية فتوى تحلل قرض ''الصندوق'' الذي لا يزال في مرحلة الوهم، لا مانع لديه في ''مغازلة'' الشخصيات القبيحة. فهو أمن الفتوى المطلوبة، وينتظر الآن شجاعة هذه الشخصيات. لماذا؟ لأنه ببساطة لا يستطيع الاستمرار في قيادة البلاد، بينما كل الأشياء فيها التي تستوجب الارتفاع تنخفض، والعكس صحيح، كل الأشياء الأخرى التي تتطلب الانخفاض ترتفع. والإخوان (بشكل عام) يحبون الشيطان وقت اللزوم، ومن هذا الحب ما أحيا، وإن قتل.
إن الـ 4.8 مليار دولار أمريكي (مجموع قرض ''الصندوق'')، بات المحور الاقتصادي الرئيس عند الرئيس في مصر. ولذلك كان على حكومة مرسي أن تقدم برنامجاً اقتصادياً مقنعاً لـ ''الصندوق''، لتسهيل الوصول إلى القرض. وهذا البرنامج، هو عبارة عن توقعات مالية للحكومة، وفقاً للخطة المعدلة، التي تستند إلى إجراءات متعلقة تعتزم الحكومة تنفيذها. وإلى أن يأتي وفد ''الصندوق'' إلى مصر، على الرئيس المؤمن مرسي، أن يمهد الطريق بما يملك من قدرات وعروض، وقبل هذا وذاك، بما يمكنه أن يحقق على صعيد إزالة المخاوف والشكوك التي تحوم حول جودة إدارته للبلاد. فالقرض متوفر لكنه ليس جاهزاً بعد، والمشكلة التي تواجهها حكومة مرسي، هي المواءمة بين رضا ''الصندوق'' ورضا المواطن المصري. فما يُرضي الأول غالباً لا يُرضي الثاني. ورغم ''سطحية'' النظام القائم في مصر، في فهم السياسة والتاريخ، إلا أن استعادة أحداث 18 و19 كانون الثاني (يناير) عام 1977 من الذاكرة لا تحتاج إلى خبير. والإعفاءات الضريبية التي تضمنها البرنامج المقدم لـ ''الصندوق''، قد لا تكون ضامناً لرضا المواطن، خصوصاً في ظل تآكل مفرط للوضع المعيشي لهذا المواطن.
يعتقد رئيس الوزراء هشام قنديل، الذي قال يوماً :''لا أعرف، بس أنا متأكد، مع إني كنت شاكك''، أن بإمكانه رفع احتياطي البلاد من القطع الأجنبي إلى 19 مليار دولار بنهاية شهر حزيران (يونيو) المقبل، بعد أن تآكل هذا الاحتياطي ليصل مع بداية العام الجاري إلى 13.9 مليار دولار، بسبب النجدة المتواصلة للجنيه المتراجع. لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فضلاً عن أن قيمة قرض ''الصندوق'' لن تكون كافية لسند الاقتصاد الوطني لمدة طويلة. والحقيقة أن هذا القرض معرض للامتصاص الفوري، من اقتصاد بات مثل الفهوات السوداء في الفضاء. دون أن ننسى، أن القروض التي تنفع في دولة، ليس بالضرورة أن تكون نافعة في دولة أخرى، خصوصاً في مصر، التي يوجد فيها الآن من يعتقد أن الرئيس ''معموله عمل''.