الجمعة، 25 يناير 2013

البقاليات الفضائيات التحريضية

(المقال خاص بمجلة "جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج")








"الحياة لا تقلد الفن. إنها تقلد القنوات التلفزيونية السيئة"

وودي ألان ممثل أمريكي






كتب: محمد كركوتـــي

حسناً، بات إطلاق قناة فضائية عربية، أرخص تكلفة (طبعاً مالياً فقط)، من إطلاق أي وسيلة إعلامية أخرى، وفي أفضل الأحوال يوازيها من حيث التكاليف والإنفاق. فالفضاء واسع، والمؤسسات التي توفر خدماتها لهذه القنوات في النقل والبث، جاهزة طالما أن الفواتير تسدد في وقتها، في ظل مغريات كثيرة لاستقطاب المزيد من القنوات، بصرف النظر عن المعايير (بل والأخلاقيات) التي ينبغي أن تحاكي محتوى الفضائيات وأهدافها المعلنة والسرية. ومع إنخفاض تكاليف إطلاق قناة فضائية عربية، ترتفع بصورة مريعة التكاليف الناجمة عما تقدمه على المجتمع كله، بكل شرائحه وانتماءاته. وعلى وجه الخصوص، تلك "البقاليات" الفضائية التحريضية، التي تتعاطى مع الدين كمادة وحيدة في "خدماتها" المشينة، بأسلوب حاسم قاطع لا جدال فيه! في الواقع تقدم هذه الفضائيات مادتها كمُسَلَمات، لا تقبل الجدل، ولا النقاش، ولا حتى المراجعة في معلومة هنا وأخرى هناك. فما تقوله هو الحق المولود من الحقيقة! وغير ذلك لا قيمة له!
تجاوزت فضائيات التحريض، بعددها وقبحها، فضائيات الشعوذة والسحر، وتلك التي تخصصت في "حل" المشاكل المستحيلة عبر الشاشة، ولا بأس عبر الهاتف، التي سادت الفضاء العربي في الأعوام الأخيرة من العقد الماضي. وبدأت تنافس إلى حد كبير (في العدد والضرر) فضائيات الحظ والألغاز، وتلك التي تمنحك جائزة مالية كبيرة، إذا استطعت أن تحدد فروقات صورة واحدة في نسختين، لهيفاء وهبي أو نانسي عجرم أو جينفر لوبيز أو أنجلينا جولي.. وغيرهن. فضائيات التحريض هذه تقترب بسرعة فائقة (من حيث العدد أيضاً) من فضائيات الغناء المريع، التي تبقى أضرارها (رغم بشاعتها الفنية، وملوثاتها الصوتية) أقل حدة وخراباً من تلك التي تحرض على الكراهية والأذى والقطيعة، بل وحتى القتل. إنها مصيبة متعاظمة، لا تزال أقوى بكثير من الحملة (أو الحملات) ضدها، ومن جهود الصادقين فعلاً لقطع بثها، أو وضع حد لقباحاتها. فهذا الانتشار السرطاني لها، يتحول شيئاً فشيئاً، إلى جزء أصيل من الحراك التلفزيوني الفضائي العربي. ومعه أصبحت الكراهية وجهة نظر، والحقد رأي، والقتل حق، بدلاً من التسامح والمودة، وحق الفرد (أياً كان) في العيش.
أصحاب فضائيات التحريض، هم الوحيدون الذين لا يرمون زبالتهم جانباً، بل يقدمونها على شاشاتهم المشينة. ولو طبقت عليهم المعايير والأنظمة الخاصة بالبث التلفزيوني في الدول الراشدة، لما بقيت قناة واحدة منها على الهواء، هذا إن لم يقدم أصحابها إلى المحاكم، بتهم شتى، أقلها نشر وبث الكراهية. علماً بأنه، لايزال هناك عدد كبير من العرب، يعتقدون بأن الدول الغربية (على سبيل المثال)، لا تطبق معايير صارمة على البث التلفزيوني. ولو قورنت معاييرها بالفعل مع المعايير العربية في هذا المجال، لوجدوا أنها أقسى وأقوى، وأشد صرامة، وأن العقوبات التي تُفرض على المخالفين، هي أيضاً كذلك، أشد وأقوى وأقسى. لا توجد حلول وسط. فالهيئات والجمعيات الرقابية الحكومية وغير الحكومية، لا تساوم في أمر تعتبره محورياً للحياة العامة والمجتمع.
ماذا تقدم فضائيات التحريض؟ الطائفية بأبشع صورها وأشكالها بل وألفاظها. وتقدم أيضاً المادة الكفيلة بما يمكن وصفه "شقاق المذاهب"، إلى جانب الحض الممنهج على التكفير، وإقصاء الأفكار التي ليس بالضرورة أن تكون معارضة لها، بل لا تتفق معها بشكل متطابق! تعتمد التجهيل استراتيجية لها، وتتعاطى مع التفكير كشيء مدنس ملوث، بل بعضها ينظر إليه كسرطان ينبغي استئصاله، ومسؤولية المتلقي (إذا كان مؤمناً صالحاً!!) أن يُجري عملية الاستئصال هذه! إنها ببساطة مجموعة من الاستديوهات تبث أبشع مادة بأقبح صورة ممكنة، تصل إلى كل المتابعين لها من كل الشرائح المجتمعية، بمن فيها شريحة الأطفال التي تحظى بكمية هائلة من المواد التلفزيونية القاتلة.
أمام هذه الحقائق، تبدو الفضائيات الأخرى (مهما كانت أضرارها) أقل أذى. وتنطلق الأسئلة في الوقت نفسه، حول الأسباب التي تجعل فضائيات التحريض مستمرة ومتواصلة ومتوالدة ومؤثرة. صحيح أنه لا ينقص أصحاب هذه الفضائيات التمويل. فتمويل الكراهية دائماً متوفر بدون حساب، ودعم الحرب ضد التسامح لا يتراجع. لكن الصحيح أيضاً، أن هؤلاء لا يملكون كامل الأدوات الفنية لتحقيق أهدافهم بفضايات مريعة. وهنا تتحول الأسئلة إلى مؤسسات الاتصالات الفضائية العربية، التي توفر لكل القنوات في المنطقة إمكانية البث والوصول إلى كل المناطق العربية قاطبة. ولعل السؤال الأهم الذي يطرح على الساحة الآن هو: إذا استطاعت هذه المؤسسات أن توقف فضائيات الشعوذة والسحر وجلب الحظ وقراءة الكف والبلورة، وهي بذلك قامت بواجبها الاجتماعي الإنساني، والتزمت برسالة الإعلام الأخلاقية، فضلا عن شرف المهنة نفسها.. فلماذا لا تزال فضائيات التحريض على الهواء؟!
لا يمكن أن يكون المبرر لاستمرار هذه الفضائيات، أن مؤسسات الاتصالات الفضائية تسعى إلى الربح المادي، ورفع مستوى المبيعات، وتحقيق موازنة مالية جيدة نهاية العام. فهذه ليست سلع تموينية أو استهلاكية مختلفة. إنها "سلع" لا تخضع لمتطلبات السوق، ولا لاحتياجات الفرد، ولا لحراك التجارة. إنها ببساطة "سلع" حساسة تنشر الأوبئة الاجتماعية والأخلاقية المختلفة. وعلى هذا الأساس، ينبغي التعاطي معها، وبسرعة توازي سرعة انتشارها. فأي تباطؤ في هذا المجال، يحقق هدفاً مريعاً ومخرِباً في قلب المجتمع العربي. دون أن ننسى أن الأهداف كثيرة، وجاهزة للتسديد.
المطلوب الآن (وليس وغداً)، التقدم بأسرع ما يمكن لوقف هذه الفضائيات السرطانية التحريضية الناشرة للأوبئة بقوة الكراهية والحقد. وإلا فإننا سنشهد انتصاراً، قد تصعب مواجهته في المستقبل، لجهات تسعى إلى الاستحواذ على المجتمع بكل ما تملكه من إمكانيات. وإذا ما تم ذلك فعلاً، فإن هذه الجهات قد تستطيع يوماً( لن يكون بعيداً) أن تملك كل الأدوات. إننا اليوم في ظل معركة، ليس حرباً، ومن الأفضل أن تنتهي وهي بهذه المرحلة لا بعدها.


الثلاثاء، 22 يناير 2013

مزلقان الحكم

(المقال خاص بجريدة "الجماهير" المصرية)









كتب: محمد كركوتـــي


الحق على المرشد. لا، الحق على الشاطر. لا، الحق على مرسي. لا.. لا الحق على الثلاثة مجتمعين. هؤلاء الثلاثة لديهم ما يقولونه أيضاً: الحق على مبارك! .. الحق على فلوله! بل: الحق على عبد الناصر والسادات. وهم مستعدون لرمي الحق على الخديوي اسماعيل نفسه! لكن هناك في مصر من يقول: الحق على الأربعة الأول (المرشد، الشاطر، مرسي، مبارك).  على اعتبار، أن ما وَرَثه مبارك من مصائب (ومصاعب) حافظ الثلاثة الآخرون عليها! وفي أحسن الأحوال فشلوا في التخلص منها، أو أُخفقوا في الوصول إلى آليات تدمرها وفي استراتيجية (ولو نظرية) تخفف من محنها قبل تدميرها. وفي كل الأحوال، فإن صدى الاتهامات  الموجهة لمرسي وأركانه المُعينين، وأولئك "المتعاونين"، يظل هو الأعلى، ويبقى الصدى الأكثر وصولاً. لماذا؟ لأنهم ببساطة هم وحدهم يملكون مفاتيح الحكم، ومعها مصنع القرارات.
إنه "مزلقان" الحكم بالنسبة لمرسي وأركان جماعة الإخوان المسلمين، وبسببه تنهال عليهم المصائب، تماماً كما المصائب التي تنهال على الشعب المصري، من مزلقانات القطارات. كان على مرسي، أن يقرأ فقط ما كتبه أحد المصريين بظرافة وبراءة في آن معاً على صفحته على "الفيس بوك"، لكي يفهم الحالة السياسية التي "ابتكرها" والتي ارتضاها لنفسه. المصري الظريف-الحزين، جاءت مشاركته على صفحته على شكل إقرار موقع من ركاب القطارات، يعلنون فيه "أنهم يقطعون تذاكرهم وهم بكامل قواهم العقلية، وأنهم هم وحدهم يتحملون الأضرار (التي سيصابون بها) الناجمة عن الحادث الذي سيقع حتماً"! لقد وقع مرسي و"إخوانه" على إقرار مشابه، لكن ليس لركوب القطارات التي أصبحت محطاتها الأخيرة في المزلقانات، بل لتسييرها وتسيير البلاد معها. فما عليهم سوى أن يتحملوا الأضرار الناجمة عن إقرارهم.
ومن هنا تكتسب الاتهامات الموجهة لهم صداها الأعلى الصارخ. فـ "مزلقان" الحكم لا يزال قديماً وإن تجدد العابرون من خلاله، بل لنقل: المنتهون فيه. عندما ورث الألمان بلادهم من مدمرها هتلر، لم يقولوا: الحق على هذا الأخير. وكذلك الطليان الذين أعادوا بناء روما، لم يقولوا: الحق على نيرون. وحتى عندما استرجعت ألمانيا الغربية، شطرها الشرقي بمصائبه وهمومه وخرابه وانهياراته، لم يقل المسترجعون:الحق على إريك هونيكر حاكم ذلك الشطر. وهؤلاء كلهم أتوا إلى الحكم عبر طريق سياسي عريض واضح المعالم، لم يأتوا إليه بـ مزلقان" سياسي. يضاف إلى ذلك، أن الجودة السياسية لهؤلاء، لا تقارن بالجودة السياسية (إن وجدت أصلاً) عند مرسي ونظامه.
إن أفضل طريقة لنجاح الإخوان المسلمين في حكم مصر، أن يتحول الشعب المصري كله، إلى "شعب سري". على اعتبار أنهم متخصصون في العمل السري، بل هم "فلاسفة" له. لكن هناك مصيبة كبيرة تواجههم. فإذا كان كل شيء في هذه الدنيا قابل لأن يكون سرياً، فالشعوب تبقى الاستثناء الوحيد، والشعب المصري بالتحديد. 


الأسد وخامنئي واتفاقية شر جديد

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«عدم التعامل مع الشر واجب، كواجب التعامل مع الخير»
مهاتما غاندي الزعيم الهندي



كتب: محمد كركوتـــي


تربط نظام سفاح سورية بشار الأسد، مع نظام علي خامنئي الإيراني، معاهدة يمكن تسميتها بسهولة ودون تردد ''معاهدة الهلاك''، تستهدف الشعب السوري بـ ''فورانها الراهن''، إلى جانب استهدافها المتأصل لكل المنطقة العربية. وليس أفضل للمخطط الإيراني التاريخي، من أن يكون قلب العرب (سورية) في أيدي الملالي، وليس أسهل للاحتفاظ بهذا القلب أطول فترة ممكنة، إلا وجود حاكم لا شرعي في دمشق. وهو كذلك في زمن الأب أيضاً. معاهدة الهلاك هذه، وُلدت في الواقع من خلال حلف بين الطرفين، ظهرت أشكاله المتنوعة طبقاً للمراحل المتنوعة التي مرت بها المنطقة ككل. وعلى هذا الأساس تزداد اتفاقيات المعاهدة وتتنوع أيضاً. بعض هذه الاتفاقيات لا يُوقَع، على اعتبار أن محتواها بحد ذاته يشكل تهمة، والبعض الآخر يدخل إطار التوقيع، كجزء من الشكليات المطلوبة. بروتوكولياً وإعلامياً على الأقل.
لو تمكن الأسد وخامنئي من الإعلان عن وحدة ''انصهارية'' لفعلا ذلك. لكن ليس الأمر مهماً، طالما أن معايير ''الانصهار'' هي التي تحكم العلاقات بينهما. فـ ''انصهار'' فعلي حقيقي على الأرض، أفضل آلاف المرات من ''انصهار'' معلن، سيؤدي حتماً إلى رفع عدد ''العيون'' التي تحدق بهذه العلاقة المشينة، وسيضطر ''المنصهران'' للإجابة على أسئلة لن تصب في مصلحتهما، وفي أفضل الأحوال، تنغص عليهما. لا بأس إذن من معاهدة تحت مسميات مختلفة، ولكنها في النهاية ستبقى ''معاهدة الهلاك''، استناداً لـ ''منتجاتها''، وآثارها المدمرة في كل الاتجاهات، سورياً وعربياً وإقليمياً ودولياً. وعلى هذا الأساس، اتفق الجانبان على إعلان التوقيع عن اتفاقية نقل الطاقة ومعدات كهربائية، وخط تسهيل ائتماني يصل إلى مليار دولار أمريكي، بين المصرف التجاري ''السوري''، وبنك تنمية الصادرات في إيران. وهي – كبقية الاتفاقيات- ليست سوى ''اتفاقية شر'' جديد، تدعم الاستراتيجية الإيرانية الثابتة، القائمة على دعم وتمويل وإمداد الأسد وعصاباته بكل شيء أملاً في مد عمر نظامه المتهاوي. وهذا الأخير، يحتاج إلى أي عون، ليس للتنمية (طبعاً)، بل لاستكمال حرب الإبادة التي يشنها على الشعب السوري، منذ قرابة العامين. فقد استنزفت هذه الحرب ما تركه الناهبون (أركان النظام) من أموال في سورية.
المليار دولار الجديد، يضاف إلى مليارات الدولارات التي وصلت إلى الأسد من نظام خامنئي، منذ اندلاع الثورة الشعبية في سورية. ففي عام واحد فقط، ضخ الإيرانيون أكثر من ستة مليارات دولار نقداً في خزائن الأسد، إلى جانب الجسور الجوية لنقل الأسلحة له عبر الأجواء العراقية، وشحنات الوقود التي لم تتوقف، فضلاً عن تصدير المرتزقة الإيرانيين المتخصصين في قنص وقتل السوريين، وفي توفير التدريب الملائم للقتل. وأمام هذه الحقائق، لا يكاد المليار دولار الجديد يساوي شيئاً، مقارنة بما قدمته (وتقدمه) إيران للأسد، وبما تستعد لتقديمه له في المرحلة المقبلة. فـ ''معاهدة الهلاك'' تعج بالاتفاقيات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وتكفل الدعم اللازم للأسد، حتى دون اتفاقيات. وللتأكيد على ذلك، جعل خامنئي بند التسهيل الائتماني في الاتفاقية الأخيرة مفتوحاً، أو في أحسن الأحوال مرناً، بحيث ترتفع قيمته بصورة أوتوماتيكية، دون الحاجة (طبعاً) لمفاوضات ومحادثات بهذا الشأن.
تقوم إيران اليوم (وغداً) بكل هذا، وهي لا تعاني فقط أزمة اقتصادية، بل تواجه خطر انهيار اقتصادها الوطني، مع تراجع مخيف لاحتياطيها من القطع الأجنبي، ومن الجولات المتعددة - المتجددة للعقوبات الغربية عليها. وتقدم تسهيلات ائتمانية بينما تتبخر قيمة عملتها الوطنية. الشيء الوحيد الذي يؤجل انهيار هذا الاقتصاد، هو نجاح متميز لعمليات الاحتيال التي يقوم بها النظام الإيراني على العقوبات المفروضة عليه. وهو لا يزال يستطيع العثور، ليس على شركات ومؤسسات ومصارف تساعد في الاحتيال فحسب، بل على حكومات تقوم بذلك أيضاً. وهذه لوحدها مصيبة تواجه الجهات الفارضة للعقوبات. فالاحتيال في كل شيء، هو جزء أصيل من سياسة نظام خامنئي، فكيف الحال وهو يتعرض لهول العقوبات المتجددة؟!
من الواضح، أن ''معاهدة الهلاك'' بين الأسد وخامنئي، تحتم عليهما المضي قدماً حتى النهاية. نهاية أحدهما أو كليهما معاً. وهي ليست فقط ''مصنعاً'' لتوليد الاتفاقيات التي يحتاج إليها الأسد، ولكنها بمنزلة فتوى غريبة أخرى من فتاوى خامنئي ونظامه. فما يحتاج إليه الأسد يحرم على الشعب الإيراني نفسه! وإنقاذ سفاح سورية (أو بالأحرى وهم إنقاذه)، له الأولوية على كل الأولويات الأخرى، بما في ذلك الاحتياجات المعيشية والاجتماعية للإيرانيين أنفسهم! والأسد ليس خياراً إيرانياً، بل هو حتمية إيرانية لكل شيء. وهو في النهاية أداة من أدوات خامنئي تساعده في التمتع بأوهام السيطرة على المنطقة، أو تخريبها، أو ضرب استقرارها، وذلك انتظاراً لـ ''عودة'' المهدي الضائع، رغم أنه يتصل (كما يروج أتباع خامنئي، بل ويؤكدون) بهذا الأخير حتى عبر الهاتف المحمول، بالصوت و''المسجات''! ولكن لا أعرف.. لماذا لا يختصر الطريق، ويوفر على نفسه توقيع الاتفاقيات ويبعث للمهدي بـ ''مسج'' يطلب منه إنقاذ الأسد؟!
لو تمكن الأسد وخامنئي من الإعلان عن وحدة ''انصهارية'' لفعلا ذلك. لكن ليس الأمر مهماً، طالما أن معايير ''الانصهار'' هي التي تحكم العلاقات بينهما. فـ ''انصهار'' فعلي حقيقي على الأرض، أفضل آلاف المرات من ''انصهار'' معلن، سيؤدي حتماً إلى رفع عدد ''العيون'' التي تحدق بهذه العلاقة المشينة.

الاثنين، 21 يناير 2013

الاقتصاد المصري .. حقائق الخاطر أهم من «منتجات» القلب


(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«الإنكار ليس نهرًا يجري في مصر»
مارك توين أديب أمريكي



كتب: محمد كركوتـــي

الأسئلة الكثيرة لا تتوقف حول وضعية الاقتصاد المصري ومستقبله وأدواته و''صحته'' وبعض خرابه.. بل مصائبه، وهي في النهاية موازية لتلك التي تُطرح على الصعيد السياسي، ومعه الدستوري.. وحتى الإجرائي، كما أنها ''أسئلة'' وليست ''تساؤلات''، أي أنها تستوجب ردودًا مباشرة وواضحة ومحددة. فمصر الآن، لا تنعم بخاصية الأجوبة التحليلية، ولكنها تحتاج إلى الردود القاطعة، وأمامها مساحات زمنية لن تكون قصيرة، لكي يعم فيها (ويتواءم مع حالتها) التحليل الاقتصادي والسياسي في آن معًا. مصر ينبغي أن تكون في الخاطر والقلب (في آن معًا) في محنتها الراهنة، بحيث لا تتقدم ''منتجات'' القلب على حقائق الخاطر، مهما كان وقع آلامها ومصاعبها وهمومها. ففي الاقتصاد، ليس هناك أشد ألمًا من تأخر رواتب تقاعدية بسيطة، تمثل في نهاية المطاف ''ثروة'' شهرية ''هائلة'' لمتلقيها. ويشتد الألم، عندما تتراجع القيمة الحقيقية لهذه ''الثروة الهائلة''. فالجنيه الذي يشتري خمسة أرغفة اليوم، يشتري غدًا أربعة فقط! النتيجة، أن العملة تخضع لـ ''التخسيس'' من دون وجود نظام ''غذائي'' طوعي.
الاقتصاد المصري يحتاج اليوم إلى كل شيء. يحتاج إلى قروض واضحة وأخرى مُيسرة، وإلى هبات واستثمارات أجنبية، وتمكين قطاعات موجودة أصلًا. كما أنه يحتاج إلى رؤية واضحة بعيدة عن السياسة والتسييس، ولا دخل لها بجدل عقيم، حول أسلمة الاقتصاد أو مدنيته، وتقدم حركة الأسهم في ''بورصته'' يوما، وتراجعها أياما. ويحتاج أيضًا إلى الصراحة الخالصة. فلا يعقل أن يعلن رئيس الجمهورية -مثلًا- أن الاقتصاد المصري في حالة تحسن! ولا يوجد مسؤول يمكنه أن يتغنى ببيع سندات خزانة بلاده. هذا الاقتصاد في حالة تعاكس التحسن. صحيح أنه لم يصل بعد إلى مرحلة الإفلاس، ولكن الصحيح أيضًا أن الأمر لن يكون غريبًا أو صادمًا فيما لو حدث بالفعل. لا داعي للإنكار. فحتى رؤساء الدول التي تتمتع باقتصادات متينة وراسخة وضاربة في عمق التاريخ، ليسوا في وضعية الآن، تسمح لهم بالإعلان عن تحسن اقتصاداتهم. فسياسة الإنكار، قد تنفع لوهلة في مفاوضات ما، ولكنها لا تستوي مع المعطيات على الأرض. فإذا كان الاقتصاد المصري ''في حالة تحسن''، فلماذا تتراجع قيمة عملته؟! وإذا كان ''في حالة تقدم''، فلماذا يتأخر حراك أدواته؟! وإذا كان ''يتعافى''، فلماذا تتآكل موجودات البنك المركزي؟! بل لماذا يُستبدل حاكم البنك في هذا الوقت بالذات؟!
ليسمح لنا الرئيس مرسي، بالقول: إن الاقتصاد المصري ليس في ''حالة تحسن''، بل هو في ''حالة خطر''، تستوجب المواجهة. ولجوؤه إلى صندوق النقد الدولي، جزء من هذه المواجهة، لكنه ليس الحل الحاسم لكل مصائبها. وكلما برعت الحكومة المصرية في مفاوضاتها مع ''الصندوق''، كلما أضافت قوة لهذا الجانب من الحل. فقروض ''الصندوق'' لم تأت في يوم من الأيام على شكل هبات، وفيها من المخاطر ما يوازي المحاسن. وعلى هذا الأساس يمكن أن يُثبت المفاوض المصري جودته، وقدرته في الحصول على قرض عالي الكفاءة، وشروط متدنية الأثر. فالتاريخ ''حفر'' أحداث 18 و19 يناير في ذاكرته، بعد أن استقرت في خواطر كل المصريين، والأمر ينطبق على كل البلدان التي مرت بهذه الحالة. ينبغي أن تكون الـ (4,8 مليار دولار) التي تسعى الحكومة المصرية للحصول عليها، فرجًا لا همًّا. و''نوعية'' هذه الأموال، مرتبطة بـ ''نوعية'' المفاوض، رغم كل الاتهامات بتواضع جدارته.
هناك الكثير أمام حكومة مرسي لكي تقوم به على الصعيد الاقتصادي، رغم الآثار السلبية للفوضى السياسية والتشريعية التي تسود البلاد حاليًّا. وهي فوضى لا تقتصر على الحالة الاحتجاجية الشعبية الدائمة، التي ينبغي أن تكون مرحلية، بل على المواقف المتباينة حتى داخل النظام الحاكم في مصر، وفي بعض الأحيان المواقف الخلافية داخل الجسم السياسي الواحد. هذه البيئة، لا تستقطب عادة المعاول الأخرى التي يحتاج إليها الاقتصاد المصري، وفي مقدمتها، الاستثمارات الأجنبية، وتحديدًا العربية منها، والموارد السياحية التي ينظر إليها بعض كوادر النظام، على أنها ''رجس من عمل الشيطان''. فإذا كان من الصعب صد هذا ''الرجس'' بضربة واحدة، فيجب تقليص مساحته، ومنعه من الانتشار! هذا القطاع المحوري للاقتصاد المصري، يضيع الآن، بين ''الصد'' و''التقليص''.
لن يُبنى الاقتصاد المصري في بيئة متوجسة بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلاد. صحيح أن مصر تمر بمرحلة انتقالية، ولكن الصحيح أكثر أنه حتى في المراحل الانتقالية هناك ثوابت لا يمكن التفريط فيها، وهناك أسس يستحيل هدمها، وفي مقدمتها الاعتراف بما هو موجود على الأرض، لا بما تتمناه الأفئدة. وقبل هذا وذاك، رؤية واضحة لا إنكار ولا مبالغة فيها. إن مسؤولية الرئيس مرسي ونظامه مضاعفة بهذا الخصوص؛ لأنه لا يخوض معركة إصلاح اقتصادي، بل حربًا حقيقية لبناء اقتصاد آخر جديد لمصر الوطن والأمة، لا علاقة تربطه بـ ''اقتصاد مبارك'' ولا حتى بـ ''اقتصاد مرسي'' إن وُجد.

تصنيف وكالات التصنيف!

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«أن تستحق التقدير ولا تحصل عليه أفضل من أن تحصل عليه دون استحقاق»
مارك توين - أديب أمريكي


كتب: محمد كركوتــي


نعم، كانت وكالات التصنيف الكبرى والمتوسطة من أبطال الأزمة الاقتصادية العالمية. قد لا تصل إلى ''نجومية'' آلان جرينسبان رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق، أو جورج بوش الابن، أو حاكم المصرف المركزي في آيسلندا. لكن كل واحدة منها قامت بدور ''بطولي'' لم يسبق أن قامت بمثله في التاريخ، علماً أنها لن تتمكن من لعب نفس الدور لاحقاً.. لقد انتهى ''المهرجان''. في كتابي الأول الذي صدر عام 2009 بعنوان ''في الأزمة''، خصصت صفحات مطولة لمصائب وكالات التصنيف وآفاتها في الحراك الاقتصادي العالمي. فقد اعتبرت مهمتها الأساسية أن ''تعمل من البحر طحينة''، ولم يلبث الاقتصاد العالمي إلا أن غرق. ولا يهم إن غرق في ''الطحينة'' أو ''الزفت'' أو المحيطات، المهم أنه أصبح غريقاً يكافح لرفع رأسه على السطح. يأخذ نفساً ليغرق من جديد في مأساة اقتصادية نادرة بكل المقاييس.
بعد انفجار الأزمة، حمّل رؤساء المؤسسات والشركات والمصارف الكبرى وكالات التصنيف مسؤوليتها في سياق تبرير فشلهم في قراءة متوازنة وواقعية للحراك الاقتصادي العالمي. وبمعنى أدق، تبرير فشلهم في قيادة مؤسساتهم. بل وجد السياسيون (الفاشلون أيضاً) فرصة مواتية لهم لتحميل هذه الوكالات المسؤولية، في محاولات بائسة تدعو إلى السخرية. فإن وجد مَنْ يتفهم بعضاً من اتهامات المؤسسات للوكالات، فمن المستحيل العثور على جانب واحد يمكن إجهاد النفس في تفهمه من اتهامات السياسيين الموجهة للوكالات نفسها. فهؤلاء هم أصحاب ''المعاول'' الفاعلة والمحورية التي أنتجت الأزمة، وهم الذين أفسحوا المجال لوكالات التصنيف التي عملت مثل شركات الديكور المتخصصة في تجميل المنازل من الخارج، بصرف النظر عن حجم وفداحة الخراب في الداخل! كل متورط في الأزمة أراد أن يرمي حملها وآثامها على الآخر. أراد المتورطون أن يهربوا من التاريخ و''محكمته''، أو على الأقل أن يكونوا شهوداً فقط فيها!
والمصيبة أن وكالات التصنيف هذه فهمت الدرس أكثر مما فهمته الحكومات، ومعها ''الفلول'' الباقية في الشركات والمؤسسات الكبرى. فحسّنت من أدائها، في محاولات لبناء مصداقيتها الجديدة، بعيداً عن المجاملات المدفوعة القيمة، ممن؟ من الشركات والمؤسسات حتى الحكومات الخاضعة لتصنيفها. الأمر لم يعد الآن ''ادفع قسطاً تقفز درجة''. فقد بات على الساعين للقفز درجة أو درجات القيام بذلك وفق قدراتهم الحقيقية. ومع ذلك، ظهرت دعاوى قضائية في الولايات المتحدة الأمريكية ضد وكالات التصنيف، تحمّلها مسؤولية تضليل المستثمرين، لا سيما في نطاق مدى أمان أداء ديون عالية المخاطر قامت بتصنيفها. ويبدو واضحاً أن النظام القضائي ماض حتى النهاية في هذه الدعاوى رغم محاولات وكالات التصنيف المستهدفة إسقاطها. صحيح أن هذه الوكالات لا تزال في مرحلة الإصلاح الذاتي، لكن الصحيح أيضاً أن تتحمّل كل الأطراف المعنية في التصنيف المسؤولية، بمن في ذلك المستثمرون أنفسهم. فالمستشار مهما علا شأنه، لا يكون عادة صاحب القرار النهائي. ورغم أنني من المشككين الدائمين بوكالات التصنيف، فإن الأضرار التي قد تنجم عن تقييماتها ينبغي أن يتحمّلها مَن صدّقها، وعمل على أساس محتواها، دون أن يلجأ إلى دراسة شاملة للمعطيات وطبيعة الحراك الاستثماري. الأمر يتطلب التعاطي الواقعي للوضع، والابتعاد عن الأوهام وأحلام الأموال الوفيرة التي قد تمطر بصرف النظر عن مصادرها.
هذه القضية التي لا تبدو لها نهاية حاسمة، تستدعي التفكير في جدوى وجود وكالات تصنيف لوكالات التصنيف، رغم أنه من المفترض أن الأزمة الاقتصادية الكبرى أفرزت تلقائياً ثقافة جديدة في التعاطي مع وكالات التصنيف، وأزالت الكثير من رواسب فهم التعامل مع ''منتجات'' هذه الوكالات، لا سيما ''المنتجات الوهمية'' التي كانت تنشرها في الأرجاء. وحتى لو تم بالفعل وجود وكالات لتصنيف الوكالات! فإن ذلك لن يغير من الأمر شيئاً، إذا لم تنتشر حقاً الثقافة الجديدة في هذا المجال. ثقافة التعاطي مع الوكالات كجهات استشارية فقط. وإذا ما وجد عملاؤها تدني مستوى خدماتها أو تضاربها أو عدم واقعية معلوماتها، فالخطوة الطبيعية هي ببساطة التوقف عن التعامل معها. وهذه الثقافة تحتم أيضاً على متلقي خدمات وكالات التصنيف ألا يسهم في فسادها برفع مستوى مكافأته المالية لها، لتقدم له المعلومات حسب ما يحب لا وفق الواقع على الأرض.
والحقيقة أن الفساد الذي مرت به وكالات التصنيف قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، كان من نتاجها ونتاج عملائها أيضاً. فإذا ما تحددت المهام، وعرف كل طرف دوره الخاص؛ فإن كثيراً من الخلل (الذي كان والذي لا يزال بعض منه على الساحة) يتعدل تلقائياً. إن تصنيف وكالات التصنيف لا يمكن أن ينجح من خلال وكالات أخرى، بل عن طريق تحديد جودة الوكالة من خلال جودة تقييماتها، ودون تكليفها بمسؤوليات ليست من اختصاصاتها، ومن غير تحميلها إخفاقات أطراف يفترض أنها تستنير فقط بما تقدمه الوكالات، لا أن تمضي في تطبيق أعمى لما يصدر عنها.

الثلاثاء، 1 يناير 2013

في الأموال القذرة .. ابحث عن المنظفين

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«رجال العصابات لا يسألون»

ليل وين مغني راب أمريكي


كتب: محمد كركوتـــي

سواء استعرت الحرب ضد الأموال القذرة و''مصابغها'' في العالم، أو لم تستعر. وسواء حققت الحرب بعض الانتصارات أو لم تحقق، فإن هذه الأموال الناجمة عن كل ما هو مخز للبشرية، ومشين لأي حكومة كانت، تشكل بحد ذاتها اقتصاداً قوياً نشيطاً ''متوالداً''. ومن المريع أنه يستمر في قوته و''توالده''، حتى عندما تلعب العواصف باقتصادات الدول الكبرى والصغرى. فيكفي التذكير هنا، أن الأموال القذرة أسهمت في إنقاذ مصارف ''محترمة'' في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. مصارف ليست في بلدان مارقة تتخذ من الزوايا المجهولة والمعلومة للمحيطات والغابات مواقع لها، بل في دول تصنع القرار الاقتصادي العالمي، وأخرى تشارك في صنعه. الأموال القذرة هذه، تتصدر (في حجمها) قائمة الناتج المحلي السنوي لأكثر من 30 دولة، عضو في الأمم المتحدة، وتشكل ما بين 2 و4 في المائة من الناتج العالمي، وتتجاوز الحدود، و''تقفز'' في الجيوب، و''تركن'' في الخزائن. ورغم الخراب الذي تنشره على الساحة العالمية، فإن آليات مقاومتها، لا تزال دون المستوى، بما في ذلك تلك ''المتطورة'' التي أطلقتها الدول الكبرى، في أعقاب الأزمة الكبرى.
والحق، أن المصيبة لا تنحصر بـ''الإنتاج'' المستدام لهذه الأموال بكل الأشكال الممكنة وغير الممكنة، بقدر ما تنحصر في الأوعية التي تتوافر لها. أين؟ في الدول التي أعلنت الحرب عليها! فلا يمكن تبييض وبعد ذلك ''تخزين'' أو استثمار هذه الأموال في الدول ذات الاقتصادات المتواضعة (وهي غالباً المصدر الرئيس لجني الأموال القذرة). ولأن الأمر كذلك، فهي تتجه بكل الطرق، إلى الدول التي يسهل لاقتصاداتها استيعابها. فلا غرابة من إعلان منظمة النزاهة العالمية التي تتخذ من واشنطن مقراً لها، بأن الدول النامية خسرت نحو ستة آلاف مليار دولار أمريكي، في غضون عشر سنوات، من جراء الفساد والجريمة والتهرب الضريبي. ولو أضفنا إليها تجارة المخدرات والرقيق وسرقة المال العام بصورة مباشرة، والسمسرة غير المشروعة، إضافة إلى أموال المنظمات الإرهابية، علينا أن نتخيل الحجم الكلي للأموال القذرة على مستوى العالم.
لا يمكن تحديد حجم الأموال القذرة التي تلف العالم، وتبيض بكل الطرق، وتدخل في الاقتصاد العالمي. والتقدير المتفق عليه عالمياً، بما في ذلك التقديرات السنوية لصندوق النقد الدولي، والمنظمات الدولية الأخرى المعنية، يبقى في حدود 3500 مليار دولار. لكن لو أخذنا النمو السنوي لهذه الأموال والذي يقدر ما بين 10 و11 في المائة، يكون التقدير العالمي هذا متواضعا جداً. وإذا أضفنا الأموال القذرة الناتجة عن ماذا؟ عن المساعدات التي تقدمها الدول الكبرى، لبعض الدول النامية، فإن ذلك يمثل دافعاً جديداً لإعادة تقييم وتقدير حجم الأموال المشينة حول العالم. فقد ثبت - على سبيل المثال - أن المساعدات غير المضبوطة وغير الخاضعة للمراقبة، بمنزلة مصنع آخر للأموال القذرة. وتقوم الدول الكبرى حالياً، بإعادة صياغة طرق تقديم هذه المساعدات. فلا يعقل أن تسهم الدول التي أعلنت الحرب على الأموال القذرة، مباشرة بـ ''إنتاجها''!
إن الدول النامية تنزف أصلاً المزيد من الأموال الخاصة بها، ومن السخرية أن تنزف حتى أموال المساعدات والمعونات المختلفة. وفي ظل غياب إرادة دولية في هذا المجال، فإن النزيف المالي سيتواصل، بل وسيأخذ أشكالاً أكثر ضرراً وخراباً. وأياً كانت أشكال التطور و''الابتكار'' في ''إنتاج'' الأموال القذرة، فإن الحقيقة تبقى هي.. هي. على الدول الكبرى ''المحارِبة'' للأموال المشينة والمنهوبة، أن تركز أكثر على ''المنظفين'' فيها، وأن تبتكر أساليب جديدة أكثر تطوراً، لملاحقة هذه الأموال في الشركات والمؤسسات والمصارف التي تعمل بها، بل والتابعة لها. ففي مثل هذه الحالات، المنظِف- المبيِض هو الذي يساعد في الكشف عن الجريمة، خصوصاً أن أحداً لا ينكر زخم تدفقات الأموال القذرة على هذه الدول. فلا تزال قضايا المصارف الغربية الكبرى المتورطة بتبييض الأموال (إتش إس بي سي، وستاندر تشارتز، وباركليز، وحتى بنك أوف أمريكا.. وغيرها) ماثلة على الساحة. هذه المصارف وغيرها، لم تسهم في تبييض أموال منهوبة من شعوب تستحقها الآن وليس غداً، بل أسهمت بصورة دنيئة في تبييض أموال منظمات إرهابية تقتل الأبرياء، وتنشر الخراب في كل مكان تحل فيه.
لم يعد مقبولاً التستر وراء صعوبة ملاحقة الأموال القذرة. والحرب عليها ينبغي أن تكون شاملة. وعلى الدول التي تسعى حقاً لوضع حد لهذا النزيف المالي العالمي، أن تفكر جدياً ليس فقط بمحاربة ''منتجي'' هذه الأموال ومسوقيهم في أراضيها، بل في العمل على سن قوانين دولية جديدة، لا تستهدف الفساد في دول العالم أجمع بصيغته العامة، بل بصيغه الخاصة المختلفة. وهذا يتطلب جهداً كبيراً، مع إرادة حاسمة، في زمن بات فيه الدولار المنهوب ثروة حقيقية، لمواطنين في دول ومناطق، لا يعرفون ما إذا كانوا سيشهدون اليوم التالي في حياتهم. إنها مسألة أخلاقية إنسانية. إنها مسألة حق من الواجب على الجميع أن يجعلوه سائداً.

أوروبا وحديث الديون

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




''لا أعتقد أن أحداً منا يرغب في وضع مصيرنا بأيدي الدول الكبرى الآن''
جيرتي زالم وزير المالية الهولندي السابق


كتب: محمد كركوتـــي


في أوروبا، لم تعد مادة الحديث الاقتصادي حكراً على الدول الغارقة في ديونها، والدول التي تحاول انتشالها من هذه الديون. ولم تعد تتركز على كيفية الإنقاذ، وحجم الإهانات التي تتلقاها الدول المُنقَذة من الدول المنقِذة، وما إذا كان من الأفضل التفكير بـ ''احتلال'' الدول التي تعيش تحت أكوام الديون، أو طردها نهائياً من منطقة اليورو، وإذا استدعى الأمر، طردها من الاتحاد الأوروبي. المناقشات والحوارات والأحاديث شملت في أوروبا كل الاحتمالات، بما فيها تلك ''الفانتازية''، كأن ترسل أنجيلا ميركل قوات ألمانية مدعومة بفرنسية (وليس العكس) لاحتلال اليونان. أو أن تعين ألمانيا (باعتبارها المنقذ الأكبر ويكاد يكون الأوحد) مندوباً ساميا لها يحكم الدول التي تقوم بإنقاذها مالياً. أو انسحاب ألمانيا نفسها، ومعها فرنسا من الاتحاد الأوروبي. بل وطرد بريطانيا من هذا الاتحاد، لأنها لا تزال ترفض دخول اليورو، وبالتالي لا مجال للجوء إليها للمساعدة المباشرة في إنقاذ العملة الأوروبية.
المهم.. أن ''فانتازيا'' الحلول، ومعها الحلول الواقعية، لم تعد تشكل محوراً اقتصادياً وحيداً في القارة العجوز، للحديث والجدل والأفكار والاقتراحات، بل بات الانكماش المتصاعد في كل الدول الأوروبية، هو المحور الرئيس في هذا المجال، خصوصاً مع بروز الاعترافات تلو الأخرى من الحكومات القائمة، بأن هذا الانكماش سيمضي قدماً، لينتقل من العام الجاري إلى العام الذي يليه. أي أن عام 2013 سينقل موروثات العام الجاري، بكل مآسيها الاقتصادية. بينما لا أحد يتوقع ألا تنتقل هذه الموروثات إلى الأعوام المتبقية من العقد الحالي. فالانكماش ينتشر من جنوب القارة الأوروبية إلى شمالها، وينال ليس فقط من الدول المنضوية تحت لواء الاتحاد الأوروبي، بل تلك ''المرابطة'' جغرافياً على حدوده. دون أن ننسى، أن بعضها يستند اقتصادياً على دول الاتحاد.
في أوروبا، يكون وزير المالية عادة أكثر الشخصيات السياسية المكروهة في الحكومة (أي حكومة). والأسباب معروفة وبسيطة. فمشاريع القرارات التي تعتمدها الحكومات حيال الضرائب والخدمات وواجبات المواطن الاقتصادية، تأتي من مكاتب وزراء المالية. اليوم لا يوجد مسؤول واحد محبوب في أي حكومة أوروبية. فوزير الشباب والرياضة ''يتمتع'' بالكراهية نفسها التي تُقذَف إلى زميله وزير المالية. وهكذا، حتى تنال من الجميع، وتصل إلى رئيسي الوزراء والدولة. الكراهية الشعبية للسياسيين في السلطة، باتت تعم كل الدول الأوروبية. لا يوجد من يمكنه الادعاء بتمثيل شعبي قوي. وغالبية الأحزاب الحاكمة في القارة، وصلت إلى الحكم، في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، لأنه لا يمكن ترك السلطة فارغة، وليس حباً لهذا الحزب أو ذاك. والحق أن المرحلة الشعبية، ولت في أوروبا والعالم أجمع، خصوصاً عندما باتت الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، تختص بلقمة العيش وبالمأوى والتعليم مباشرة.
ووسط هذا الحال، لا يملك أي مسؤول في القارة، أن يعلن عن خبر اقتصادي سار، أو في أفضل الأحوال، خبر اقتصادي غير مؤذ. فالذي يتصدر المشهد هو تراجع النمو وانتشار الكساد وتعاظم الانكماش. نقول الانكماش؟ نعم، فقد نال من الجميع. فلا غرابة، أن يعلن وزير الاقتصاد الألماني قبل شهرين تقريباً، أن النمو الاقتصادي سيتباطأ في الربع الأول من عام 2013. وفي الواقع فإن مؤشرات كثيرة، تدل على أن هذا النمو سيواصل انكماشه، على مدى العام المذكور، إلا إذا حدثت ''معجزات'' اقتصادية. لكن هذه ''المعجزات'' تشبه في إمكانية تحققها، وصول مخلوقات فضائية إلى كوكب الأرض. فإذا كانت الدول الأوروبية الكبرى، بحاجة ماسة إلى تحفيز النمو، فلا مجال للحديث عن هذا النمو في الدول الأصغر، بل من المضحك الحديث عنه في الدول التي تعيش في بحار الديون العميقة.
كل أوروبا.. حبيسة الأزمة بأشكال مختلفة، وبوتيرة متفاوتة. لكن الحق، أن الأزمة هي التي تشكل المشهد الاقتصادي العام. لا يمكن إضافة عامل آخر واحد إلى هذا المشهد. ومن هنا، تتدافع المؤسسات الدولية من أجل تذكير الأوروبيين بالتحفيز، أكثر من الإنقاذ. والأوروبيون لم ينسوا التحفيز، ولا يعشقون الإنقاذ، لكنهم لا يملكون ما يمكن التحفيز به أساساً. ومن هنا، نجد في القارة الأوروبية الاقتصاد ينكمش رويداً رويداً، والبطالة ترتفع بصورة متسارعة، وتتراجع قيمة اليورو بشكل لا يتناسب مع سمعة العملة نفسها. ومن هنا نستطيع أن نفهم، إعلان المفوضية الأوروبية الذي أطلق في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بأن أوروبا كلها مهددة بمرحلة جديدة من الانكماش. بل مضت أبعد من ذلك عندما حذرت من دخول الاقتصاد العالمي ''دوامة'' جديدة، نتيجة أزمة الديون التي تعصف بدول منطقة ''اليورو''.
لا يتبادل السياسيون الأوروبيون التهنئة بصوت عال بمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة. بل إن التهنئة التقليدية بصيغتها ''كل عام وأنتم بخير''، لم تعد تتوافق مع المشهد العام. فالخير الذي لم يأت في عام 2012 وقبله وقبله.. لن يكون حاضراً في عام 2013. وفي الواقع، سأكون من المستغربين، إذا ما حضر في السنوات القليلة المقبلة.