الثلاثاء، 30 أكتوبر 2012

الأسد وخامنئي .. من الحب ما سيقتل

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



''الوقوع في الخراب يشبه إلى حد ما الوقوع في الحب. الاثنان يتركانك عاريًا، ويوصلانك إلى الحضيض، والنهاية مؤلمة على حد سواء''
جيسيكا رولي وورد، أديبة أمريكية

كتب: محمد كركوتـــي
أصوات الإيرانيين ترتفع في وجه علي خامنئي مرشد ''ثورتهم''، لا.. بل آخذة بجمع أدواتها التمردية، مستعيدة شيئًا فشيئًا تلك التي فقدوها في عام 2009. هذه الأصوات لا دخل لها بالثورة، وبالتالي لا ارتباط لها في تصديرها أو تخزينها أو بيعها في سوق التجزئة أو الجملة.. أو حتى احتكارها. ولا علاقة (أيضًا) لها بما ستكون، بعد أن فقد الإيرانيون الاهتمام بما كانت. إنها أصوات واضحة ليست في حاجة إلى الخَيَّام أو حتى المتنبي (شخصيًّا)، لصياغة مفرداتها. هذه الأصوات، تختصرها جملة واحدة ''توقف- يا خامنئي- عن مد سفاح سورية بشار الأسد اقتصاديًّا وماليًّا، لكي نخفف من مآسينا الاقتصادية''. فكلما ازدادت المصاعب والمصائب المعيشية على الإيرانيين، مع تنوع وتجدد العقوبات الغربية المفروضة على بلادهم، زاد حنقهم وغضبهم على قيادتهم، التي أقسمت على نجدة الأسد، بصرف النظر عن أي اعتبارات. إنه الحب القاتل بين التابع والمتبوع، مشمول ''باستثمارات'' طائفية مشينة، يبدو أن خامنئي وعد المهدي التائه، وفي طريقه، أرسل وعدًا لروح الخميني، بأنه لن يتخلى عن ذلك السفاح، الذي ارتبط مصيره بمصير النظام القائم في إيران نفسها.
يقول رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرتشل: ''هناك رجال يستمدون تمجيدًا صارمًا من الكوارث والخراب. على عكس أولئك الذين يستمدون المجد من النجاح''. علي خامنئي، كان من أولئك أصحاب ''المجد'' بدافع تخريبي. ولكن حتى هذه الحالة المريعة، بدأت بالأفول. فقد عرف الإيرانيون أن المجد يصنعه الناجحون، بعد أن واجهوا الحقيقة، أو بعد أن اعترفوا لأنفسهم، بحتمية مواجهة الواقع. نقول الواقع؟ نعم. لقد أظهرت الأرقام والبيانات الواقعية الرسمية الخاصة بحالة الاقتصاد الإيراني، أنه على وشك الانهيار. بل إن الوثائق الحكومية التي تم تسريبها، تؤكد أن نظام خامنئي لن يتمكن حتى من تسديد فواتير الواردات الحيوية في غضون الأشهر القليلة المقبلة. والواردات الحيوية، هي كل ما يحتاج إليه الفرد الإيراني في معيشته اليومية. وطبقًا للوثائق نفسها، فإن ما يعلنه المسؤولون الإيرانيون، من أن احتياطي النقد الأجنبي للبلاد يصل إلى 110 مليارات دولار أمريكي، هو في الواقع 85 مليار دولار، منها 25 مليار دولار مجمدة في حسابات مصرفية خارجية. وهذا يعني أن السيولة المتوافرة لن تغطي أكثر من ستة أشهر.
ومع أكثر من 10 مليارات دولار وصلت للأسد في أعقاب الثورة الشعبية العارمة الماضية إلى القضاء عليه، وإلى جانب أكثر من 20 طنًا من الذهب الإيراني تم تخزينها في البنك المركزي ''السوري'' لإنقاذ الليرة السورية. ومع الإمدادات النفطية المختلفة، وغيرها من الإمدادات العسكرية، فإن الثروة الإيرانية تتآكل، مع ماذا؟ مع التآكل المطرد للثورة في إيران. ورغم ذلك، لا يزال خامنئي وفيًّا لواحد من أسوأ من حكموا في التاريخ الحديث. وهو في الواقع، وفيٌّ لأوهام ''ثورة'' إيرانية، أرادوها متعددة الجنسيات، وعابرة للقارات إن أمكن. الذي يحدث أن هذه ''الثورة'' باتت غير ثابتة في بلد المنشأ نفسه، وأصبحت الاحتياجات المعيشية للشعب الإيراني على رأس الألويات، بل لِنَقُلِ الأولوية الوحيدة.
وباستثناء النقاش الذي يجري حاليًّا على مستوى صناع القرار في إيران، حول استعادة الذهب من عند الأسد، أو على الأقل إرجاع بعضه (ربما قبل أن يسرقه ويفر)، لا يزال خامنئي ملتزمًا بما أعلنه رسميًّا هو وأعوانه، بأن الحرب ضد سفاح سورية، هي حرب ضد إيران نفسها، بصرف النظر عن فشله في استكمال حملة تسويقه لهذه ''المتلازمة'' على الصعيد الداخلي. لم ينتبه مرشد ''الثورة'' بَعْدُ إلى أن المواد الأساسية للبيت الإيراني البسيط باتت تُشترى بالدولار الأمريكي، وأن التجار يرفعون الأسعار على مبدأ الاقتصادي آدم سميث، الذي يمكن أن يُلَّخص بالعامية ''كل واحد يشتغل في السوق على كيفه''. وهذا المبدأ بالتحديد دمر أنظمة سياسية أكثر شعبية وشرعية ورصانة وحكمة ورقابة من نظام خامنئي. المخارج تُقفل الواحد تلو الآخر في وجه ''حبيب الأسد''، والعقوبات المتجددة على إيران بدأت تنال حتى من الأطراف الدولية والإقليمية المتخصصة في الاحتيال السياسي والاقتصادي، وفي مقدمتها حكومة المالكي ''الإيرانية'' في العراق. وليس هناك بارقة أمل لتخفيف الحصار المفروض على إيران؛ لأن خامنئي لا يزال يؤمن بأن الانتصار على المنطق آتٍ لا محالة، بل إن بشار الأسد سينجو من الثورة الشعبية التي لن تتوقف حتى تنهيه.
وإذا لم يُعِد خامنئي النظر في ''مسلماته الوهمية''، سترتفع الأصوات وستتبدل الكلمات. لن تكون ''أوقف مد الأسد بالمال وحول الأموال لشعبك''، بل ''لن نتوقف حتى ننتهي من نظامك''.. إنه ''المسؤول الوحيد عن المصائب التي نعيشها، والأوهام التي تعتقدها حقائق''. وكأنهم يقولون: كيف يمكن تصدير ثورة لا يضمن مصدروها قوت غدهم؟! بل كيف بالإمكان توفير الحماية لنظام (أيًّا كان)، من حامٍ لا يجد ما يدافع به عن نفسه؟!

السبت، 27 أكتوبر 2012

«اقتصاد» الجريمة المنظمة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




''الجريمة المنظمة، تجارة حرة في أوج حريتها''
هانك ميسيك كاتب ومؤلف

كتب: محمد كركوتـــي
الناتج المالي المخيف للجريمة المنظمة ليس صادماً. الذي يصدم أن الحرب على الجريمة المنظمة ليست منظمة بما يوازيها. ورغم تحقيق بعض الانتصارات في هذه الحرب (بسبب التشدد المالي الذي فرضه خراب الأزمة الاقتصادية العالمية)، إلا أن عوائد هذه الجريمة التي تُرتكب (بحق) ضد الإنسانية، لم تتراجع إلى ما هو مطلوب اقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً وحضارياً. فلا يزال حجم ''اقتصادها'' يتساوى مع ما بين حجم اقتصادي كل من إندونيسيا وأستراليا. فقد تفوق في حده الأدنى على اقتصادات كل من هولندا وتركيا وسويسرا، في حين زاد في حده الأقصى على اقتصادات كل من إسبانيا والمكسيك وكوريا الجنوبية! ببساطة يتأرجح حجم هذا الاقتصاد المشين ما بين 870 إلى 1500 مليار دولار سنوياً! وهذه القيمة الهائلة، هي في الواقع حجم ''تجارة'' تبييض الأموال أيضاً، التي قدرها صندوق النقد الدولي، ما بين 950 و1500 مليار دولار. ولأنها ''تجارة'' سرية مفضوحة! من حق أي مراقب أن يعتقد أن حجمها أعلى من ذلك. لأن بعض الدول والجهات المعنية، تسعى إلى خفض ما أمكن من تقديراتها للجريمة المنظمة، هرباً من الضغوط المتعاظمة عليها في مسألة الحرب ضدها.
وفي كل الأحوال لو اعتمدنا الحد الأدنى الذي قدره مكتب مكافحة المخدرات والجريمة التابع للأمم المتحدة، وهو 870 مليار دولار، فإن الكارثة لا تخف، والمصيبة لا ''تتلطف''، والهموم والأضرار الناجمة عنها لا تتراجع. لا نتحدث هنا عن الأموال المنهوبة من الشعوب، في بلدان قرر حكامها امتلاكها. فلو أُضيفت، لدخل ''اقتصاد الجريمة المنظمة الشامل'' في قائمة الدول السبع الكبرى، ولتفوق على اقتصادات بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. ضمن التقدير الدولي الأخير، هناك ما لا يقل عن 320 مليار دولار عوائد مضمونة من تجارة المخدرات. وهذه وحدها تحمل مصائبها الاجتماعية معها، بصورة كارثية. ولكن لا توجد مصيبة واحدة يتعرض لها المجرمون، لماذا؟ لأن هناك دائماً ''مصابغ'' لا تنتهي لتبييض أموال الجريمة، والأهم من هذا أنها ''مصابغ'' تشغلها مصارف ''قيادية'' ضخمة في عالم المال. مصارف تتردد أسماؤها حول العالم باحترام وتقدير و''وجل''، من قوتها وتاريخها ومكانتها التمويلية، حتى بعد أن ضربتها الأزمة الاقتصادية العالمية، في سياق ما ضربته حول العالم. مهلاً، ألم يثبت بعد انفجار الأزمة أن عدداً كبيراً من المصارف الكبرى، نجت (أو سندت نفسها) في الواقع بأموال الجريمة المنظمة؟! وأنقل هنا حرفياً ما كشفه رئيس مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة قبل عامين تقريباً:'' إن أموال المخدرات حافظت على بقاء النظام المالي قائماً إبان ذروة الأزمة الاقتصادية العالمية''! وقال أيضاً: ''إن عائدات الجريمة المُنظمَة شكلت السيولة الاستثمارية الوحيدة المتاحة لبعض المصارف، التي كانت على حافة الانهيار في عام 2008 والعام الذي تلاه''! بمعنى آخر، أن الأموال القذرة يتم استيعابها في النظام الاقتصادي العالمي!
ولعل من المفيد، استعراض ''القطاعات'' التي تندرج ضمن ''اقتصاد الجريمة المنظمة''، التي اتفق عليها الخبراء المقاومون لها: المخدرات، الإتجار بالبشر، الدعارة، التهرب من الرسوم والضرائب، الرشوة، العمولات الخفية، التربح من الوظيفة، السرقة، الاختلاس والابتزاز، الغش التجاري، الإتجار بالسلع الفاسدة والمحرمة، التزوير في الأوراق النقدية والمستندات والوثائق والعلامات التجارية، المقامرة في أسواق المال والسلع، المعاملات الوهمية. وإذا أضفنا إليها، عمليات نهب مقدرات الشعوب، بما في ذلك بيع السندات المكبِلة، وإقامة مشروعات وهمية، وفي أحسن الأحوال غير إنتاجية، فإننا أمام ''اقتصاد عابر للقارات''، يتكرس متى؟ مع حلول السنة العاشرة (أول العام المقبل) لدخول اتفاقية الأمم المتحدة حول الجريمة المنظمة حيز التنفيذ. وهذا يعني، أن الاتفاقية المذكورة لم تقدم شيئاً يذكر على صعيد الحد من مآسي هذه الجريمة العالمية، رغم النوايا الحسنة التي تُطلق هنا وهناك، في المناسبات وغيرها.
تعترف النائبة العامة الأمريكية السابقة جانيت رينو بأن الجريمة المنظمة (ومعها تبييض الأموال)، هي في الواقع جريمة معقدة، يحتاج العالم إلى آليات معقدة في الحرب عليها. لكن الدول الكبرى التي يفترض أنها تقود هذه الحرب، لم تتوصل بعد إلى هذه الآليات. ومهما بلغت قوة هذه الدول، لا يمكنها أن تحقق الانتصارات المطلوبة من دون تعاون دولي شامل ومُحكم. فقد وصف يوري فيدوتوف المدير التنفيذي لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة، بأن المسؤولين عن هذه الجريمة ''أذكياء ومطلعون بشكل جيد وانتهازيون''. وفي الواقع إنهم مجرمون، لا يمكن مقاومتهم، إلا باتباع مفاتيح ذهنيتهم الإجرامية. ومن دون ذلك، ومن غير آليات متطورة، لن يكون غريباً أن يصل ''اقتصاد الجريمة المنظمة''، في مرحلة لاحقة إلى محرك أساسي للاقتصاد العالمي.
إن هذه الجريمة تعبر القارات وحدود الأوطان بسرعات عالية. والأضرار التي تتركها وراءها، تكلف كثيراً. وكلما استحكمت، وقف المجرمون يضحكون على أولئك الذين يحاربونهم بأدوات صدئة. هذه الجريمة تحتاج إلى ''نووي اقتصادي'' للقضاء عليها. إنها الجريمة الوحيدة التي لا تنفع مع مرتكبيها المحاكم التقليدية.

الجمعة، 19 أكتوبر 2012

"اقتصاد مالكي إيراني" لسفاح متأصل

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«كل أنواع الخداع في الحياة ليست سوى أكاذيب تحولت إلى ممارسة. ومنها ينتقل الباطل من الكلمات إلى الأشياء»
 روبرت ساوزي - شاعر إنجليزي 



كتب: محمد كركوتـــي

وقود، عملات صعبة، اتفاقات تجارية سريعة بمليارات عدة من الدولارات، تبييض أموال سورية منهوبة، قطع غيار للآليات العسكرية، مرتزقة من العصابات الشيعية، ممرات جوية وأرضية، تنكيل بالنازحين المدنيين السوريين، وإغلاق الممرات في وجوههم.. كل ذلك (وأكثر) يوفره نوري المالكي رئيس وزراء العراق لسفاح سورية بشار الأسد. المهم أن يبقى هذا الأخير، وأن يستمر في سلطة لا شرعية له فيها، وأن يقتل ويقتل، حتى لو حَوَّل الأغلبية إلى أقلية، بل إن ذلك مطلوب لو استطاع. لا تهم التكاليف، فكل شيء يَرخص أمام الحفاظ على ''الاستثمارات الشيطانية'' الإيرانية في الأسد، وهي ''استثمارات'' انطلقت مع الأب، ولن يُضحي بها علي خامنئي مع الابن. وهو (أي مرشد ''الثورة'' الإيرانية) مستعد للحرب على كل الجبهات من أجلها، حتى لو أدى الأمر إلى خوض حروب متقطعة أو متواصلة، مع الشعب الإيراني نفسه. ولأن الأمر كذلك، فمن واجب ''المعممين'' العراقيين بسترات عصرية، المشاركة المباشرة في الحرب. ولا يحتاج خامنئي وأحمدي نجاد، إلى أي صيغة لإقناعهم.. فهم جزء لا يتجزأ من هذه الحرب أصلًا، يضاف إلى ذلك، أنهم مقتنعون طبيعيًّا. فالبحر (في قناعاتهم) نهر، والجبل.. وادٍ، وسورية.. البحرين، والمهدي المفقود.. عائد لا محالة!

الوثائق التي يُفتضح أمرها بين الحين والآخر عن تورط حكومة المالكي في دعم اقتصادي للأسد، تشبه ''الوثائق'' عن اشتراك ميليشيا حزب الله الإيراني في لبنان (بقيادة حسن نصر الله) في حرب سفاح سورية على شعبه. مع اختلاف وحيد، هو أن وثائق المالكي ورقية السند، ووثائق نصر الله ''جسدية السند''. الأولى تتجلى في الأختام الرسمية، والثانية تتجسد في قتلى ميليشيا نصر الله على أيدي الثوار السوريين. وفي النهاية.. الأمر ليس في حاجة إلى أي وثائق من أي نوع، لإثبات تحالف الطرفين مع الأسد لقتل الشعب السوري. تصريحات إيران وأتباعها العلنية في لبنان والعراق، تكفي لإثبات تحالفهم مع واحد من أسوأ الأنظمة في التاريخ الحديث. وما تكشفه وثائق حلف المالكي مع الأسد لا قيمة له، مقارنة بواقع التحالف على الأرض. فإمدادات العراق لهذا الأخير من الوقود ليست سوى جزء ضئيل من حجم الإمدادات الشيطانية (الكلية والمتنوعة) له. وهناك شكل من أشكال التنافس بين نصر الله والمالكي، في سياق إثبات الولاء لعلي خامنئي. فقد سمح وسهل (ويسمح ويسهل) رئيس وزراء العراق لعصابات شيعية ''عراقية'' بالاشتراك في حرب إبادة السوريين، وبذلك يصبح المالكي متعدد الإمدادات للأسد، وفي مقدمتها الاقتصادية والإرهابية والتشبيحية.

شكلت إيران ما يمكن تسميته ''خلية اقتصادية خاصة بسورية''، تتخذ من العراق مقرًّا رئيسًا لها. الهدف الوحيد لها، الحفاظ على الدعم الاقتصادي والمالي للأسد، بل محاولة مأسسته في ظل الثورة الشعبية العارمة ضده. وخلال هذه الثورة، وفر المالكي لنظام الأسد (طبقًا لأكثر التقديرات انخفاضًا)، أكثر من ملياري دولار من القطع الأجنبي، خصوصًا مع تصاعد العقوبات الغربية وتنوعها ضده. واعترفت حكومة العراق، بأنها وقعت في صيف العام الماضي سلسلة من الاتفاقات التجارية مع الأسد، تصل قيمتها إلى ستة مليارات دولار. وقبل المالكي بروح عالية تحمل تبعات توقف إمدادات السلع السورية لبلاده، التي تستورد ما يقرب من 45 في المائة من احتياجاتها من سورية. ليس مهمًّا الأمر، المهم أن يبقى الأسد، وإن احترق البلد!

ولأن الاحتيال ضروري في الدعم الاقتصادي العراقي للأسد، فقد استحدث المالكي عشرات الوسائل للالتفاف حول العقوبات الغربية، من بينها إتمام ما أمكن من المعاملات المصرفية عبر المصارف العراقية، وتهريب شحنات من النفط السوري الخام المنهوب، ومواصلة التعامل مع أفراد سوريين ناهبين، وضعهم الغرب على قوائم العقوبات. لم ينته الأمر بعد. يستخدم الأسد مؤسسات عراقية تجارية لتصريف أعماله قدر المستطاع، في حين سُمح لأعوانه بتأسيس شركات ومؤسسات تجارية وهمية في العراق. وفي هذا السياق، استطاع عدد كبير من هؤلاء تبييض عشرات الملايين من الدولارات المنهوبة أيضًا، ضمن أعمال الاحتيال. ماذا فعل المالكي أيضًا؟، لقد تخلى عن مطالبته للأسد برد الأموال التي نهبها صدام حسين وأبناؤه وأعوانه من الشعب العراقي، وهربوا بها إلى سورية. فهذه الأموال تساعد على إنجاز المهمة الأكبر. وأموال العراقيين فداء الأسد.

ومن هنا، فإن الكشف عن إمدادات من الوقود العراقي لسفاح سورية ليس صادمًا، بل لا يكاد يكون خبرًا أصلًا، فالمالكي الذي يتجاهل الإشارة إلى التدخل الأمريكي في العراق، الذي أدى إلى خلع طاغيته الوحشي صدام حسين، ويحذر في الوقت نفسه من ''إسقاط نظام الأسد بالقوة''، وأن هذا الأخير ''ليس صدامًا''، لن يُوقف دعمه التخريبي الإيراني الطائفي، لوحش دفع البعض لخفض سقف همجية رئيس العراق المخلوع. إن رئيس وزراء العراق يسعى على مدار الساعة إلى تقديم ولاء الطاعة طائفيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وتشبيحيًّا، لعلي خامنئي المنتظِر الدائم للمهدي المفقود.


الأحد، 14 أكتوبر 2012

الأودات+ البدائل= عالم لا متناهي من المادة الإعلامية

(المقال خاص بمجلة جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج)




كتب: محمد كركوتي


دخلت القنوات التلفزيونية في العالم مرحلة الخطر منذ أكثر من عقد من الزمن. الخطر الذي يهدد نسبة مشاهديها، بل ومصيرها. وهو خطر يجبر القائمين على هذه القنوات، ليس فقط على إعادة صياغة الاستراتيجية الإعلانية لمؤسساتهم، وتلك المرتبطة بحجم الإنفاق، بل أيضاً، على وضع خطط جديدة، تخص المحتوى والشكل، بصورة تتناغم من المزاج المتجدد (بل والمتغير) للمشاهد، من فرط تعدد الخيارات الإعلامية أمامه، وتوافرها بسهولة وبتكاليف مالية، لا تتوقف عن التراجع. هذه المزايا، تجعله قادراً شيئاً فشيئاً على الخروج من نمطية تلقيه للمادة الإعلامية والترفيهية، بل وتدفع به إلى مستويات أعلى في اختيار نوعية، ما تعج به الساحة الإعلامية بشكل عام. فثقافة الاختيار باتت أرقى بكثير، مما كانت عليه قبل عشر سنوات على الأقل. وحرص المشاهد على برنامج تلفزيوني ما، أصبح اليوم أقل تماسكاً، خصوصاً في ظل تعدد تشابه البرامج المواد التلفزيونية الأخرى التي تعرض. يضاف إلى ذلك، تعدد البدائل أمام المشاهد في الموضوع نفسه، وفي القضية ذاتها، وفي الإنتاج عينه.
غالبية المتابعين للبرامج التلفزيونية اليوم، لم يعودوا يعتمدون عليها كوسيلة أساسية للحصول على المادة المطلوبة. ومن كان نجماً تلفزيونياً في يوم من الأيام، يتعاطى معه المشاهد كمقدم برامج (أو برنامج). وقد لعبت المواقع الالكترونية على مدى السنوات الماضية، دوراً أساسياً في "تغيير العلاقة" بين المشاهد والنجم التلفزيوني، ليس فقط لأنها تقدم الكثير من التفاصيل في سياق خدماتها، بل أيضاً لأنها تصنع النجوم هي نفسها، وتقدمهم بصورة أكثر عصرية ورشاقة وجاذبية، الأمر الذي انعكس بصورة سلبية (بل ومخيفة) على الشكل التقليدي لمقدم البرامج الذي يرابط على الشاشة، مع غياب التفاعل بينه وبين مشاهده. هذه النمطية، أحدثت عند عدد كبير من المشرفين على القنوات التلفزيونية في العالم (ولاسيما الغربي)، مخاوف كبيرة، تزداد حدة مع التراجع الإحصائي لعدد المشاهدين، الذي يصاحبه تراجعاً إعلانياً، يضع أي مؤسسة تلفزيونية (غير حكومية بالطبع) في دائرة الرعب. ناهيك عن أن هذه النمطية المخيفة، تستحوذ على القسم الأكبر من الإنفاق، ولاسيما لدى القنوات التي لا تزال تعتمد على المقدم (النجم) الأوحد، أو "النادر"، وتخصص له وقت الذروة. فمنذ سنوات، تحول "وقت الذروة" عند المشاهد والمتلقي، إلى أوقات ذروة، ليس فقط لتوفر الأدوات الموصلة للمادة الإعلامية، ولكن أيضاً لتعدد البدائل (النوعية)، بشكل يصعب حتى على أولئك الذين يملكون كامل وقتهم، المتابعة الكاملة. لقد أصبحت المعادلة على الشكل التالي: "الأودات+ البدائل= عالم لا متناهي من المادة الإعلامية". والذي لا يتعاطى مع هذه المعادلة، سيواجه مصاعب جمة في توفير مادة إعلامية مطلوبة، ستؤدي حتماً إلى مشاكل في الاستمرار.
بعض القنوات العريقة في الولايات المتحدة الأميركية، فهمت المعادلة المذكورة، وبدأت بالعمل على أساسها، بينما لا يزال بعضها الآخر هناك، وفي عدد من الدول الأوروبية (باستثناء هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي")، يعاند الحقائق الإعلامية المتواترة والمندفعة إلى الساحة. فعلى سبيل المثال، أقدمت شبكة "إن بي سي" الأميركية الشهيرة، على "مجزرة وظائف"، في سياق العمل على تخفيض الإنفاق. وهذا يحدث في المؤسسات الكبرى والصغرى بين الحين والآخر، خصوصاً في ظل المصاعب المالية، التي أوجدتها الأزمة الاقتصادية العالمية منذ العام 2008. فآثام هذه الأزمة لم تترك جهة إلا وما نالت منها حول العالم. غير أن اللافت في تحرك الشبكة، أنها خفضت أجور مقدمي برامج شهيرة، تعتبر محورية للشبكة. وكان المسؤولون واضحين، عندما تحدثوا صراحة، بأن ذلك يهدف إلى توفير الأموال، لماذا؟ لتقديم محتوى متميز في سياق التنافس الهائل والمتصاعد، مع من؟ مع الإنترنت.
والحق، أن "بي بي سي" البريطانية، استدركت المشكلة أيضاً، وفهمت المعادلة، وقامت قبل عام تقريباً بالاستغناء عن عدد من أشهر مدرائها، وبعض نجومها الذين يتقاضون رواتب عالية للغاية. والهدف هو نفسه، توفير المال لإنتاج برامج وأفلام مثيرة وجاذبة وتنافسية. هذه الخطوة ستوفر للهيئة البريطانية المذكورة، ما يقرب من 600 مليون دولار أميركي، ستصب كلها في قطاع الإنتاج بكل مجالاته. لقد أسرع أشهر مقدمي البرامج في الولايات المتحدة جاي لينو، بقطع الطريق على إدارته، وعرض تخفيض راتبه السنوي، خوفاً من إقدامها في مرحلة لاحقة على إلغاء برنامجه "تونايت شو"، كما حدث مع المقدم الشهير أيضاً لاري كينج في شبكة "سي إن إن"، الذي "تقاعد" قبل عامين تقريباً. والذي زاد من خوف لينو، أن الشبكة خفضت ميزانية إنتاج برنامجه "الشعبي" من 2,3 إلى 1,7 مليون دولار أميركي.
وإذا كان الهدف الأساس من تقليص الوظائف وتخفيض رواتب المقدمين (النجوم)، هو توفير المال لإنتاج برامج أكثر جاذبية، فإن تخفيض كلفة إنتاج برنامج لينو، ليست سوى إشارة واضحة، على أن أيام برنامجه باتت معدودة. لماذ؟ لأن قواعد الاستراتيجية الإعلامية في العام تغيرت، بل تواصل التغير. وهذا ما توصل إليه جيم والتون الرئيس السابق لـ "سي إن إن"، الذي كان شجاعاً، عندما أعلن أن الوقت قد حان لإدارة جديدة للشبكة، تأخذ بعين الاعتبار الهجوم الهائل للإنترنت على قطاع الشبكات التلفزيونية. والحقيقة أن الأمر برمته يحتاج إلى فكر جديد، يطرح منظوراً إعلامياً مختلفاً تماماً، يمكنه أن يواجه الهجوم الكبير لما تقدمه الإنترنت. وأمام هذا "الفكر الجديد" مهمة كبيرة وصعبة. لأن الأمر لا يتعلق بالمواجهة، بقدر ارتباطه بالتماهي الإعلامي –إن جاز التعبير- مع الشبكة الدولية، التي تقدم حالياً خيارات وبدائل، تضع نمطية القنوات التلفزيونية كلها شيئاً فشيئاً على الهامش. فالنجومية الآن لم تعد لمقدم البرنامج، بل للمحتوى الذي يحاكي المتغيرات والأمزجة التي وصلت إلى مستويات عالية من النضوج، أو في أسوأ الأحوال، الأمزجة التي تكتسب بصور متلاحقة القدرة على التمييز بين "موضة" قديمة، وأخرى تصبح قديمة، حتى في يوم إطلاقها.

الأربعاء، 10 أكتوبر 2012

المحرك الاقتصادي للربيع الإيراني

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«لا يمكن الهروب من المسؤولية عن الغد، بالتهرب منها اليوم»
إبراهام لينكولن، الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة




كتب: محمد كركوتــــي


على طريقة تابعه سفاح سورية بشار الأسد، أمر مرشد ''الثورة'' الإيرانية علي خامنئي القائمين على إعلام بلاده، بعدم تناول الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الإيرانيون، ولا ينقص هذا الإعلام إلّا أن يعلن عن ''حرب كونية'' أُطلقت على إيران، كمرحلة لاحقة لـ ''الحرب الاقتصادية'' التي يجهد خامنئي ومعه أحمدي نجاد، لإقناع نفسيهما أولاً بأن لا دور لهما فيها، قبل إقناع الشعب الإيراني. ولكن خامنئي، أخفق (في سياق إخفاقاته المتدحرجة) ليس فقط لأنه طبق ''استراتيجية'' الأسد الإعلامية التي تحمل فشلها معها، بل لأنه نسي، أن المظاهرات والاحتجاجات الشعبية الصادقة والمحقة، تُشغِل معها وسيلتها الإعلامية الخاصة. ووجود وسائل إعلامية أخرى، هو في الواقع تحصيل حاصل. والاحتجاجات الأخيرة في طهران ونيسابور وغيرهما من المناطق الإيرانية، بلغ صوتها كل الأرجاء، خصوصاً المحلية منها.
في الأفق بوادر ربيع إيراني. ليس مهماً إذا ما نقلته وسائل الإعلام المحلية أم لم تنقله. ولهذا ''الربيع'' محرك اقتصادي هذه المرة، بدلاً من ذاك ''المحرك'' السياسي الذي كاد يستكمل ربيعاً كاملاً في عام 2009، لولا فظاعة الرد الهمجي لنظام الملالي عليه. تآكل العملة الوطنية، طفى على السطح حالياً، لكن الصورة العامة هي على الشكل التالي: ارتفاع رهيب لمعدلات البطالة، ونقص مخيف في المواد الغذائية، وارتفاع كبير لمستويات الفقر، ومعه ارتفاع أكبر لعدد الجوعى، وارتفاع متجدد للتضخم، وتأخر متكرر في صرف رواتب الموظفين، بمن فيهم أولئك الذين يعملون في الوكالة الذرية الوطنية! وهناك أيضاً.. الواردات تنخفض ومعها الصادرات. ولأن العملة الوطنية (أي عملة) لها روابطها المباشرة والرمزية بالسيادة، فإنها تبقى ''بطلة'' الخراب الاقتصادي، وفي أحسن الأحوال ''أيقونة'' الأزمة الاقتصادية في البلاد.
لا يشبه الريال الإيراني بانهياره المتجدد حالياً، سوى الليرة السورية. وهذا التشابه ينبع من تشابه النظامين الحاكمين في كل من إيران وسورية، واندماجهما في تحالف شيطاني مصيري، ضد الواقع وحتمية التغيير. تحالف لا يستمر إلا بصناعة الأعداء على مدار الساعة، لا لشيء، سوى لتبرير وجوده، وتأمين أدوات تسويقية له. ومن أهم الآثار التي يتركها ترنح العملة الإيرانية، الانهيار النفسي لدى ''قادة'' البلاد وشعبها. ولأن الأمر يخرج حالياً من أيدي خامنئي ونجاد ونظامهما، وقد صبا جام غضبهما على من؟ على الصرافيين، على الرغم من أنهم يعملون وفق الحقائق الاقتصادية الموجودة على الأرض، لا استناداً إلى التمنيات و''العنتريات'' الصوتية والدعوات، بما في ذلك تلك التي تستعجل عودة المهدي المفقود. فلم يتبق أمام خامنئي سوى الإعلان عن مكافأة كبيرة لمن يعثر عليه! وأخرى أقل لمن يتقدم بمعلومات تساعد بالوصول إليه! ولا بأس من ثالثة، لمن يعرف رقمه الهاتفي ويرسل له ''مسج'' يطلب فيها تدخله لرفع قيمة الريال الإيراني، خصوصاً بعدما ثبت عدم صحة المعلومات التي أفادت بأن خامنئي نفسه يتصل بالمهدي عبر المحمول!
تكلف العقوبات الغربية المفروضة على إيران اقتصاد البلاد، قرابة الـ 5 مليارات دولار أمريكي شهرياً. وهي تشكل العامل الأول لتردي هذا الاقتصاد، بما في ذلك التراجع المخيف للعملة الوطنية. ولولا ''استراتيجية'' التهريب والاحتيال الاقتصادية التي يمارسها النظام الإيراني، لتفكك الاقتصاد منذ عدة أشهر. لكن هذا النوع من ''الاستراتيجيات'' لا استدامة له، بصرف النظر عن مدى النتائج المساعدة التي يحققها. يضاف إلى ذلك، أن ما نتج عن هذا الحراك ''السري'' المفضوح، استهلكته عمليات الإنقاذ الإيرانية لبشار الأسد، الذي نفحه خامنئي بأكثر من 10 مليارات دولار أمريكي على مدى أقل من عام واحد. وكان بإمكان طهران أن تحافظ على الهدوء الشعبي في إيران (مدة أطول)، فيما لو وجهت هذه المليارات إلى قطاعات محلية حيوية. لكن خامنئي، وجد أنه ينبغي حماية ''الاستثمارات'' الشيطانية التي خصصتها ''الثورة'' الإيرانية لنظامي الأسد (أباً وابناً)، عن طريق الضخ المستمر فيها، خصوصاً عندما تكون هناك ثورة شعبية عارمة في سورية، لن تتراجع عن هدفها في سحق الأسد ونظامه إلى الأبد. ولأنه لا توجد عوائد لـ ''الاستثمارات الشيطانية''، فينبغي مواصلة الإنفاق عليها لإبقائها حية.
كان طبيعياً أن تُسرع هذه ''الاستراتيجية'' وصول الآثار المدمرة إلى الشعب الإيراني، حتى في ظل الجهود البائسة للحكومة، الهادفة إلى طمأنة شعبها بأن احتياطيها من القطع الأجنبي يبلغ 75 مليار دولار. فلم يوقف هذا الاحتياطي، التراجع المهين للعملة، ولم يصد المحتجين الذين احتشدوا في أسواق طهران، عن الخروج مطالبين بعملة تضمن ما يملكونه، وتوفر القيم المالية لما يشترونه، وتكفل لهم الحصول على ما يحتاجون إليه من أساسيات لا كماليات. الذي حدث، أن الإيرانيين الذين يملكون المال (وهم الأقلية)، سحبوا أموالهم من المصارف، وحولوها لعملات ثابتة وضامنة، بينما وجد أولئك الذين يعيشون على الكفاف (وهم الأغلبية)، أن بإمكانهم أن يصنعوا بسرعة ''محركاً'' اقتصادياً لـ ''ربيع'' محلي حتى في عز الخريف.


الثلاثاء، 2 أكتوبر 2012

«رومانسية اقتصادية» لإعادة الأموال المنهوبة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«أفضل السياسات هي النزاهة، خصوصًا عندما تكون هناك أموال في الأجواء»
مارك توين أديب وكاتب أمريكي

كتب: محمد كركوتـــي
امتثل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، إلى الضغوط السياسية والإعلامية التي تعرضت لها حكومته في الأسابيع الماضية (وتصاعدت بصورة كبيرة قبيل اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة)، بسبب تقاعسها عن التعاطي مع الأموال المنهوبة من الشعوب في البلدان التي أُطيح بأنظمتها الفاسدة الناهبة، وفي مقدمتها مصر. وهذا لا يعني أن كاميرون، كان يريد الاحتفاظ بهذه الأموال المحورية بالنسبة للشعوب المنهوبة. فالرجل صادق في ردها، لكنه تمسك– كغيره من قادة الدول الغربية- بتلك القوانين التي تفرض قيودًا جامدة قاتلة لاسترداد الأموال، على الرغم من أن هذه القوانين هي في طبيعتها إجرائية أكثر من كونها تشريعية، وبالتالي يمكن إخضاعها لمعايير المرونة، التي تتطلبها حال شعوب منهوبة منكوبة محرومة مظلومة. ورغم المصاعب الاقتصادية التي تواجهها الدول الغربية الكبرى، بفعل أزمة فجرتها هي (لا غيرها)، إلا أنه يمكن لحكوماتها أن تتقدم بمساعدات مالية للشعوب المنهوبة، وتربطها (بصورة تقريبية) بما سيُعاد لها من أموالها. وهذا لن يكون هدرًا، ولا أمرًا محفوفًا بالمخاطر، بل تلبية لمتطلبات مالية ملحة ومصيرية. والحكومات الغربية، كانت ستسجل (بذلك) نقطة إيجابية أخرى لصالحها، إلى جانب النقاط التي سجلتها في سياق وقوفها مع ثورات الشعوب، ولا سيما العربية منها.
هناك من سيصف هذا المطلب بـ ''الرومانسية'' التي لا تتفق مع القواعد الاقتصادية والمالية. وهذا صحيح. لكن عندما ''يكتشف'' نواب بريطانيون أن حكومتهم لا تزال تقدم مساعدات مالية سنوية، منذ عشرات السنين إلى الصين، دون أن تنتبه إلى فقدانها للمبرر، وأنها ماضية في تقديم هذه المساعدات لدول أخرى، مثل البرازيل وروسيا (بل ومؤسسات غير بريطانية) لا تحتاج إليها.. عندما ''يكتشفون'' ذلك، فإن شيئًا من ''رومانسية'' المطلب يزول حتمًا. وعندما يُصدَم الرأي العام البريطاني –مثلًا- من أن بلاده (ومعها الاتحاد الأوروبي)، تقدم 10 ملايين جنيه استرليني سنويًّا، كمساعدات للتكامل الاجتماعي للنساء في البرازيل، بينما تنفق هذه الأخيرة أكثر من تسعة مليارات دولار أمريكي على تهيئة البلاد للألعاب الأولمبية في (ريو) عام 2016.. فشيء آخر من ''الرومانسية'' يزول أيضًا. فكيف يمكن تقديم الأموال لاقتصادات صاعدة، باتت تنافس الدول نفسها المانحة للأموال؟!
وفي كل الأحوال، فعل كاميرون خيرًا، عندما تعهد بتشكيل مجموعة عمل للتعاون مع الحكومة المصرية، لجمع الأدلة وتعقب الحسابات المصرفية، وإطلاق القضايا القانونية الكفيلة بإعادة الأموال المنهوبة. وهو أراد أيضًا أن يزيل اتهام القاهرة لبريطانيا بأنها لم تبذل جهدًا كافيًا لإعادة هذه الأموال، ولأنها لم تقم بحركة سريعة لتجميد أرصدة أركان نظام حسني مبارك البائد، وذلك على عكس ما فعلته دول أوروبية أخرى. والأمر هنا ينبغي أن يُطبق أيضًا على أموال الشعوب العربية الأخرى.. التونسيون والليبيون واليمنيون والسوريون، وأن يدخل ضمن سياسة شاملة، على أن تكون السرعة من أولويات التنفيذ. اليوم في أوروبا، يستغرق البت في دعاوى قضائية تخص أموالًا منهوبة من الشعوب قرابة العشرين عامًا! وفي أحسن الأحوال تدوم عشر سنوات. لننظر إلى تلك القضايا المشابهة المرفوعة- على سبيل المثال- في سويسرا ضد حكام ومسؤولين أفارقة، أطاحت بهم شعوبهم.
في مقال سابق لي بعنوان ''لص قوي+ فرص مباحة=أموال منهوبة''، تناولت مشكلة القوانين الصارمة في بريطانيا والاتحاد الأوروبي، الخاصة باستعادة الأموال المنهوبة. فإذا لم تُخفَّف هذه القوانين، فإن كل حراك– مهما كانت نوايا أصحابه صادقة- لن يوفر الحد الأدنى المطلوب، للوصول إلى نهايات سريعة وفعالة وحاسمة لهذه القضية الملحة. فالقوانين– أيًّا كانت- ليست شرائع مقدسة، ويجب ربط النوايا بحجم ونوعية وجودة تخفيفها. ولمزيد من التأكيد على حسن نوايا رئيس الوزراء البريطاني، فقد قرر الإفراج عن 100 مليون دولار أمريكي من الأموال التي نهبها مبارك وأعوانه، وأودعوها في المملكة المتحدة. مما يؤكد أنه لا توجد مصاعب إجرائية أو قانونية أو سياسية أو تشريعية أو قضائية، بهذا الخصوص. تمامًا، مثلما لا توجد مصاعب أو مشاكل تذكر في تحديد وحصر غالبية الأموال المنهوبة وأماكن ''تخزينها''. ولأن الأمر كذلك، يمكن استعارة ''رومانسية اقتصادية'' ما، بربط مساعدات مالية غربية للشعوب التي أطاحت بأنظمتها الوحشية، بما سيُعاد لها من أموالها المنهوبة.
الثورات لا تستكمل أدواتها، إلا بحراك ثوري متوازن ومتعقل، يكون متواترًا مع سرعة أدائها. وقضية الأموال المنهوبة، تتطلب ''ثورية غربية'' في التعاطي معها. وليس صعبًا أن تُسن قوانين جديدة فاعلة و''سريعة المفعول''، تُسهل عملية إعادة الأموال المنهوبة، إذا ما رفضت بعض الحكومات الغربية، القفز على القوانين المعمول بها منذ عقود، أو وجدت صعوبة قانونية في تخفيفها. وبذلك تدخل هذه الحكومات التاريخ، كجهات وقفت مع حقوق الشعوب نظريًّا وعمليًّا. كما أن إعادة الأموال لمستحقيها، يخفف في حد ذاته، الأعباء عن كاهل الحكومات التي ترغب في تقديم المساعدات الاقتصادية لدول ''الربيع العربي''، التي جردها حكامها المُطاح بهم، حتى من مستقبلها.