الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

اقتصاد المحتل المختل

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



''الكلب الذي يتضور جوعا على بوابة صاحبه، يعني أن الخراب يعم خلف البوابة''
وليام بليك شاعر وفنان إنجليزي

كتب: محمد كركوتـــي
وجدت مصاعب في تقليل الاهتمام بالوضع الاقتصادي والمعيشي في سورية، في ظل حرب إبادة تدور فيها منذ أكثر من 18 شهرا، يشنها نظام لا شرعي محتل ومختل. نظام قَبِل أن يكون عدو أمة بأكملها، دون أن يتنبه، إلى أن الانتصارات لا تصنعها الأنظمة (حتى الشرعية منها)، بل الأمم التي تمنحها شرعيتها. فكيف الحال بنظام لم يحظ بشرعية وطنية يوما؟ ورغم أني تناولت سلسلة من الموضوعات التي تخص الاقتصاد ''السوري''، قبل الثورة الشعبية العارمة وبعدها. إلا أن ما يصدر عن أعوان نظام سفاح سورية بشار الأسد، لا يترك مجالا للتردد في التعاطي معه، حتى لو كان عبارة عن مجموعة من الأكاذيب والأوهام (بل والأحلام). فالكل يعلم، أن استراتيجية الأكاذيب هي في حد ذاتها سلاح آخر للأسد، في حرب الإبادة التي يشنها دون توقف. سلاح استورده من أنظمة وحشية مماثلة لوثت التاريخ الإنساني. انتهى معظمها، ودخل من تبقى منها في طور الانتهاء. ولأنه محتل مختل، فقد تصور أنه سينجو.
وإذا كانت الحقيقة تظهر في النهاية دون تنسيق أو تآمر. فمهما بلغت جودة التنسيق في الأكاذيب.. ستظهر حقيقتها، وستنال من أبطالها، وستُعَري مُطلقيها. هذا وائل الحلقي رئيس وزراء الأسد، ''يحسم'' الأمر، ويعلن من خلال تلفزيون الأسد (منبر الأكاذيب قاطبة) أن ''الاقتصاد السوري متوازن، رغم ما يعانيه من ضغوطات نتيجة العقوبات الاقتصادية الجائرة. وأنه يستطيع أن يبقى مكتفيا مهما طال أمد الأزمة، وأن متطلبات المواطنين متوافرة، بشكل كامل، بما في ذلك احتياطات العملة والحاجات الأساسية، وأهمها المحروقات''. مهلا.. مهلا لم ينته بعد، فهو يقول: ''إن لدى سورية مخزونا من القطع السوري يتجاوز الـ 600 مليار ليرة''. هذا التلفزيون نفسه، كان قد ''أكد'' قبل ذلك أن سورية حققت فائضا تجاريا خلال العام الجاري بقيمة ثمانية مليارات دولار أميركي! وعلى هذا الحال، ينبغي على الأسد الحفاظ على الأزمة كما هي والاستمرار في حرب الإبادة، لأن هذا الفائض من القطع السوري وفي القطاع التجاري، لم يتحقق أصلا خارج الثورة! وبهذا المعيار، على الأسد أيضا أن يستكمل إبادة كل الشعب السوري، إذا ما أراد أن تحتل سورية مركزا متقدما في قائمة الدول الصناعية الكبرى! فقد طرح رئيس وزرائه ''نظرية'' اقتصادية جديدة خارقة: الإبادة+ الخراب= اقتصادا مزدهرا فائضا! وربما جاءت في ''وقتها''، في ظل تخبط النظريات الاقتصادية التقليدية المعروفة (حاليا) على الساحة الدولية.
كُذِب الكاذب من قِبَل من هو أقل كِذبا منه. ممن؟ من نائبه للشؤون الاقتصادية قدري جميل. فهذا الأخير (الذي لم يقتله الأسد بعد، عقابا على إعلان له بأن رحيل هذا الأخير يمكن أن يُناقش على طاولة المفاوضات) يرى بأنه ''لو استمرت الأزمة في سورية ثلاثة أشهر أخرى، فإن الاقتصاد سيتوقف. ولذلك يجب أن تتوقف الأزمة فورا''. وفي تصريحات ''تمردية'' ربما يدفع ثمنها لاحقا، قال جميل: ''إن الاقتصاد يتراجع والإنتاج يتراجع، ولا يوجد تصريف، وهذا يظهر بتراجع سعر صرف الليرة مقابل الدولار واليورو، حيث إن استمرار الأزمة سيصيب الاقتصاد السوري بالسكتة القلبية''. نحن أمام رئيس وزراء ونائبه. كل ينقل مستقبل الاقتصاد في اتجاه متضارب تماما. الأول، يبشر باقتصاد متماسك مهما طالت الأزمة، والثاني يضع زمنا لموت الاقتصاد لا يتجاوز الثلاثة أشهر. والكل يعلم أن هذه الثورة التي انطلقت، لن تتوقف حتى لو طال أمدها ثلاثة عقود، إلى أن تحقق الهدف الأول لها، وهو إسقاط الأسد ونظامه الوحشي، والبدء ببناء دولة طبيعية، تندرج في سياق الواقع، لا الأكاذيب ولا الأوهام ولا الفساد ولا النهب ولا القتل ولا الإبادة. دولة تبني اقتصادا من جديد. فما خلّفه الأسد الأب والابن، خراب اقتصادي (ضمن الخراب الكلي) لا يُبنى عليه.
وإذا كانت حرب الإبادة انطلقت عمليا في أعقاب الثورة على هذا النظام الهمجي، فإن ''الإبادة الاقتصادية''، منطلقة منذ عقود في سورية، ومعها روابطها الاجتماعية والمعيشية. فقد كان الاقتصاد السوري يمكله الأب (بالمعيار الشمولي) على مدى ثلاثة عقود، وملَك من أراد ضمن هذا المضمون. وكل من ملك شيئا كان إما من الأسرة المالكة - الحاكمة، أو من سانديها، أو من مجمّلي صورتها القبيحة. والأمر اختلف عند الابن. فقد قلص قائمة ''الساندين'' و''المجمّلين''، لحساب الأسرة. ففتح الأبواب ليغلقها عليها هي فقط، ووزع المفاتيح على أفرادها. قام بأكبر سرقة اقتصادية في التاريخ، دون أن يلاحقه أحد.
وعندما يتناقض رئيس الوزراء ونائبه في أكاذيب اقتصادية علنية، فهما ينسقان الأدوار بصورة بائسة وفاضحة. الأول يريد أن يُطَمئن، والثاني يسعى إلى التخويف، على أمل أن يصيب أحدهما الهدف. ولكن كيف يمكنهما تحقيق أي هدف، عندما لا تملك سورية إلا أوراقا نقدية بلا رصيد أو سند، وقطعا أجنبيا متبخرا، بينما أصابت ''السكتة القلبية'' الاقتصاد السوري، منذ عقود؟ إنه ''جثة'' وضعها بشار الأسد في ثلاجته، معتقدا أنه سيحفظها إلى الأبد، هو وحافظ الأسد.

الاثنين، 24 سبتمبر 2012

لص قوي+ فرص مباحة = أموال منهوبة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«أخشى، أنه يجب علينا أن نجعل من العالم أمينا، قبل أن نعلم أطفالنا، أن الأمانة هي أفضل السياسات قاطبة»
جورج برنارد شو أديب إيرلندي


كتب: محمد كركوتــي


حسنا.. غالبية أصحاب القرار في دول العالم، تتمتع بنوايا حسنة وطيبة في العمل على رد الأموال التي نهبها طغاة لصوص من شعوبهم. والعرب بالطبع من هذه الشعوب. ما إن يسقط طاغية منهم، أو يدخل في طور السقوط، حتى تتكشف الأرقام الهائلة للأموال والممتلكات السرية. بعضها لا يترك مجالا حتى للخيال، من هول حجمها، وأساليب سرقتها، وأماكن تخزينها، ومنهجية حمايتها، وطرق تدويرها. والمعادلة مفهومة. ''لص قوي+ فرص متاحة = أموال منهوبة بلا حدود''. وهو ينهب بشرعية منحها لنفسه، ولا يعترف بها إلا اللصوص. هذه ''الشرعية''، هي في النهاية الحصانة الحتمية له، لكي يحمي نفسه، ممن؟ من المنهوبين، ولإسكات المراقبين ''الطيبين''، الذين يختبئون وراء قوانين وضعوها هم أنفسهم، ويتعاطون معها، كنصوص مقدسة لا تُمس في غالب الأحيان. وعلى هذا الأساس، تراهم يتحدثون عن حقوق المنهوبين بأموالهم المسروقة، ولكن بعد أن ''يغنوا النشيد القانوني'': ''ما باليد حيلة فورية''. وهذا يعني أن هناك ''حيلة غير فورية''.
قبل عام تقريبا، قدر صندوق النقد الدولي الأموال ''المغسولة'' سنويا، بحدود 3500 مليار دولار أمريكي (ما يعادل حجم الإنفاق السنوي للحكومة الفيدرالية الأميركية تقريبا). ويصل حجم الأموال المنهوبة من الشعوب (من هذه المصيبة السنوية) إلى النصف أو ما يقرب من 1700 مليار دولار. مرة أخرى للشعوب العربية نصيب كبير فيها، وتحديدا في الدول التي قررت فيها الأنظمة أن تمتلكها، وتمتلك شعوبها معها. فحسب التقديرات الأولية (على سبيل المثال)، فقد نهب زين العابدين بن علي ومعه أسرته ما يزيد عن 40 مليار دولار، كـ ''مكافأة نهاية الخدمة''، وحسني مبارك وعائلته ''كوشوا'' على 70 مليار دولار كـ ''أتعاب رئاسة''. ونفح معمر القذافي نفسه وأولاده وزوجته المفضلة بـ 120 مليار دولار كـ ''أجرة على قيادة الثورة''. وقائد الممانعة والمقاومة والعروبة بشار الأسد، حصل على ما بين 30 و40 مليار دولار كـ ''إكرامية لقيادته سفينة القومية''.
وبشكل عام.. ورغم أن ''بركات'' الأزمة الاقتصادية العالمية المنفجرة في عام 2008، أفرزت تشددا كان مطلوبا منذ عشرات السنين، حيال الأموال المنهوبة، إلا أن هذا التشدد لا يزال يحبو، لأسباب كثيرة، في مقدمتها، وجود ما يمكن أن نطلق عليه ''أشباه الدول''، التي توفر ملاذات آمنة ومزدهرة لهذه الأموال المشينة. وقد نجحت (ولا تزال) في ابتكار أساليب جديدة ومتجددة للتحايل على أي جهود تستهدف هذه الأموال. هي في الواقع تعيش عليها، وتمثل لها الدخل القومي السنوي الأكثر سهولة والأشد قباحة ودناءة في العالم أجمع. ومهما كانت نوايا الدول الكبرى حسنة وصادقة، فلا تزال تفتقر إلى الآليات الفاعلة لإعادة أموال الشعوب المنهوبة إلى مستحقيها، مع غياب تعاون دولي حقيقي ومستدام بهذا الخصوص. بل هي نفسها، تواجه مصاعب كبيرة في ملاحقة هذه الأموال على أراضيها، إلى جانب تقاعس بعض الحكومات في هذا المجال، بمن فيها الحكومة البريطانية، التي تعرضت أخيرا لحملة انتقادات داخلية شديدة، لتأخرها في التعامل مع ملف الأموال المنهوبة.
فقد كشفت بعض التحقيقات الميدانية، أن لندن، لم تستجب بما يكفي لمطالب دول الربيع العربي، بشأن تحديد وتجميد وتسهيل عملية استرجاع الأموال المنهوبة منها. وقد دفع هذا الأمر البعض إلى السخرية من حكومة ديفيد كاميرون، بعد تمكن عدد من الصحافيين (بجهود متواضعة)، من تحديد مواقع عقارات وأصول أخرى وحسابات مصرفية، تعود إلى رموز سابقين في الأنظمة العربية التي أطاحت بها شعوبها. ومع ذلك، فإن القضية تتطلب جهودا مشتركة ومترابطة ليس فقط بين الحكومات الحريصة على أموال الشعوب المنهوبة، بل أيضا بين مؤسسات دولية كصندوق النقد والبنك الدوليين، والأمم المتحدة، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والإنتربول، ومنظمات مكافحة غسل الأموال بكل أنواعها.
غير أن هذا كله، لا يضع المسألة في المسار الصحيح، حتى لو حسنت النوايا، وصدقت الرغبة في إحقاق الحق المغيب منذ عقود. فالمطلوب أولا (وببساطة)، تخفيف القوانين المالية (الخاصة بهذا النوع من القضايا) المعمول بها في الدول الراشدة، قبل استهداف ''أشباه الدول'' وملاذاتها المشينة. أي أن تكون هناك مرونة قانونية في تحديد الأموال المنهوبة، والإجراءات الكفيلة بردها بأسرع وقت ممكن، بدلا من التمسك بقوانين وُضعت قبل عدة عقود، وتحكمها في الواقع الحجج الإجرائية، وصعوبة المتابعة، وتعدد الأسماء المتورطة، ووجود أسماء لا ترتبط مباشرة بالناهبين أنفسهم. فالأصحاب الحقيقيون لهذه الأموال، يحتاجونها اليوم أكثر من أي وقت مضى. إنهم يعيدون بناء اقتصادات من نقطة الصفر، تم اختصارها على مدى عقود طويلة، في مجموعات من قطاع الطرق، اعتقدوا أنهم مستمرون إلى الأبد، ويسعون الآن إلى طمر ما نهبوه من شعوبهم. إن المسألة برمتها ليست اقتصادية ولا إجرائية ولا قانونية ولا قضائية، وبالتأكيد ليست سياسية.. إنها مسألة ضمير، تخص مستقبل أمم بأسرها.

الأربعاء، 12 سبتمبر 2012

هل ينفجر «نووي إيران» بقنابل الاقتصاد؟

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



''عقاب الكاذب ليس فقط في أن أحداً لا يصدقه، بل في أنه لا يصدق أحداً''
جورج برنارد شو - أديب إيرلندي

كتب: محمد كركوتـــي
يمكن أن نفهم ''اضطرابات الدجاج'' التي ضربت بعض المناطق الإيرانية مؤخراً بسبب ارتفاع أسعار الدواجن ونقص الإمدادات منها. كما يمكن فهم ارتفاع نسبة التضخم المتصاعدة في إيران، وأسعار المحروقات، وكذلك التراجع التاريخي في قيمة العملة الوطنية، والتصاعد المخيف لمعدلات البطالة التي بلغت قرابة 45 في المائة، ووصول ''جيوش'' الفقراء إلى أكثر من 14 مليون نسمة من أصل 30 مليون إيراني يعيشون تحت خط الفقر النسبي. يمكن فهم كل هذه الحقائق استناداً إلى ''التراجيديا الاقتصادية'' التي تؤطر المشهد العام في البلاد. ولكن أجد صعوبة في فهم حقيقة هي الأخطر قاطبة عندما تواجه منظمة الطاقة الذرية الإيرانية (التي تقف في وجه العالم) صعوبات في دفع رواتب موظفيها! لقد وصل الانهيار الاقتصادي، والهزات المتوالدة منه، إلى قلب المؤسسة التي يعاند علي خامنئي من قلبها للحقيقة، ويجد فيها قلعته المنيعة، ويرى من خلالها أحلاماً ''بديعة'' تُنتج له أوهاماً فظيعة!
قبل العقوبات الاقتصادية الغربية التي فُرضت على إيران، كان اقتصاد البلاد بمنزلة سفينة لا بحارة على متنها، وإنما مجموعة من الـ ''مُرقعين'' لبدنها. يسدون فجوة، ليباشروا بسد أخرى. وبعدها باتوا يجهدون في سد الرقعات نفسها. إنه عمل مستدام في اقتصاد هجرته الاستدامة منذ انتصار ثورة كان من المفترض أن تصون دولة لا أن تمسخها، وأن تقيم مؤسسات تبني على ما يمكن البناء عليه. ومصيبة الشعب الإيراني أن قيادته تريده أن يحارب بالأوهام، وأن ينتصر ''بعتاده'' هذا! بل أن تكون له القدرة على صناعة الأعداء. وفي أحسن الأحوال، أن يؤمن بأعداء صنعتهم قيادته، وليس مهماً أن يكونوا كذلك أم لا!
وسواء تلقت إيران ضربة عسكرية عقاباً على عنادها في برنامجها النووي، أم لم تتلق. تريثت إسرائيل حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ألم لم تتريث لتوجيه ضربة ما؟ انتظر علي خامنئي عودة ''المهدي'' المنتظر (للمساعدة والدعم) أم لم ينتظر؟ فجانب مهم من مصير ومستقبل هذا البرنامج المريب، يكمن في الاقتصاد الإيراني نفسه. والمتطلبات المالية (إلى جانب اللوجستية) للبرنامج كبيرة، وتردي الأوضاع الاقتصادية في السابق، مع ضربات العقوبات الغربية في الوقت الراهن، التي وضعت حلم خامنئي النووي في دائرة التهديد الكبرى. ويبدو من خلال ما تم الكشف عنه حيال مصاعب التمويل، أن سرقة مخصصات دعم الحبوب والخبز والمحروقات والمواد المعيشية الرئيسة، بل حتى مخصصات الدواجن، وتحويلها إلى البرنامج النووي، لم تحقق الكفاية المالية له. فعندما تنضب المخصصات، لا يوجد ما يمكن سرقته. إلى جانب ذلك، هناك الدعم الاقتصادي الإيراني المصيري (فضلاً عن الدعم السياسي والعسكري والتشبيحي)، لسفاح سورية بشار الأسد الذي يشكل عمقاً استراتيجياً بلا حدود للنظام الحاكم في طهران.
لقد دفع الواقع الاقتصادي في إيران قادة هذا البلد إلى تطوير صناعة الكذب، خصوصاً فيما يرتبط بآثار العقوبات الغربية. وإذا كان نصف الحقيقة كذبة كبيرة، فكيف الحال بالكذبة نفسها؟ ولم ينجح خامنئي في تسويق الكذب، حتى بعد أن انضم مروجون لبنانيون وسوريون (على وجه التحديد)، إلى حملة التسويق، وهم من أولئك الذين ''أعلنوا'' أن الميزان التجاري السوري حقق فائضاً في العام الجاري بلغ قرابة 8 مليارات دولار أمريكي!! مهلاً.. يقول هؤلاء أيضاً: إن سقوط الأنظمة العربية الخليجية بات قريباً، من ماذا؟ من الأزمات الاقتصادية!! لم ينته هؤلاء بعد، فهم ''يؤكدون'' أن إيران قادرة على المضي بقوة وثبات في نجدة الأسد اقتصادياً، وبالتالي لا أهمية للمساعدات العربية التي أوقفها العرب لسورية في ظل الأسد. وفي سياق هذه الأكاذيب، أضاف الأسد (وعصاباته) توصيف ''الشقيقة'' إلى إيران في خطابه الرسمي. وهذه هي المرة الأولى التي يصدق فيها! فإيران ''شقيقة'' له، وليس للشعب السوري.
لو كان نظام الملالي يتمتع بالحد الأدنى من الواقعية، لانتبه إلى نتائج تحقيق أجرته جريدة ''الفانانشيال تايمز'' البريطانية في مدينة أصفهان الحاضنة للمنشآت النووية. فسكان المدينة والمناطق المجاورة لها أكدوا أنهم لا يعبأون بوجود هذه المنشآت، ولا حتى بالمخاطر الناجمة عنها، بما في ذلك إمكانية ضربها. الذي يشغل هؤلاء الناس مشكلاتهم الاقتصادية الرهيبة وبؤس أوضاعهم المعيشية. تحدثوا عن فداحة العقوبات الغربية لا عن إمكانية تعرضهم لجحيم نووي، بصرف النظر عن طريقة انفجاره. وكيف لا؟ وقد وصلت آثار العقوبات حتى إلى رواتب أولئك الذين يعملون في المنشآت النووية نفسها.
ألم يتأكد الملالي أنه لا يمكن إخفاء ''التراجيديا الاقتصادية'' في بلادهم إلى الأبد؟ ليستمعوا إلى تصريحات وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، الذي اعترف فيها بأن العقوبات المفروضة على إيران وسورية بات لها تأثير متزايد حتى خارج الأراضي الإيرانية والسورية، وأصبحت تضر بمصالح الشركات الروسية نفسها. حتى الحكومات المارقة بدأت تصرخ من هول هذه العقوبات عليها. لكن ما جدوى ذلك؟ فخامنئي لم يسمع الصرخات الأقرب إليه!


الاثنين، 10 سبتمبر 2012

الأسد يفرض اقتصاد العصر الحجري

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




''الفاجعة، مثل الأسيد الخالص. يُذوِب كل شيء إلا الحقيقة''.ديفيد هيربيرت لورانس - أديب وشاعر إنجليزي


كتب: محمد كركوتـــــي


أوقع سفاح سورية بشار الأسد الشعب السوري في كل أنواع المصائب والفواجع والمآسي: قتل، تعذيب، اعتقال، تنكيل، تهجير، تدمير، تخريب، تفقير، تجويع، حصار، تطهير اجتماعي، تبعه آخر طائفي.. كلها تشكل المشهد اليومي للفرد السوري. استعذب الأسد تحويل مناطق شاسعة في البلاد إلى مناطق منكوبة، أفرزت بصورة مباشرة أعدادا هائلة (بلغت حسب الأمم المتحدة ثلاثة ملايين نسمة) من المحتاجين إلى المعونة. والمعونة هنا تعني (بالمعيار العالمي) الخبز والماء والدواء، وليس مستلزمات الترفيه والعطلات الموسمية. وحسب توقعات المنظمات الدولية، فإن عدد الذين يستحقون المعونة سيصل بنهاية العام الجاري إلى أربعة ملايين نسمة داخل سورية، إذا لم يسقط الأسد، الذي يشكل وجوده (حتى قبل الثورة الشعبية العارمة)، عارا أصيلا على الإنسانية والمعايير الأخلاقية التي تستند إليها، بصرف النظر عن الصيحات ''الطرزانية'' القادمة من الغرب، بأن ''أيام الأسد باتت معدودة''. لقد أصبحت بمنزلة ''أقوال مأثورة'' في معجم فكاهي.
أعاد بشار الأسد (حفيد سليمان الأسد، أحد الذين استجدوا فرنسا رسميا لمواصلة استعمارها لسورية في ثلاثينيات القرن الماضي)، من له القدرة من السوريين على مزاولة المقايضة في سبيل ضمان يومي إضافي في الحياة. فحتى هذه ''التجارة'' العائدة إلى العصر الحجري، ليست متوافرة للسواد الأعظم من السوريين، لأنهم لا يملكون أصلا ما يقايضون به. وقبل الحديث عن هذا التحول المأساوي، قد يكون مفيدا استعراض واقع حال الاقتصاد ''السوري''، الذي لم يكن وطنيا في عهدي الأسد الأب والابن على الإطلاق. كان اقتصادا خاصا بعائلة قاتلة سارقة، ''صادف'' – حسبما تعتقد - أنه يخص أمة بأكملها!
لقد باتت الخطوط المكونة لخريطة الاقتصاد في سورية على الشكل التالي: تراجع الاحتياطي من القطع الأجنبي إلى ما بين ثلاثة وأربعة مليارات دولار، من 18 مليارا خلال 17 شهرا. اختفاء احتياطي الذهب كاملا بعد سرقته وتهريبه وتسويقه في الخارج، وتقدر قيمته ما بين مليارين وثلاثة مليارات دولار. بلغت نسبة تراجع العوائد في القطاع السياحي 95 في المائة (الأسد يعترف بـ 75 في المائة)، والـ 5 في المائة الباقية هي في الواقع محصورة بـ ''حجاج'' إيرانيين، من السهل كشف هوياتهم كعناصر ''مؤمنة'' تنتمي إلى ما يسمى الحرس الثوري الإيراني. في مدينة الصناعة السورية (حلب)، توقف أكثر من 75 في المائة من مصانعها عن العمل، والأغلبية منها أغلق تماما. القطاع الزراعي خسر قرابة ملياري دولار، خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري. النفط المنهوب أصلا، يُباع بنصف سعره الحقيقي، إن وُجِد من يشتريه دون خوف من عقوبات غربية عليه. البطالة في كل شرائح ما تبقى من المجتمع السوري، قفزت إلى 50 في المائة، وبلغت في القطاع السياحي أكثر من 70 في المائة.
هذا هو باختصار الوضع الاقتصادي المفجع، الأمر الذي وفر الأرضية لـ ''اقتصاد المقايضة''. ففي المناطق الزراعية التي لم تصل آلة ''هولاكو الأسد'' إليها، يقوم المزارعون بالتكيف قدر الإمكان مع ما فرضه هذا السفاح، وذلك عن طريق إنتاج ما يكفي لاستهلاك أسرهم، وما يزيد على ذلك يقايضونه للحصول على منتجات أخرى ضرورية. طبعا يجري هذا بعيدا عن المناطق التي توالي الأسد، ويقطن أغلبيتها سكان ومزارعون ينتمون إلى طائفته. ففي سورية الآن يجري تطهير طائفي، هو مرحلة لاحقة للتطهير الاجتماعي. ووفق هذه الاستراتيجية المريعة (التي ينبغي أن تجبر العالم أجمع على ضربها)، فقد منعت عصابات الأسد المستلزمات الزراعية للمناطق غير الموالية له، وفي أفضل الأحوال، رفعت أسعار الأسمدة والمبيدات، بما يضمن استحالة وصول المزارع إليها. المصيبة التي تضرب المزارع السوري لا تتوقف عند حدود إحياء ''اقتصاد المقايضة''، بل تشمل أيضا تبعات الهجرة المعاكسة من المدن إلى الريف، هربا من الآلة العسكرية الهمجية للأسد، التي تنوعت، ما بين سكاكين ''الشبيحة'' والمقاتلات والسفن الحربية، ما زاد الهم هموما، والفاجعة فواجع. مهلا.. مهلا، قوات الأسد وعصاباته لا تمنع مستلزمات الزراعة، ولا تحرق الأراضي الزراعية بأسلحتها فحسب، بل تقتل ما أمكن من ماشية المزارعين، في سياق قتلها المزارعين أنفسهم. حتى الحمير شكلت أهدافا استراتيجية لهذا النظام الوحشي! ورغم اعتماد الأسرة الريفية المنكوبة على إنتاج ما أمكن لها لسند معيشتها اليومية، والمقايضة بما يفيض منها، فقد أورد تقرير مشترك لـ ''منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)'' و''برنامج الغذاء العالمي''، أن ثلث سكان الريف يحتاجون إلى المساعدة سواء في قوتهم اليومي، أو في توفير أعلاف الماشية، أو المستلزمات الزراعية. لكن حتى لو توافرت المتطلبات هذه، علينا ألا ننسى أن دخول فصلي الشتاء والخريف في سورية، سيرفع عدد الذين يحتاجون إلى مساعدات غذائية (مزارعين ومدنيين) إلى أكثر من خمسة ملايين نسمة. ففي فصلي الصيف والربيع يرتفع عدد هؤلاء بمعدل 300 ألف شهريا، فكيف الحال بالفصلين القاسيين؟ وإذا كان بعض المزارعين يملكون شيئا للمقايضة به، فالملايين لا يحلمون بترف المقايضة. إنه التطهير.. التطهير.