الأحد، 29 يناير 2012

من يشتري النفط الإيراني؟

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





"ليس بالضرورة أن يكون الشيء حقيقة، إذا مات أحد ما من أجله"
أوسكار وايلد أديب وشاعر ايرلندي

 
 
كتب: محمد كركوتــــي
 
كما فشل نظامي الأسد في سورية وأحمدي نجاد في إيران، في استجلاب التعاطف الإقليمي والدولي معها، وهما يتعرضان للعقوبات تلو الأخرى، والضغوط المتواصلة، كذلك يفشل هذان النظامان في إيجاد مشترين لنفطهما، حتى في ظل لجوئهما إلى سماسرة دوليين يستطيعون بيع حتى الوهم، و"يعملون البحر طحينة". وبعيداً عن نظام الأسد المتهاوي نفطياً واقتصادياً وسياسياً.. وبالطبع أخلاقياً، أتناول هنا إيران في ظل العقوبات وما بعدها، ولا سيما بعد أن دخل المسؤولون الإيرانيون في مرحلة تهديد الأعداء عن طريق طرف ثالث، لا دخل له بين طهران وهؤلاء الأعداء، وفي ظل تضارب في مواقف المسؤولين، بين مهدد مرة، ومستعطف مرة أخرى، وبين مستكبر حيناً ومستضعف حيناً آخر. والحقيقة، أن هذا التضارب لا يدل إلا على خوف لا حدود له يعيشه المسؤولون الإيرانيون، من سلسلة لن تنتهي من العقوبات حتى يعود هؤلاء إلى رشدهم، وإلى واقعهم.. وإلى حكمة ناطحها نظام الملالي على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، واستطاع القضاء عليها.

فرض حظر على النفط الإيراني، يعني ببساطة أن إيران ستخسر ما لا يقل عن 50 في المائة من دخلها القومي، وهي نسبة لا يتحملها أي اقتصاد في العالم، ويعني أيضاً - سواء قبِل خامنئي ومعه نجاد أم لم يقبلا- أن بلادهما مرشحة لاضطرابات شعبية كبيرة، قد تكون الاضطرابات السابقة مجرد زوابع في فناجين، ويعني المزيد من تدهور قيمة العملة الإيرانية، ويعني وقف تام للاستثمارات المحلية، ويعني استحالة حتى مجرد التفكير في استثمارات ضمن القطاع النفطي، ويعني مزيداً من البطالة، ويعني ضرب التمويل الإيراني لكل من نظام الأسد وحزب الله الطائفي في لبنان، ويعني فقدان السيطرة ليس على النمو، بل على الانهيار الاقتصادي. وبدلاً من أن يقوم المسؤولون الإيرانيون بالحيلولة دون ذلك، والدخول في طريق التعاون والتفاهم الذي وفرته الدول الكبرى، بما في ذلك إمكانية حصول إيران على قوة نووية سلمية خاضعة للرقابة الدولية، يقوم هؤلاء بإطلاق التهديدات، وبتقديم قراءات وهمية (بل وتضليلية) لحقائق مجردة وحاسمة على الأرض.

إنهم يروجون أن سعر برميل النفط سيصل في أعقاب تنفيذ حظر شامل على النفط الإيراني، إلى 200 دولار أميركي، وأن الأسواق ستدفع ثمناً باهظاً نتيجة لذلك. والأمر لا يتطلب خبيراً اقتصادياً لضرب حملاتهم "الترويجية" هذه، لأن ما ستخسره السوق النفطية من نفط إيران، قابل للتعويض بسهولة شديدة، ولأن الاقتصاد العالمي ليس نشيطاً بما يكفي لرفع الاستهلاك النفطي، بل أن تقريراً للبنك الدولي، أشار إلى أن هذا الاقتصاد سيشهد ثباتاً في العام الجاري، خصوصاً وأن التقرير نفسه، أورد بأن الناتج المحلي العالمي، سينخفض في العام الحالي إلى 2,5 في المائة من 2,7 في المائة سجلها في العام 2011. ولعل المفيد الإشارة، إلى أن الاتحاد الأوروبي يستورد 450 ألف برميل يومياً من النفط الإيراني (أو 18 في المائة من مجموع صادرات إيران)، موزعة على كل من إسبانيا واليونان وإيطاليا، وهي دول لا أحد يتوقع حراكاً اقتصادياً متصاعداً لها في السنوات القليلة المقبلة، نتيجة لكارثة الديون الغارقة فيها، يضاف إلى ذلك العبء الاقتصادي الكبير الذي ترزح الدول الأوروبية الكبرى تحته، من جراء محاولات إنقاذ اقتصادات هذه الدول، وغيرها في هذه القارة.

لن يصل سعر البرميل إلى 200 دولار أميركي. ففي زمن ما بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، لم تعد الاحتياطات الهائلة من النفط التي تتمتع بها إيران، تشكل فارقاً على الساحة الاقتصادية، ولا في ميادين الأسواق النفطية، حتى لو امتلكت إيران 9,3 في المائة من الاحتياطي العالمي، و12 في المائة من احتياطيات دول منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبيك). وبدلاً من أن تنشر إيران الخوف الوهمي بهذا الخصوص، عليها أن تجد مشترين لنفطها بأسرع وقت ممكن. فحتى الصين التي تستورد ما يزيد عن 11 في المائة من احتياجاتها النفطية من إيران، بدأت بعقد صفقات بعيدة عن هذا البلد. فثاني دولة في العالم في استهلاك النفط، لا تستطيع أن تربط مصير جزء من احتياجاتها النفطية بدولة متخاصمة دائماً مع المجتمع الدولي، ومشجعة دائمة على عدم الاستقرار الإقليمي، ومحرضة مستمرة على الاضطرابات الخارجية. ولهذا السبب، وفي إشارة خطيرة بالنسبة لخامنئي ونجاد، لجأت الصين مؤخراً إلى استيراد كميات من النفط من فيتنام لأول مرة منذ أكثر من عام، ورفعت من حجم وارداتها النفطية من روسيا، وتحاول بشتى الوسائل أن تكون بعيدة عن آثار الحظر الدولي المفروض على النفط الإيراني. ليس مهماً اعتراض الصين على الولايات المتحدة الأميركية، لفرض الأخيرة عقوبات على شركة صينية تبيع النفط الإيراني. فمثل هذه الاعتراضات لا تلبس أن تتحول إلى اعتراضات صوتية، خصوصاً عندما "يجد الجد".

تطالب إيران دول الخليج العربية باتباع سياسات حكيمة بهذا الصدد، بينما لا دخل لهذه الدول بالبرنامج النووي الإيراني المشبوه، ولا بالعقوبات الغربية. في حين أن المسؤولين الإيرانيين لا يتذكرون آلاف المطالبات الخليجية العربية التي وجهت لهم على مدى ثلاثة عقود، لكي يعتمدوا الحكمة في سياساتهم وسلوكياتهم ونواياهم.

السبت، 21 يناير 2012

بين الأمن الغذائي وأمن الأسد

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"لا أحد يستطيع الكذب، لا أحد يمكنه إخفاء أي شيء، عندما ينظر مباشرة إلى عينيك"
باولو كويلهو أديب ومؤلف برازيلي



كتب: محمد كركوتـــي
 
يطيب لبشار الأسد وأعوانه الحديث عن قدرة سورية في مجال الأمن الغذائي، واستعذب هؤلاء تكثيف حديثهم هذا، في ظل العقوبات التي تفرضها الدول الغربية، وبعض الدول الأخرى على الأسد، بسبب حرب الإبادة التي يشنها ضد السوريين العزل، علماً بأن العقوبات العربية التي أُعلنت، لم تدخل حيز التنفيذ بعد، وذلك لاستكمال "ما تبقى لدى العرب" من مهل وفرص، كانت كافية لإنقاذ أي طاغية على مر التاريخ، رغم العدوان اللفظي تلو الآخر الذي يشنه الأسد على العرب، بما في ذلك التشكيك بعروبتهم، واتهامهم بأنهم ينفذون "مؤامرات بأجندات خارجية"! والمشكلة هنا، أن أحداً لا يعرف الحجم المتبقي من تلك المهل والفرص.

وبعيداً عن هذه الإشكالية التي باتت تحرج العرب يومياً طبقاً لما يجري حقيقة في سورية، فإن الإنكار اليومي للسلطة هناك بأن الأمن الغذائي في البلاد بخير، وأن سورية تفخر بكونها من الدول التي تتمتع بمثل هذا الأمن، لن يغطي على الواقع الخطير للأوضاع الغذائية، وهو يواجه التهديد حقاً، تماماً كما الأمن العام في البلاد، الذي اختصره الأسد بعملياته العسكرية ضد الشعب الأعزل، بأمنه الشخصي وأمن نظامه فقط. فليس مهماً أن تتحول حمص وإدلب ودير الزور وعشرات المناطق الأخرى في سورية إلى محافظات ومدن منكوبة، المهم أن يبقى النظام بكل التكاليف، والمهم أيضاً ألا تتوقف "غزارة" المهل والفرص العربية، التي بات ينظر إليها السوريون الأحرار، على أنها "هدايا بلا مناسبات".

في كل مرة تتعرض فيها السلطة لعقوبات ما، يؤكد الأسد وأعوانه، بأن سورية "محسودة" على وضعها المالي والغذائي خاصة، والاقتصادي عموماً. وكالعادة، فالحقيقة هي عكس ذلك تماماً. والغريب أن نكران الواقع لا يتطلب عناء لدحضه من جانب الشعب السوري أولاً، ومن جهة المتابعين لسير الأوضاع في هذا البلد. فماذا يعني الأمن الغذائي؟ يعني أن تكون البلاد مكتفية من المواد الأساسية أولاً، وأنها قادرة على الحفاظ على مستوى إنتاجها من الغذاء في كل الظروف والأوضاع التي تمر بها، سواء تعرضت للحصار أو الضغوط، أو أنها استُهدفت –كغيرها- من أزمة اقتصادية إقليمية أو عالمية. ولكن ما هو الوضع حقيقة على الأرض؟ سأستعين بأرقام حكومية سورية، لا بأرقام تطلقها "جهات مندسة". تحتاج سورية سنوياً لاستيراد أكثر من مليوني طن من الذرة، و300 ألف طن من الأرز، و800 ألف طن من الشعير، وآلاف الأطنان من السكر، واستوردت البلاد أكثر من 4،6 ملايين من الحبوب مثل القمح والشعير في العام الماضي، وطبقاً لأرقام حكومية أيضاً، فإنها سترفع نسبة استيرادها من هذه المواد الأساسية 700 ألف طن أخرى في العام الجاري. يضاف إلى ذلك، أنها تستورد كميات كبيرة جداً من بذور الحبوب، أي أنها ليست مكتفية ذاتية في هذا المجال. وعلينا أن نتخيل الصورة كاملة، عندما نأخذ في الاعتبار القرارات الاقتصادية الرعناء بوقف التعامل بالدولار الأميركي واليورو واللجوء إلى ماذا؟ إلى الروبل الروسي. فعمليات الاستيراد هذه (وغيرها)، لا تتم إلا بعملات لها قيمتها ووزنها وحصانتها، وبالتأكيد الروبل لا يتمتع بأي منها، وهذا يعني خسائر فادحة إضافية يتكبدها الشعب السوري. ومن جانب آخر، فقد أعلنت منظمة الأغذية والزراعة التابعة (الفاو) للأمم المتحدة، قبل عام ونيف (أي قبل الثورة الشعبية السلمية العارمة في سورية)، أن أسعار المواد الغذائية في سورية، ارتفعت في العام 2010 أكثر من 16 في المائة، وأن أسعار الخضار ارتفعت بنسبة خرافية بلغت 80 في المائة! ومن المتوقع أن تواصل الأسعار ارتفاعها (بما في ذلك أسعار الخبز) في الأسابيع الأولى من العام الجاري.

ينطبق ما قاله الكاتب الأميركي إيرك هوفر قبل أربعين سنة، على حال الأسد وأعوانه. ماذا قال؟ "نحن نكذب بصوت عال جداً، عندما نكذب على أنفسنا". فرئيس السلطة في سورية يعرف الحقيقة كاملة، إلا إذا اعتبرنا أنه مجرد سائق سيارة مقودها في المقعد الخلفي، وهو ليس كذلك على الإطلاق. ويعرف ومعه أعوانه، أن سورية تعاني أزمة في الغذاء، ترتفع حدتها مع سياق عمليات السرقة والنهب والفساد في البلاد، وأن العقوبات الغربية المفروضة عليه، لا تمس بأي حال من الأحوال الجانب الغذائي والخدمات الضرورية للمواطن السوري. وفي الواقع، تأخرت هذه العقوبات كثيراً، لأن فارضيها قضوا أشهراً يبحثون عن أنجع الطرق، لكي تنال من السلطة لا من الشعب، الذي يعاني أصلاً من مآس معيشية يومية.

ليس هناك بلداً يستورد الحبوب يمكن أن يتبجح مسؤوليه بوجود أمن غذائي، ولا توجد دولة ترتفع فيها أسعار المواد الغذائية بصورة جنونية، يمكن أن تتحدث عن مثل هذا الأمن. والاقتصاد السوري ليس محسوداً كما يروج الأسد وأعوانه، في محاولات بائسة لإزالة الشكوك حول مصيره المحتوم. وإذا كان هناك محسود في سورية، فهو في الواقع الأسد نفسه، الذي ما زال يتمتع بفرص ومهل عربية، وتردد غربي في حسم الوضع المأساوي في سورية، دون أن يعرف أن كذبة واحدة تدمر كل النزاهة.

"فيلق الإنكار" بين نجاد وبشار

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"تعلمت الإنكار من أمي. لا أستطيع أن أواجه الحقائق، وإذا فعل أحد ذلك، فإنه يجرني إلى الجنون"
تاب هانتر ممثل ومغن أميركي



كتب: محمد كركوتــــي
 
لم يشهد التاريخ الحديث علاقة "تلاحمية" بين نظامين حاكِمَين، كتلك التي تربط النظامين السوري والإيراني، إلا إذا استثنينا تلك العلاقة التي جمعت نظامي النازي الألماني أدولف هتلر والفاشي الإيطالي بينيتو موسوليني. وإذا كانت الأولى تحمل معها الخراب، فإن الثانية أتت بالدمار. وللتذكير فقط، فإن رصاصة واحدة أنهت النازي وحُرقت جثته، بينما سُحِل الفاشي في شوارع روما، وعُقلِت جثته على أسلاك الكهرباء.

استكملت العلاقة بين بشار الأسد ونظام خامنئي عناصرها التلاحمية في أعقاب الثورة الشعبية السورية السلمية العارمة. ليس فقط من ناحية تزويد إيران الأسد بالآليات المخصصة لقتل المدنيين العزل، ولا بالمرتزقة الإيرانيين ومعهم قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني، ولا بالتنسيق مع حزب الله الإيراني في لبنان لهذا الغرض، ولا بالأموال التي بلغت 6 مليارات دولار أميركي لسند الأسد مالياً، ولا بإجبار طهران حكومة بغداد لعقد اتفاقيات "اقتصادية" سريعة مع سلطة الأسد توفر الإمدادات المالية له.. أقول، استكملت العلاقة عناصرها ليس بكل هذا فحسب، بل أيضاً بسياسة الإنكار التي باتت تشكل جزءاً أصيلاً من سلوكيات النظامين السوري والإيراني، خصوصاً فيما يرتبط بالعقوبات الاقتصادية الدولية المختلفة التي فرضت عليهما. فكلما تنوعت هذه العقوبات وتوسع نطاقها وازدادت حدتها، كلما تأصل الإنكار لآثارها على الساحتين المستهدفتين. ولأن العقوبات لن تنتهي بسرعة، بل مرشحة للمزيد من التنوع، فأنا أقترح على كل من الأسد وزميله أحمدي نجاد، تشكيل فيلق جديد، يضاف إلى الفيالق التي تربطهما، وليطلقا عليه اسم "فيلق الإنكار". وسأتفهم كثيراً جداً، أن يظهر أحد ليطلق عليه "فيلق مسيلمة".

وللإنصاف، لا يزال الأسد (وأعوانه) يتقدم خطوة واحدة فقط على نجاد (وأصحابه)، في إنكار المصائب الاقتصادية الناجمة عن العقوبات الدولية. فالأول مُصر على أن سورية محسودة على قدرتها المالية، وخصوصاً "قوة" الليرة، بينما لم يتجرأ الثاني على قول مماثل يخص اقتصاد بلاده، إذا ما استثنينا طبعاً، إصرار نجاد على انتظار المهدي "المنتظر" لحل مشاكل الكون كله، بما في ذلك الكارثة الاقتصادية الإيرانية. في كل مرة تفرض فيه عقوبات على الأسد ونجاد، يخرج أعوانهما للتأكيد بأنها لن تؤثر على أداء اقتصاديهما. وسواء قبلا أم رفضا، أو أنكرا أم اعترفا، فليس هناك أداء واقعي لهذين الاقتصاديين. إنهما اقتصادان يسيران بقوة نحو الهاوية السحيقة، لن تنفع معها (في مرحلة لاحقة) إصلاحات أو "ترقيعات"، كما أنهما لن يتمكنا من صد النيران الاقتصادية المصوبة عليهما. وفي ظل هذه الحقيقة البائسة، تحول الأسد ومعه نجاد، إلى "حلول وجدانية" فريدة! فالأول يقول: "إن الشعب السوري قادر على مواجهة الحرب الاقتصادية التي تشن ضده"! والثاني يعلن: "أن كل الفاعلين الاقتصاديين هم جنود في مواجهة الأعداء الذين لن يتمكنوا من تقييد شعبنا، فيحاولون تقييد اقتصادنا"!

والمشكلة التي يواجهها كل من الأسد ونجاد، أن الشعبين السوري والإيراني يعرفان الحقيقة، ليس من مصادر غربية معادية، ولا من جهات متآمرة، ولا من أطراف مغرضة، بل من واقع يعايشانه، جعل من تداول الليل والنهار مصيبة يومية عليهما. ولأن النظامين الحاكمين في كل من سورية وإيران، لا يريدان التعاطي مع الحقائق، بما في ذلك بعض الحقائق التي يمكن انتقائها، فإن "فيلق الإنكار" باتت ضرورة حتمية لهما. عليهما أن يضعا معايير متطورة في استراتيجية الإنكار، من أجل الحد الأدنى من الواقعية. والحقيقة أنني لا أملك ما يمكنني من تقديم النصائح بهذا الصدد، خصوصاً عندما تكون الحالة المستهدفة للإنكار واقعية لا نظرية، وحقيقية لا وهمية، وحتمية لا متوقعة. ويبدو واضحاً أن هذين النظامين بلغا مرحلة، لا يمكنهما معها تغيير مسارهما، لأنهما استنفذا كل الفرص ومعها الوقت، واستهلكا كل الأكاذيب، بما في ذلك تلك التي كانت تستعذبها شرائح شعبية بسيطة، حركتها مشاعر "وطنية" رُبطت بنظامين لا بأمتين. وعلى عكس النظرية الشهيرة لجوزيف غوبلز وزير دعاية هتلر: "اكذب.. اكذب، سيصدقونك الناس في النهاية"، فالذي صدق الأكاذيب في كل من سورية وإيران، هم الذين أطلقوها فقط، وباتوا أسرى لها.

لا أعرف كيف سيكون أداء "فيلق الإنكار"، إذا ما أسسه الأسد ونجاد معاً، ووضعا له منهجية واستراتيجية مشتركة، كتلك التي ينفذانها في سورية اليوم ضد شعب أعزل أراد حرية فقط. لكن الذي أعرفه حقاً، أن أحداً لن يصدقهما حتى لو "خاطرا" بقول الحقيقة وعرضاها مجردة بمرارتها أما شعبيهما، وحتى لو اعترفا بما هو موجود على الأرض فعلاً، وحتى لو أرادا التعاون مع محيطهما الإقليمي والدولي، وحتى لو سامح الشعب السوري بشار الأسد على جرائمه (وهذا أمر مستحيل)، وحتى لو استحضر أحمدي نجاد "المهدي المنتظر"، لإقناع الإيرانيين بأنه أصبح صادقاً فيما يقوله، واعترف بأنه نجح في الانتخابات بالتزوير.

على كل حال، إن الإنكار في النهاية، هو بمنزلة إطار للوحة تغص بالأكاذيب.

لماذا لا يكون اقتصاد سِلم؟

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"الحكماء يتحدثون لأن لديهم شيئاً يقولونه. الحمقى يتحدثون لأن عليهم أن يقولوا شيئاً"
أفلاطون فيلسوف إغريقي

 
كتب: محمد كركوتـــــي
 
مهما استسهلت إيران خطتها "المؤجلة" لإغلاق مضيق هرمز، حتى لو اعتبرتها مجرد "شربة ماء"، ومهما كان التزامها بنشر توتر دائم في المنطقة، ومهما استحسنت عدم الاستقرار الإقليمي، ومهما تصلب رفضها للحوار ولعلاقات طبيعية إقليمياً ودولياً. فإنها بلا شك تعيش أزمة اقتصادية عميقة، مهما حاولت تجاهلها، ومهما بلغ مستوى نكرانها لوجودها، ومهما سعت لتكميم أفواه الإيرانيين الذين يعرضون الحقائق الموجودة على الأرض، لا الأوهام ولا التمنيات. وكما الأنظمة السياسية المتخاصمة مع نفسها أولاً، ومع واقعها وبيئتها ثانياً، ومع التحولات المحلية والإقليمية والدولية ثالثاً، ومع متغيرات الفكر السياسي العالمي رابعاً، كذلك النظام في طهران، يحمل الآخرين مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية، دون مراجعة واقعية لدوره في ذلك، ويلتزم خطاباً محلياً عقيماً يجهد نفسه بصورة بائسة لتعميمه عالمياً. ولا أدري إذا ما كان النظام الإيراني، يعرف بأن الإيرانيين أنفسهم، اكتشفوا هذا العقم منذ زمن؟ والحقيقة إنهم يعيشون تداعياته وأثاره وهمومه. يدفعون تكاليف "منتجات ومُستهلكات سياسية"، لم "يشترونها"، وأوهام إقليمية، تأكدوا منذ سنوات أنها عصية عن التحول إلى حقائق.

عودتنا إيران منذ ثورتها في العام 1979، أنها تصيغ سلوكياتها (ولا أقول سياستها)، من مادة خام واحدة، وهي المصاعب الداخلية التي تواجهها، دون أن يحمل النظام الحاكم فيها نفسه (ولو مرة واحدة) مسؤولية هذه المصاعب. وعندما يهدد نظام خامنئي باستحداث توتر في المنطقة، رداً على تصعيد العقوبات الاقتصادية الغربية عليه، يتجاهل أن الأزمة الاقتصادية الداخلية في بلاده، اندلعت في الواقع قبل هذه العقوبات. صحيح أنها تعمقت بعدها (وهذا طبيعي)، لكنها كانت موجودة، تضرب المجتمع الإيراني في كل القطاعات.. البطالة، تراجع قيمة العملة الوطنية، تردي الاستثمارات، ارتفاع كلفة الواردات، تقليص موارد البلاد من العملات الصعبة، توقف حتى الاستثمارات في القطاع النفطي.. منها. ولمن نسي، كانت هذه المشاكل والأزمات حاضرة على الساحة الإيرانية، قبل 18 شهراً، هي في الواقع عمر العقوبات الغربية المفروضة على إيران، بسبب برنامج نووي، يصر خامنئي وأعوانه على المضي قدماً فيه، رغم كل العروض التي قدمت له، بما في ذلك إمكانية أن تمتلك البلاد قوة نووية سلمية خاضعة للرقابة الدولية. لقد عززت طهران من خلال رفضها التعاون في هذا المجال، الشكوك التي تحوم حول نيتها من امتلاك قوة نووية، ستكون خاضعة لحلم "الثورة"، (بل أحلامها)، ليست المحلية فقط بل الخارجية أيضاً. ولا أشعر بالتردد في وضع عدة خطوط حمراء تحت هذه الأخيرة، لا لفت الانتباه إليها، بل للتأكيد على حقيقتها.

ماذا كانت نتيجة السلوكيات الإيرانية الحالمة منها والوهمية؟ كانت مطالبة المسؤولين الإيرانيين الذين قرروا أن يكونوا واقعيين، بضرورة أن تتبع البلاد "اقتصاد الحرب"! وهم بذلك استبعدوا علانية، أي احتمال لاتباع "اقتصاد السلم"، على الرغم من أن تكاليف الثاني لا تقارن بأي حال من الأحوال، بتكاليف الأول، هذا إذا كانت هناك تكاليف حقيقية أصلاً لـ "اقتصاد السلم". ورغم واقعية هؤلاء المسؤولين، لم يجرؤا على القول، إن "اقتصاد الحرب"، سيؤدي إلى ارتفاع خطير لمعدلات البطالة، وتعاظم هائل لنسبة التضخم، وإن الشرائح التي تعيش تحت خط الفقر ستتوسع، وإن إيرادات الخزانة العامة ستتقلص، وإن ارتفاع الدين العام سيتواصل، وإن القدرة الشرائية للتومان ستزداد ضعفاً. وبالتأكيد لم يجرأ هؤلاء على طرح ضرورة اتباع "اقتصاد السلم"، لأن ذلك يتطلب شيئاً واحداً، لا يبدو أن النظام الإيراني الحالي يمكن أن يوفره، أو (على الأقل) يفسح المجال أمامه، وهو التخلص من سلوكيات سياسية "ثورية"، تحولت إلى عملة لا قيمة لها، مرفوضة إقليمياً، وغير مقبولة دولياً. سلوكيات تحاصر أصحابها لا المستهدفين منها. سلوكيات لا يستعذبها سوى نظام واحد في المنطقة العربية، هو نظام بشار الأسد في سوريا، الذي من المفترض أن إيران تعرف أنه آيل إلى السقوط، ومعه توابعه الإيرانية أيضاً. سلوكيات باتت تحرج حتى ما تبقى من أصدقاء لإيران (وهم قليلون جداً)، يحاولون الآن التخلص من تبعات هذه الصداقة.

لقد خلفت "سلوكيات الحافة" التي تمارسها طهران منذ سنوات، مصائب اقتصادية كبرى. فقد بلغت التنمية مستويات لا تذكر، وارتفع عدد العاطلين إلى أكثر من 25 في المائة، بل باتت البطالة المقنعة في البلاد، بؤرة أوئبة خطيرة في الكيان الاقتصادي. ولا أشك في أن النظام القائم هناك، يعرف مدى المخاطر الداخلية الناجمة عن مثل هذا الوضع الاقتصادي. فقد اكتوى بنارها في انتفاضات عدة، وكلما ازداد الاقتصاد تردياً، كلما أكملت الانتفاضات عناصرها، خصوصاً وأن "اقتصاد الحرب" الحتمي، لم يفرضه عدوان على إيران، ولا نوايا لاحتلالها، ولا مخططات لإزاحتها عن الخريطة، ولا أجندات لتجويع الشعب الإيراني. إنه اقتصاد بفعل فاعل.. إنه فاعل وطني لا إقليمي ولا دولي، أحبه كثيراً، في زحمة كراهية لا حدود لها لـ "اقتصاد السلم"، بعناصره السياسية الحكيمة.