الثلاثاء، 27 ديسمبر 2011

في عيد ميلاد اليورو.. سنوات بشعة يا "جميل"

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






"اليورو هو مصيرنا المشترك، وأوروبا هي مستقبلنا الواحد"
أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا

 
 
 
 
كتب: محمد كركوتـــي
 
مع حلول العام 2012، سيجد قادة منطقة اليورو صعوبة في طلب قالب من الكيك على شكل العملة الأوروبية، للاحتفال بمرور عشر سنوات على إطلاق (ولادة) اليورو، ليس لأنهم مصابون بمرض السكري، وعليهم تجنب تناول الحلوى، بل لأن المحتفى به مصاب بأوبئة وأمراض يبدو أمامها "السكري"، كـ "نزلة برد" تنتهي في يومين، بحبة أسبيرين أو بدونها. بل هناك من يعتقد بأنه مهدد بالموت ولم يتجاوز العاشرة من عمره، وأن الأجواء لم تعد صحية لاستمرار ربطه "بأجهزة" الإنعاش. ومن المتطرفين من يعتقد بضرورة "عقد زواج" جديد، يستولد عملة أخرى، يمكن الاحتفال والرقص والغناء بميلادها دون حرج. ومن المفارقات أن فرنسا البلد الأكثر ابداعاً بقوالب الكيك (والأكثر "حنقاً" لمرضى السكري)، لن يطلب رئيسها ذلك القالب التقليدي، وإذا ما قفز على "توقعاتي" وطلبه، سيكون الأمر بمنزلة احتفال في مأتم، أو حفلة راقصة وسط إعصار مدمر، أو مهرجان للضحك أمام أناس يموتون جوعاً. لكنه هل يستطيع أن يردد الأنشودة التقليدية "سنة حلوة يا جميل"؟ أحسب أنه سيكون واقعياً حتى وإن قرر الاحتفال وأكل من قالب الحلوى، وسيضطر للتصرف بالأنشودة ويرددها على الشكل التالي: "سنوات بشعة يا جميل"! مهلاً.. ألم يقل هذا الرئيس (نيكولا ساركوزي): "إن خطر تفكك أوروبا لم يكن يوماً كبيراً كما هو اليوم"؟

"سنوات بشعة يا يورو"، هي تلك التي مرت بها هذه العملة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، وستواصل المرور بها في مرحلة أزمة الأزمة. ولأن قادة اليورو تجنبوا التعليق بمناسبة مرور عقد من الزمن على اليورو، فإن المفوضية الأوروبية كانت صادقة وصريحة إلى أبعد الحدود في بيانها الوحيد بهذه المناسبة. ماذا قالت؟ "بينما يوفر اليورو والاتحاد الاقتصادي والنقدي أساساً سليماً لتحقيق التقدم الاقتصادي، فإن الأزمة المصرفية في عام 2008 وعواقبها، شكلت اختباراً قوياً للنظام". والحقيقة أنها شكلت وتشكل اختباراً صارماً وقاسياً للاتحاد الأوروبي برمته، الذي كان يفخر في السنوات الثماني الأولى من عمر العملة الموحدة، بأنها عملة لا تُقهر، فرضت نفسها بقوة على الساحة العالمية، وهددت القوة التقليدية للدولار الأميركي نفسه. بل أن بعض الدول غير الأوروبية اعتمدتها (بصرف النظر عن الأسباب) بديلاً عن العملة الأميركية.

لم تكن العملة الموحدة فأل شؤم على الاتحاد الأوروبي، وذلك على عكس ما يروج الكارهون لها، ولاسيما أولئك الذين لا يزالون يصرون على العيش في أحلام الوطنية والمحلية المغلقة. ورغم اعتلال اليورو، من فرط ديون أوروبية حكومية تاريخية هددت دولاً بالخروج من هذه العملة، فإن الاتحاد الاقتصادي والمالي، وفر بالفعل الحماية لدول منطقة اليورو، من آثار الاختلالات التي تراكمت في هذه المنطقة وارتبطت بالمال والاقتصاد الكلي، من خلال تداعيات الأزمة العالمية. ولا أزال أتذكر تصريحاً هاماً لرئيس الوزراء الفرنسي السابق جان بيير رافاران، سبق هذه الأزمة، وعزز في الوقت نفسه أهمية الاتحاد النقدي الأوروبي، قال فيه: "يجب علينا أن نعترف أن اليورو يمثل أهمية قصوى للاتحاد الأوروبي. فبدونه - وخلال الأزمات العالمية- ستضطر كل دولة إلى تخفيض قيمة عملتها". وكان كلام زميله السابق أيضاً جان لوك ديهانة رئيس وزراء بلجيكا، متطابقاً حين قال –قبل الأزمة أيضاً- : "إن الاتحاد النقدي هو المحرك للتكامل الأوروبي".

إذا كانت أزمة منطقة اليورو مصيبة اقتصادية حقيقية، لن تنتهي ولن تزول آثارها قبل سنوات عديدة، قد تصل إلى يوم الاحتفال بمرور عشرين سنة على إطلاق هذه العملة، فإن انهيارها سيكون كارثة لا يمكن لأحد أن يتوقع أين ومتى تنتهي. وقد عرف قادة الدول الأوروبية الكبرى هذه الحقيقة، وعلى أساسها يسعون إلى الحفاظ على اليورو ومنطقته، بالرغم من التكاليف الباهظة التي تتكبدها هذه الدول، ولاسيما فرنسا وألمانيا، وبصرف النظر عن مناكفات بريطانيا المعهودة في هذا المجال. فإنقاذ دولة أو اثنتين أو حتى عشر دول، هو في الواقع إنقاذ لكل دول اليورو، والوصول إلى اتفاقية جديدة تفرض قيوداً بلا تسامح على الديون الحكومية، سيكون بمنزلة حبل نجاة لهذه المنطقة، التي أُطلقت عملياً من أجل إتاحة المجالات كلها أمام تحسن الاقتصاد الأوروبي، وخلق المزيد من فرص العمل، وتهيئة حياة أفضل للأوروبيين. فاليورو –حسب المفوضية الأوروبية- ليس مجرد ترتيبات فنية نقدية، وإنما رمزاً للعزم على العمل معاً بروح التضامن.

وعلى هذا الأساس، لا توجد حكومة أوروبية تعتمد اليورو مستعدة للتفكير بالتخلص منه، مهما كانت قوية سياسياً، ومهما كانت قوة بلادها. ولا يهم الآن الاحتفال بمرور عشر سنوات على ميلاد اليورو. المهم أن تتمكن هذه العملة من الاحتفاظ بحياتها، والاحتفال بمئويتها وألفيتها، ولن يتحقق ذلك، إلا بمنهجية أوروبية، لا وطنية. منهجية تحفظ قيمة ووزن ووقع عملتها التي باتت مرتبطة بصورة متلاحمة بهيبة أوروبا نفسها، وبمكانة اتحاد أصبح مثالاً عالمياً وتاريخياً للاتحادات والكيانات الناجحة.

الاثنين، 19 ديسمبر 2011

في أوروبا.. حرب للحفاظ على الهيبة؟

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






"حسب معرفتي، فإن أفضل شيء يجمع بريطانيا وفرنسا، هو البحر"
دوجلاس جيرولد كاتب بريطاني

 
 
 
كتب: محمد كركوتـــي
 
في زحمة استمرار ما اصطُلح على تسميته بـ "الربيع العربي"، هناك في القارة الأوروبية خريف، لا يبدو أنه سينتهي قريباً، بعد أن اختصر الفصول الثلاثة الأخرى فيه، مشكلاً أعاصير تاريخية سياسية اقتصادية اجتماعية، دفع البعض المُبالِغ من الأوروبيين إلى الاعتقاد، بأنه خريف قد يزج بأوروبا في الحرب! وعلى الرغم من عدم واقعية هذا الاعتقاد، إلا أن مجرد طرحه من قبل سياسيين أوروبيين، يمثل نقطة خطرة في القارة التي تحارب ديونها، بل وتحارب نفسها من أجل الانتصار على الديون وتوابعها وعلى الفشل وروابطه وعلى الانهيار ومصائبه. تحارب من أجل حماية عملة لا تزال "طفلة" من حيث الزمن، ومن أجل الحفاظ على هيبة ظلت في الأجواء، حتى بعد تراجع نفوذ وقوة أوروبا (وتحديداً بريطانيا وفرنسا)، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومن أجل اتحاد، كان حتى وقت قريب رمزاً من رموز النجاح على الساحة العالمية، بل ومرجعاً لأي اتحادات مشابهة، أو مشاريع اتحادات مماثلة. وعلى الرغم من أن الحرب التي تخوضها أوروبا بلا أسلحة، إلا أنها حرب شرسة، استجلبت بعضاً من "الأسلحة" القومية والوطنية والمحلية، رغم الصدأ الذي علاها، ورغم التحديات التي عطلتها منذ الأزمة الاقتصادية العالمية.

لا زلت أعتبر أن العنوان الأخطر في الأزمة المالية الأوروبية الراهنة، هو ذاك الذي أطلقه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. ماذا قال؟ "إن خطر تفكك أوروبا لم يكن يوماً كبيراً كما هو اليوم". ولن يكون هناك عنوان آخر سيوازيه من حيث الصدمة، ومن جهة الوقِع. ولأنه كذلك، فإننا يمكن أن نفهم كيف تجنب رئيس فرنسا مصافحة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في القمة الأوروبية التاريخية التي عقدت في بروكسل، من أجل معاهدة جديدة لضبط الموازنات العامة لدول منطقة اليورو. كان سلوكاً يعبر عن أكثر من فتور في العلاقات، وأكبر من خلاف سياسي.. سلوك لرجل خائف على أوروبا وهيبتها وعملتها (بل وكيانها)، مع رجل لا يزال يعيش وهم الهيبة البريطانية، وأحلام الأنجلو-سكسونية، رغم أن هذه الأخيرة لم تعد ذات معنى عند الطرف الأميركي المكمل لها، ليس فقط لقناعة إدارة أميركية بضرورة الإشراك العالمي، بل لأن الجامع البريطاني- الأميركي التاريخي التقليدي، انتهى مع أول ضربة للأزمة الاقتصادية العالمية قبل ثلاث سنوات. فما كان ينفع قبلها، أصبح ضاراً بعدها. واشنطن عرفت ذلك، لكن يبدو أنه لم يصل الخبر بعد إلى حكومة "الرأس والنصف" (لا الرأسين) في بريطانيا.

والحقيقة أن موقف كاميرون المعارض (والمنسحب) لمعاهدة أو اتفاقية جديدة تصون الموازنات العامة الأوروبية، وتحاكي استحقاقات الأزمة الاقتصادية العالمية ومصائبها، شكل صدمة كبيرة، لمن؟ لشركائه في الحكم! فحزب الديمقراطيين الأحرار المؤتلف (لا المتآلف) مع المحافظين، وجد نفسه بين خيارين اثنين لا ثالث لهما. الأول: أن ينسحب من الحكومة ويسقطها، والثاني: أن يظل صامتاً. والمشكلة في الخيار الأخير، أنه لا يملك كثيراً من الوقت لمواصلة الصمت. فالصدمة لم تكن أوروبية خالصة، بل سياسية بريطانية محلية أيضاً. وكم كان المشهد تاريخياً، عندما كان كاميرون يدافع عن قراره هذا في مجلس العموم البريطاني، وإلى جانبه "نصف الرأس الآخر" في حكومته زعيم "الديمقراطيين الأحرار" نيك كليج، الكاره لما يقوله رئيس الوزراء. ولو كنت مكان كليج، لارتكبت حادثاً مرورياً "مع نفسي"، ليكون عذراً مقنعاً لعدم حضوري هذه الجلسة تحديداً.

يرتكب ساركوزي والمسؤولون الفرنسيون، خطأ كبيراً الآن بتركيز الهجوم على بريطانيا، وتعريتها اقتصادياً، من خلال دعوة وكالات التصنيف العالمية، إلى تخفيض تصنيف المملكة المتحدة، قبل التطرق إلى دول منطقة اليورو، وعن طريق إطلاق التصريحات على أعلى المستويات، التي تتحدث عن أن بريطانيا أكثر مديونية من فرنسا، بما في ذلك ما قاله وزير المالية فرنسوا باروان "إن وضع بريطانيا العظمى مقلق جداً حالياً، ونفضل أن نكون فرنسيين على أن نكون بريطانيين على الصعيد الاقتصادي". ويخطئ الفرنسيون أيضاً، بوصف كاميرون بـ "الأخرق" و" الولد العنيد". فـ "الردح الاقتصادي- السياسي" لا يساعد فرنسا وبقية دول الاتحاد الأوروبي (وتحديداً دول اليورو)، في استعادة الهيبة الأوروبية المهددة. والتاريخ أثبت، أن هذا النوع من "الردح"، لم ينقذ معاهدة أو اتفاقية أو تفاهم أو عقد، كما لم يدفع "المردوح" –إن جاز التعبير- لتغيير مواقفه.

ليس أمام فرنسا ومعها بقية الدول الأوروبية المحورية والثانوية، إلا أن تصل إلى تلك المعاهدة أو الاتفاقية، التي ستحفظ في النهاية مكانة الاتحاد الأوروبي، ووضعية اليورو، وأهمية أوروبا وهيبتها. إن الأزمة التاريخية التي تعيشها أوروبا حالياً، ليست خالية من معاول الحلول، شرط أن تقلل بعض الدول الخائفة على مصير الاتحاد، من اعتباراتها القومية والوطنية، وأن تعترف بأن هذا الاتحاد (رغم المصائب والمصاعب التي يمر بها)، يشكل في النهاية الضامن الوحيد للازدهار الاقتصادي في القارة الأوروبية. ولا شك أن بريطانيا، ستواصل تشكيكها بمستقبل اليورو، وستبقي رأسها في جزيرتها، لكنها لن تنزع جسمها من أوروبا.

قارة الاكتئاب

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"الاكتئاب هو عدم القدرة على بناء المستقبل"
رولو ماي عالم وجودي أميركي



كتب: محمد كركوتـــي

رُزق الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بابنة من زوجته الشهيرة الجميلة، وشهد نتائج سياساته ومخططاته التي أدت إلى سقوط معمر القذافي أحد أسوأ الطغاة في العصر الحديث، لكنه لم يبتسم بصورة تتوازى من الحدثين. فقد كان الاكتئاب ضافياً عليه مع كل الأحداث المفرحة. اكتئاب ساركوزي ليس حديثاً، عمره من عمر الأزمة الاقتصادية العالمية، لكنه ازداد عمقاً وكرباً وخوفاً من مجهول معلوم، وبات جزءاً أصيلاً من المشهد الأوروبي العام في نطاق القيادات، وهو كذلك –في الواقع- في محيط الشعوب أيضاً. ويشهد العالم حالياً، نسمات الربيع العربي في قلب أوروبا، بعد أن مرت على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي. والفارق أن الناس في أوروبا لا يُقتلون، وقادتهم لا يَقتلون من أجل البقاء.

في القارة التي رسمت معالم العالم أجمع. ضاعت العناوين المبهجة في زحمة عناوين وحقائق قاتمة، يائسة، محبطة، متشائمة، منذرة، مخيفة. وكلها عناوين مستلهَمة من "نص" الأزمة، ومن "متن" مصائبها، مستخرجة من تاريخ أوروبي يتشكل، لم يرغب الرئيس الفرنسي (وزملائه الأوروبيون، ولاسيما المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل) أن يشهده، أو أن يرتبط به في سجلاته ووثائقه. فبعد تردد دام أشهراً طويلة، يعترف رئيس فرنسا، الدولة التي لا تتنازل تدافع عن "أحقيتها بحضانة" أوروبا، ليقول: "إن خطر تفكك أوروبا لم يكن يوماً كبيراً كما هو اليوم". مهلاً.. هل سرق ساركوزي العنوان-التصريح من زعيم حزب قومي بريطاني أو الماني أو فرنسي أو إيطالي متطرف؟! إنه بلا شك "أب" العناوين كلها. بعد ذلك يتجرأ وزير المالية البولندي جاسيك روستفيسكي ليقول: إن مخاطر الكارثة الاقتصادية التاريخية قد تؤدي -كأزمة انكماش الثلاثينيات من القرن الماضي- إلى الزج بأوروبا، أين؟ في الحرب!!

لنستعرض "عناوين الاكتئاب"، ولا أبلغ إن وصفتها بـ "الخراب"، التي تزخر بها ألسن الاقتصاديين الغربيين (ولاسيما الواقعيين منهم)، وتغطي المساحات الأكبر في واجهات الإعلام. تلك العناوين التي كانت تهمين (في الأشهر السابقة) على الاجتماعات في الغرف المغلقة فقط، لكنها باتت جزءاً من الاجتماعات المفتوحة والمعلنة: ركود جديد. انكماش آت. أزمة أخرى. انزلاق نحو المجهول. اليونان تترنح بديونها. إيطاليا تنتظر دورها. الاقتصادي الأميركي الشهير نورييل روبيني يتوقع خروجاً لهذا البلد من اليورو. البنوك الفرنسية تستسلم. وكالة "ستاندارد اند بورز"، تهدد بتخفيض التصنيف الائتماني الممتاز لفرنسا. الوكالة نفسها تعلن تهديدها لـ 15 دولة من دول منطقة اليورو الـ17 بتخفيض تصنيفها جميعاً. الألمان غاضبون. الدول الدائنة ستصبح مدينة. هل من الأفضل لألمانيا احتلال اليونان؟! ألمانيا ذاتها تنزلق إلى الكساد. اليابان تُعنف الأوروبيين على أزماتهم. أخطر أزمة تواجه منطقة اليورو في تاريخها. اليورو رصاصة قاتلة للاتحاد الأوروبي. وفي الصيف الماضي انطلق هذا العنوان: الخناق يضيق على اليورو، ويُقرب خريف أوروبا. الحكومات الأوروبية تتساقط، انظروا كيف سقط باباندريو في اليونان، وثاباتيرو في إسبانيا، وبرلسكوني في إيطاليا. أوروبا قد تلجأ إلى من؟ إلى صندوق النقد الدولي! منطقة اليورو تبحث عن منقذ، لكن الصين ترد رسمياً بـ "ألا تتوقع هذه القارة أن تستخدم بكين جزءاً من احتياطياتها من القطع الأجنبي البالغة 3,2 تريليون دولار أميركي لإنقاذ القارة". الأميركيون يؤنبون الأوروبيين.. أميركا (نفسها) تتراجع ائتمانياً. الأميركيون يفكرون في احتلال "وول ستريت". الأميركيون احتلوا "وول ستريت" فعلاً. الديون تدق إسفيناً في العلاقات الأميركية الأوروبية. صندوق النقد والبنك الدوليين: العالم في خطر داهم. الأسواق تكتسي اللون الأحمر الناري. أزمة اليورو تفاقم الجوع في إفريقيا.لا جسارة عند السياسيين الغربيين.

قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، كانت هذه التحذيرات والعناوين تعتبر مجرد كلمات تهويل غير واقعية، من اقتصاديين وإعلاميين لا يحبون التفاؤل. بل كان هؤلاء متهمون بشن حملات تستهدف عن قصد نشر الإحباط والاكتئاب في الأجواء. الذي حدث أن الأزمة الكبرى وقعت وأوقعت معها العالم. وبعد الأزمة، اختفت أصوات من تبقى من المتفائلين، لينضم السياسيون إلى الواقعيين. فكل عنوان يحمل حقيقة كارثة تحتضن برهانها، ويضع خطاً في لوحة تحتوي معالم مستقبل اقتصادي عالمي، ستكون "لوحة الأزمة" (بالمقارنة) أكثر إشراقاً. إن العناوين لن تتوقف عن الانطلاق في كل الأرجاء، ومن المرجح (والبعض يقول من المؤكد) أن تكون العناوين المقبلة بمضامين أشد رعباً وشؤماً، مثل: الإعلان رسمياً عن إفلاس اليونان، وخروج إيطاليا من اليورو، وألمانيا عاجزة عن مواصلة إنقاذ الدول الغارقة بالديون، والمنقذون يبحثون عن منقذين لهم، والبنك المركزي الأوروبي يدرس طرد بعض الدول من منطقة اليورو، ودعوات لتفكيك منطقة اليورو، ورصاص اقتصادي يدمر منطقة اليورو، وأثنين وثلاثاء وأربعاء وخميس وجمعة سوداء في الأسواق العالمية، ومرحى للأزمة السابقة، وتعاظم فواتير الأزمات الغربية التي تدفعها الدول النامية، وربما سيبرز عنواناً هو: الشعوب الأوروبية تحتل بورصات بلدانها كلها، والعالم يبحث عن حلول لأزمتين تاريخيتين مفجعتين في آن معاً.

ستكون عناوين صادمة، لعالَم اقتصادي مشوه، من المستحيل تجميله.

الثلاثاء، 6 ديسمبر 2011

وجدانيات اقتصادية سورية لضرب العقوبات!

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





"الذي يشعر بأن العالم أجمع يغشه.. هو على حق، لأنه يفتقد الشعور الرائع بالثقة في أي إنسان أو أي شيء"
إيريك هوفير كاتب وأديب أميركي

 
 
كتب: محمد كركوتـــــي
 
يوم أن أعلنت جامعة الدول العربية عقوبات اقتصادية ضد بشار الأسد وأعوانه، جمعني برنامج تلفزيوني في محطة (سي إن بي سي عربية)، مع محمد الشعار وزير اقتصاد الأسد الذي لم يستطع أن يخفي رعبه من هذه العقوبات، لاسيما وأنه قبل يومين فقط أعلن في نفس المحطة "استحالة أن يقوم العرب بفرض عقوبات". الوزير المصدوم والمرتبك والبائس، لم يتحدث عن هذه العقوبات من زاوية الاقتصاد، بقدر إطلاقه لجُملٍ تحاكي عواطف العرب، مما دفعني إلى القول –في البرنامج نفسه- بأنه تناول قضية مهمة ومصيرية بالنسبة للسلطة، بـ "وجدانيات اقتصادية". وحتى وجدانياته هذه، لم تكن متطورة، فقد كرر ما يعرفه كل العالم وليس العرب فقط، بأن ما يربط سورية بأشقائها العرب، اللغة والمصير والجغرافية والدين.. إلى آخر تلك الروابط المعلومة لطفل في فصله الأول. ولكن ما دخل هذا كله، في عقوبات عربية على نظام يستحق "كأس العالم" في استحواذه على المُهل والفرص العربية والعالمية، من أجل وقف عمليات القتل والسحل والاعتقال والتعذيب والتهجير، ضد شعب أعزل أراد حرية؟!

وإذا كانت الحرية مكفولة لأي إنسان في أن يستغرب العقوبات كلها (أو ما شاء منها)، على سلطة تقتل شعبها، فإن حق الاستغراب مرفوع عن أركان هذه السلطة. وتكفي الإشارة، إلى أن العرب الذين اتُمهوا –ولا يزالون- من قبل الأسد وأعوانه، بأنهم ينفذون أجندات خارجية، تركوا ضمن بنود عقوباتهم منفذاً جديداً آخراً لهذه السلطة، بأقل التكاليف الممكنة لها. وللتذكير، قالوا للأسد: اسمح بدخول لجنة تقصي الحقائق إلى سورية، نوقف العقوبات التي لم نطبقها بعد. ولأن الجرائم التي يرتكبها الأسد فظيعة بحق شعب أعزل، فقد وجد وأعوانه أن العقوبات العربية (مهما كانت ضاربة) تبقى أهون من كشف الحقائق، ويظل منع سفر أي ركن من أركان السلطة، أقل وطأة من اكتشاف مقبرة جماعية، أو من إحصاء عدد المعتقلين، أو من الاطلاع على الأعمال المريعة لقطاع الطرق الموظفين لدى هذه السلطة، أو من معرفة مصير مئات (وربما آلاف) المفقودين، أو من توثيق استخدام الطائرات المقاتلة والمدفعية والسفن الحربية ضد المدنيين، أو معاينة تدمير المآذن وتخريب المساجد ودور العبادة.

وبعيداً عن وجدانيات وزير الاقتصاد (لا وزير الثقافة)، وبعيداً أيضاً عن المُهل والفرص والمنافذ والمخارج والأبواب والنوافذ، التي وفرها العرب للأسد وأعوانه، في نطاق حرص عربي لحل الكارثة السورية عربياً، يبقى السؤال الدائم المُحق، وهو: إلى أي مدى ستنال العقوبات العربية من السوريين؟ وكان هذا سؤال محوري في الحلقة التلفزيونية التي شاركت فيها. لم يشهد التاريخ سقوط نظام -بصرف النظر عن وحشيته- بفعل عقوبات اقتصادية فُرضت عليه، ومهما كانت العقوبات "ذكية"، لن تستمر في "ذكائها" إذا ما طال أمدها، يضاف إلى ذلك، أن "براعة" العقوبات تكمن في اختيار مُحْكم لأهدافها، فضلاً عن توفر معلومات عالية الجودة، عن الجهات والشخصيات المستهدفة. وقبل هذا وذاك، براعة التنفيذ، وهي المرحلة الأصعب في كل الأحوال. وفي العقدين الماضيين، وجدنا كيف أن أنظمة وحشية نهبت بلادها وقتلت ما أمكن لها من شعبها، كنظام تشارلز تيلور في ليبيريا، وروبرت موغابي في زيمبابوي وغيرهما، لم تسقط من جراء العقوبات، بل أن هذا الأخير لا يزال يحكم بلاده بأفظع طريقة ممكنة. وبالتأكيد لا أحد ينسى العقوبات التي فُرضت على العراق في عهد صدام حسين، كيف نالت من كل العراقيين، إلا هو وأعوانه.

ومهما بلغ "ذكاء" العقوبات، لا بد من وجود ذراع سياسية ودبلوماسية قوية تدعمها، وفي الحالة السورية، ربما استوجب الأمر في مرحلة لاحقة ذراعاً ميدانية، تكفل للمدنيين العزل الحماية. إن العقوبات العربية على الأسد وأعوانه، ستكون مؤثرة عليه في المرحلة القصيرة فقط، خصوصاً فيما يرتبط بتجفيف ما أمكن من الموارد المالية التي يحتاجها في حربه ضد شعبه. لكن لو طالت المدة (مع استمرار بقاء السلطة في الحكم)، ستشكل هذه العقوبات عبئاً لا يستطيع السوريون تحمله، فهم أصلاً يمرون بظروف معيشية مريعة، ليس في موسم أو موسمين أو أكثر، بل في أربعة عقود. وكما الأسد الأب في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، كذلك الأسد الابن، سيستخدم هذه العقوبات ضد شعبه. فالذي يقتل الأطفال، لا تهمه معاناة شعبه من شح وقود التدفئة. وفي مقال سابق لي، ذكرت أن الأسد لن يتردد في أخذ شعبه "رهينة اقتصادية"، فهو يعتقد بأنه امتلكه بصك وراثة، وهو يؤمن بأنه امتلك جمهورية وأخذ معها الشعب هدية.

ليس أمام العرب سوى الاختيار الدقيق والناجع للأهداف الاقتصادية، وفي الوقت نفسه الوقوف المباشر إلى جانب الشعب السوري، ولا يوجد المزيد من الوقت، إذا ما أرادوا أن يقدموا نموذجاً ناجحاً واحداً، من خلال جامعتهم. فوجدانيات وزير اقتصاد الأسد صحيحة، لكن الروابط التي تحدث عنها، لا تستقيم مع سلطة لا شرعية. إنها في الواقع روابط لا دخل للحكومات والسلطات بها.