الاثنين، 27 يونيو 2011

في سورية.. رهين الاقتصاد والقوة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

"الزعيم أو الرئيس المنغمس في أزمة، يُقْدم دائماً على أفعال لا إرادية غريبة، وبعد ذلك يفكر بالأسباب التي دفعته إلى أفعاله"
جواهر لال نهرو أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال






محمد كركوتــي

سواء اعترف الرئيس السوري بشار الأسد، أم لم يعترف، فقد أصبح "رهين محبسين"، لا يشبهان بالطبع (من حيث طبيعتيهما) محبسا الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري. فالمحسب الأول للشاعر، لم يكن إرادياً، لأن عماه لم يكن كذلك، والمحسب الثاني كان شخصياً صرفاً، عندما اعتزل الناس لأسبابه الخاصة جداً. أما محبسا الأسد، فهما إراديان، يرتبطان بعائلة هو عميدها، ونظام هو قائده. الأول، عندما قرر مواجهة المظاهرات السلمية، بقوة مريعة تجاوزت مستوى الإفراط، التي سحبته تلقائياً إلى محبسه الثاني، والمتمثل بإمكانية انهيار الاقتصاد السوري، أو على الأقل تأرجح هذا الاقتصاد، لا على أرض صلبة، بل على حافة الهاوية. ووفق ذلك، فقد حبس نظامه وعائلته في دورة إراقة الدماء، وانحبس في مجهول اقتصادي، في بلد ظل اقتصاده الوطني، "معتقلاً" (على مدى عقد من الزمن على الأقل)، في أيدي مجموعة قليلة جداً من رجال الأعمال، اكتسبوا هذا التوصيف، إما عن طريق التعيين، أو عبر الانتساب الأسري.. ولا بأس من الولاء الأعمى!

لو كنت مستشاراً للأسد (ولن أكون مستشاراً لسفاح)، لما نصحته في تناول الموضوع الاقتصادي في خطابه الثالث، منذ اندلاع الثورة في سورية (إذا ما اعتبرنا أن كلمته الأخيرة أمام مجلس الوزراء هي بمثابة خطاب)، لأن هذه القضية كرست ضعفاً كبيراً لنظامه، لاسيما عندما أولى اهتماماً بالغاً، للإيداعات المالية في المصارف السورية التي لا تزيد عن ألف ليرة سورية، أي ما يوازي 20 دولاراً أميركياً! واعتبر مثل هذا النوع من "الإيداعات" شكلاً من أشكال العمل الوطني للفرد السوري! لقد فتح الأسد على نفسه بوابات لسيل من الأسئلة، لعلها تُختصر بسؤال واحد هو: هل الاقتصاد السوري وصل إلى هذه الحالة المرعبة؟ وفي الوقت نفسه، عمق القناعة، لدى قطاعات عريضة من المجتمع السوري، بل والمجتمع الدولي المراقب لما يجري في البلاد، بأن القائمين على الاقتصاد السوري، المهدد بانكماش مريع قبل نهاية العام الحالي، قد يعجزون عن دفع رواتب موظفي الحكومة في غضون شهرين أو ثلاثة أشهر على أبعد تقدير. وبرزت أسئلة من نوع، هل سيقوم النظام بطبع العملة بدون سند؟ وإلى أي حد سيصل انخفاض قيمة الليرة السورية؟ وهل سيلجأ النظام إلى الحل الوحيد في مثل هذه الظروف، وهو طلب المساعدات والمعونات؟ وهل سيجد من يقدم له هذه المساعدات في هذا الوقت بالذات؟

كان منسقو الثورة في سورية يراقبون بأعلى جودة من المتابعة خطاب الأسد. وفور إشادته بـ "وطنية" الفرد السوري الذي يودع ألف ليرة في المصارف، أطلقوا حملة على الإنترنت، وضعوا لها عنوان "سنعمل على تفتيت دعامة الاقتصاد مع المحافظة على أموال الشعب"، ربما من المفيد نقلها كما هي، في سياق استعراض المشهد السوري كاملاً: "تعلمون أنّ الوضع الاقتصاديّ السوري في الحضيض، وأن الليرة ستنهار أو ستخسر شيئاً كثيراً من قيمتها، وستشهد البلاد موجة ارتفاع للأسعار، خصوصاً مع حرق المحاصيل، وتهجير الكثير من العمّال وما إلى ذلك. وحفاظاً على أموال الشعب، نطلب من الجميع ما استطاعوا، تحويل ما لديهم من أموال إلى عملات أجنبيّة، ولا يشترط التقيّد بالدولار الأميركي، بل يمكن شراء الفرنك السويسري أو اليورو أو أيّ عملة صعبة أخرى في متناول اليد، مهما كان المبلغ المدّخر بسيطاً. لا تنسوّا أنّ النّظام يستعين بمالنا على قتلنا، ولذلك فإنه من البديهي ألا ندفع أي شيء طالما أنه يحاربنا".

من الواضح، أن القائمين على تحريك الثورة، يتحركون في كل الاتجاهات في المواجهة من نظام الأسد (ما عدا استخدام السلاح). وسواء خططوا أم لم يخططوا، فإن الأمور تتجه إلى ما يمكن اعتباره عصياناً مدنياً، تخشى منه أعتى الأنظمة في العالم. وكلنا يعرف كيف ساهم هذا العصيان في تحرير الهند من الاستعمار البريطاني، عندما اتخذه المهاتما غاندي سلاحاً وحيداً في مواجهة هذا الاستعمار. والحقيقة أن الأسد فهم خطورة "العصيان المالي" –إن جاز التعبير- في مرحلة لاحقة من اندلاع الاحتجاجات في سورية، وأمر بفرض سقف على السحوبات بالعملات الأجنبية، خصوصاً بعدما فشلت عمليات التحفيز التي أقدم عليها الأسد، في امتصاص الغضب الشعبي، عندما أصدر مراسيم متوالية، لزيادة الرواتب وتقديم تسهيلات يستفيد منها موظفو القطاع العام والطلاب وغيرهم. أما لماذا فشلت، فلأنها أولاً لم تتضمن المطالب الرئيسية الأولى بالحرية وآليات هذه الحرية، وثانياً نشرت غضباً مضاعفاً عند الشرائح الأشد فقراً في سورية. فحتى هذه الزيادة في الرواتب التي لم تأت تلقائياً، بل لاعتبارات ترتبط بالثورة، عمقت الفوارق بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، وكرست الحالة البائسة في المناطق الأشد فقراً. لقد كانت ببساطة، بمثابة حبوب أسبرين تُعطى لرجل مصاب بالسرطان في مراحله الأخيرة.

يمكن تلخيص الوضع الاقتصادي في سورية بالنقاط التالية: هروب الاستثمارات الطبيعية –أي الحقيقية-، فرار الاستثمارات الفاسدة –أي المرتبطة بمدى قوة السلطة-، تراجع متواصل لقيمة العملة الوطنية (خسرت خلال 3 أسابيع ما بين 15 و20 في المائة)، شح السيولة، تحويل أكثر من 10 في المائة من احتياطي المصارف الخاصة، إلى مصارف في الخارج، في غضون أقل من شهرين فقط، خسارة مداخيل الموسم السياحي التي تمثل ما يقرب من 12 في المائة من الدخل العام( هناك من يقول إنها تصل إلى 18 في المائة)، توقف مشاريع وتراخي أخرى مرتبطة بالبنى التحتية في سوريا (المظاهرات عطلت 3 مشاريع استثمارية خليجية كبرى) ، هشاشة متعاظمة لسوق الأوراق المالية، تردد ما تبقى من الرأسمالية الوطنية التي ارتضت أن تكون جزءاً من السلطة، والانتظار ما أمكن لمعرفة لمن ستكون الغلبة.

أمام هذا المشهد الاقتصادي، الذي يزداد بؤساً يوماً بعد يوم، أصبحت هناك قناعة عند المراقبين المحايدين – لا المندسين ولا المتآمرين- بأنه إذا لم يتمكن المتظاهرون السلميون الإطاحة بنظام الأسد، فسيكون بمقدور الاقتصاد ذلكن وقد وصلت – على سبيل المثال- مجلة "تايم" الأميركية إلى هذه القناعة، ومعها جريدة " الفايننشال تايمز" البريطانية الرصينة. وهذه نتيجة طبيعية لأي حالة تمر بها دولة ما. ولعلي أضيف هنا، في إشارة إلى أن السوريين الذين لا يزالون في مرحلة ما قبل إعلان العصيان المدني، يتجهون على ما يبدو بسرعة لإعلان هذه الحالة. فقد التزم عدد كبير من التجار في مختلف أنحاء سورية، بإضراب عام ليوم واحد، دفع السلطات إلى اعتقال ما أمكن منهم. والإضرابات – فيما لو تكررت- تؤدي حتماً إلى "استجلاب" عصيان مدني. وإذا كانت مدته غير معلومة، إلا أن نتائجه لا تحتاج إلى خبير اقتصادي لتوقعها أو حتى لشرحها. إنها – حسب التاريخ- نتائج حتمية لمصير محتوم.




الثلاثاء، 21 يونيو 2011

بيان عن المكتب التنفيذي للهيئة الاستشارية للمؤتمر السوري للتغيير


 
 
تم انتخاب مكتب تنفيذي للهيئة الاستشارية المنبثقة عن المؤتمر السوري للتغيير، يضم تسعة شخصيات من مختلف القوى والأحزاب والتيارات السورية، وذلك في اجتماع للهيئة عقد في 17 حزيران/ يونيو الجاري، شارك فيه 24 عضواً من أصل 31 عضو. وحصل كل من عهد الهندي، وملهم الدروبي، وخولة يوسف، وعمرو العظم، ومحمد كركوتي، وعبد الإله الملحم، وعمار قربي، ورضوان باديني، وسندس سليمان، على أغلبية 21 صوتاً، إثر مناقشات ومداولات، شهدت تبادلاً للآراء، كما طُرحت فيها وجهات النظر، وفق الأطر الديمقراطية، بما في ذلك إفساح المجال لكل من يرغب من أعضاء الهيئة الاستشارية، الترشح لعضوية المكتب التنفيذي، وفتح الباب لطرح أسماء شخصيات أخرى من خارج الهيئة، لخوض العملية الانتخابية، في إطار الحرص على تنفيذ توصيات المؤتمر السوري للتغيير، في استقطاب الكفاءات الوطنية السورية من كل الفئات والقوى السياسية والشعبية، بما في ذلك المستقلون.

وبدأ المكتب التنفيذي مهام عمله فوراً، في ظل التداعيات الخطيرة التي تشهدها سوريا، لا سيما مع تصاعد الحرب الوحشية المُنظمة التي يقوم بها النظام ضد شعبنا الأعزل، الذي يقوم بواحدة من أشرف وأطهر الثورات الشعبيّة السلميّة قاطبة. ويعلن المكتب التنفيذي، أنه ليس حكومة منفى أو مجلس انتقالي، ويرفض أي شكل من أشكال الوصاية على الثورة السورية، ويشدد على أن الأعضاء المُنتخبين فيه، وافقوا على شرط المؤتمر أنه لا يحق لهم الترشح للانتخابات في سوريا، في الدورة الانتخابية الدستورية الأولى التي تلي زوال نظام بشار الأسد، كما يشدد على مواصلة الدعم اللامحدود لثورة الشعب السوري الأبيّ، إلى أن يحقق أهدافه في الحرية والعزة والكرامة، تمهيداً لقيام دولة ديمقراطيّة مدنيّة في سوريا ، تكفل الحريات العامة، وإشراك كافة أطياف المجتمع في صنع القرار، والمساواة في الحقوق والواجبات، والقضاء على سلوكيات وآليات الإقصاء إلى الأبد.

وأطلق المكتب التنفيذي للمؤتمر السوري للتغيير سلسلة من الاجتماعات المتواصلة، لتحديد الأطر العامة للعمل، وتوزيع المهام، وتشكيل اللجان المختلفة، واستكمال الاتصالات على الساحتين العربية والدولية، وذلك للمضي قدماً في دعم الثورة الشعبية العارمة، على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والإنسانية، وتوفير كل أشكال المؤازرة والمساعدة والمساندة للشعب السوري العظيم. ويؤكد المكتب التنفيذي مجدداً، إلتزامه بالتوصيات والقرارات الصادرة عن المؤتمر السوري للتغير، بما في ذلك الموقف المبدئي، الرافض للحوار مع النظام القائم في سوريا، الذي فقد شرعيته مرتين. في الأولى عندما وصل إلى السلطة مغتصباً لها، وفي الثانية، عندما وجه آلته العسكرية الرهيبة إلى صدور أبناء شعبنا الأعزل، إلا من الكرامة.

وتواصلاً مع التطورات الراهنة على الساحة السورية، يعلن المكتب التنفيذي للمؤتمر السوري للتغيير، رفضه الكامل لما جاء في خطاب رئيس النظام السوري بشار الأسد، الذي وجهه في العشرين من حزيران/ يونيو الجاري، ويعتبره محاولة بائسة ويائسة لإطالة عمر هذا النظام، واعتداء سافراً جديداً على الشعب السوري وثورته المجيدة، وعلى أرواح المدنيين العزل الذي سقطوا في الحرب الوحشية المستمرة التي يشنها النظام في كل أرجاء سوريا. ويؤكد المكتب التنفيذي، على أن هذا الخطاب يكرس الأزمة، بعد أن فشل في تقديم الحلول الواقعية التي يقبلها الشعب السوري، رافضاً كل أشكال الحوار التي دعا إليها رئيس النظام السوري. ويشدد المكتب التنفيذي للمؤتمر السوري للتغيير، على أن بشار الأسد فقد شرعيته، وأنه لم يعد في الموقع الذي يمنحه الصلاحيات للدعوة إلى أي حوارات وطنية. وجدد المكتب التنفيذي دعوته بشار الأسد للاستقالة من منصبه، وتسليم سلطاته وفق الأطر الدستورية، إلى حين تشكيل مجلس انتقالي، لوضع دستور جديد يمهد الطريق لانتخابات حرة وديمقراطيّة في البلاد.

يذكر أن المؤتمر السوري للتغيير، عُقد في أنطاليا بتركيا في الفترة الواقعة ما بين 31 أيار/ مايو و3 حزيران/ يونيو، بمشاركة القوى والأحزاب السياسية والشعبية، فضلاً عن مشاركة عدد كبير من الشخصيات الوطنية السورية المستقلة. وبلغ عدد المشاركين 350 شخصاً، انتخبوا في نهاية المؤتمر، هيئة استشارية مكونة من 31 شخصاً، تم تفويضها بالعمل على الوقوف إلى جانب الثورة الشعبية العارمة في سوريا ودعمها. وقد طالب المؤتمر السوري للتغيير في بيانه الختامي، باستقالة رئيس النظام السوري بشار الأسد من كل مناصبه، ونقل السلطات وفق الأطر الدستورية، إلى أن يتم تشكيل مجلس انتقالي، يقوم بوضع دستور جديد، والتحضير لانتخابات حرة تقود إلى قيام دولة ديمقراطيّة مدنيّة في سوريا ، بعد أن شدد المؤتمر على أن الشعب السوري يتكون من قوميات عديدة، عربية وكردية وآشورية وسريان وتركمان وشركس وأرمن وسواهم.

مجهول اقتصادي في سورية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"عندما تتلقى قبلة من سارق، قم على الفور بإحصاء أسنانك"
مَثَل لاتيني



محمد كركوتــي

في سورية الاقتصاد يتداعى، وفي أحسن الأحوال يتجه نحو المجهول. في سورية، "رجل أعمال" يعلن عزمه على التوجه للعمل الخيري، ليس زهداً، بل خوفاً. في سورية، هرب المستثمرون رعباً، لأن مصير غالبية استثماراتهم، مرتبط بمصير السلطة، لا الأمة. والحقيقة أنهم لم يقرروا هذا الترابط المصيري، بل قُرر لهم. في سورية، الأموال المنهوبة لا تدخل ولو لدقيقة واحدة في الخزينة العامة. في سورية، أولئك الذين "عُينوا" بمناصب رجال أعمال، يبحثون عن بلدان أخرى، يقبلون بأي توصيف لهم فيها. في سورية، رجال الأعمال التقليديون –غير المُعينين- يجلسون على الحائط، يرمقون جهة اليمين حيناَ وجهة اليسار حيناً آخر، ليقرروا إلى أي جهة سيقفزون. في سورية، تم رفع الرواتب، في حركة امتصاص بائسة للغضب الشعبي، لتدخل البلاد في نفق، يستحق عنواناً على شكل سؤال: هل ستستطيع السلطة دفع الرواتب أصلاً؟ في سورية، بوادر العصيان المدني تتعاظم، في ظل عمليات قتل لا تتوقف للمتظاهرين السلميين. في سورية، توقف تصدير المنتجات، لتبدأ عمليات تصدير بشري على شكل نازحين ولاجئين، لأول مرة في تاريخها. فقد تحولت من مستقبِلٍ أزلي للاجئين إلى مُصدِرٍ لهم! لم تزل هذه "المنتجات" في مرحلة ما دون "الصناعة"، لكن الأمور تتجه إلى تحولها لـ "قطاع صناعي" جديد على البلاد وأهلها، وعلى دول المنطقة وشعوبها، من فرط القمع القاتل. في سورية، مجهول مسيطر، على البلاد والعباد والاقتصاد، رغم أن "عنوان المكتوب" واضح، سواء كان بريدي أم الكتروني، أو حتى عن طريق الحمام الزاجل. وربما من المناسب الإشارة هنا، إلى أن قانون الطوارئ –السيء الصيت- الذي حُكمت به سورية أكثر من 48 عاماً، كان يمنع تربية الحمام الزاجل، ويعرض المربين للسجن الطويل جداً!! وربما من أجل ذلك يقتلون الحمام!

قبل المظاهرات الشعبية العارمة، عاشت سورية على مدى أكثر من عقد من الزمن، في ظل "اقتصاد الفقر وما دونه". وقد أطلقت عليه توصيف "اقتصاد التشبيح". ولأنه كذلك، فقد أصبح بسرعة شديدة، في مهب الريح في أعقاب انفجار الغضب الشعبي. فليس غريباً أن تتوقع جهات محايدة رصينة –لا مندسة ولا متآمرة- إفلاس الاقتصاد. بل الغريب أن يكون هناك من يقول عكس ذلك. جريدة "الفايننشال تايمز" البريطانية، لم تكن متحفظة عندما قالت: إنها تتوقع انهيار الاقتصاد السوري، مما يعني إفلاس النظام-السلطة ورضوخه". وأنقل على الجريدة الرصينة: "أن سورية ستضطر في نهاية العام الجاري، للبحث عن مساعدات اقتصادية خارجية للحفاظ على اقتصادها، في ظل التدمير الذي يعاني منه قطاع السياحة نتيجة الاضطرابات، وتوقف الاستثمارات الأجنبية، وارتفاع الإنفاق الحكومي للمساعدة في تخفيف حالة الاستياء الشعبي". ويمكن أن نضيف إلى ذلك، أن احتياطات النقد الأجنبي في البنك المركزي السوري تستنزف على مدار الساعة، الأمر الذي خفض من قيمة الليرة بنسبة 15 في المائة أمام الدولار الأميركي. ومع كل يوم يمر هناك تراجع جديد لقيمة العملة الوطنية. في خضم ذلك، رفعت منظمة التعاون والتنمية، مؤشر الخطر لسورية من 6 الى 7، وبدأت الدول الكبرى في الطلب من رعاياها مغادرة البلاد، وهو مؤشر –في المفهوم الاقتصادي- يدل على أن الأوضاع تسير من سيء إلى أسوأ.

لم تكن حالة الاقتصاد قبل الثورة الشعبية أفضل، لكن حالة الدولة كانت مستقرة، مما دفع بعض الجهات الاستثمارية العربية والأجنبية لإنشاء أعمال لها في سورية، بعد أن قبلت بمشاركة قسرية من رامي مخلوف ابن خال الرئيس بشار الأسد، الذي يُعتبر بمنزلة "مصرفي" العائلة الحاكمة. وقد وقعت هذه الجهات بأزمة حقيقة، عندما اكتشفت أن الدولة التي تبدو مستقرة لفترة طويلة، لا يمكن أن تستمر هكذا إلى الأبد، إذا لم تكن عناصر الاستقرار متكاملة. هذا "الاستقرار" اهتز في سورية-كما في تونس ومصر وليبيا- مع أول صرخة شعبية تطالب بالعدالة، ولم يلبث أن انتهى في غضون أيام. وعلى الرغم من حنكة المستثمرين في الحفاظ على أموالهم، وعدم التضحية بها والخوف عليها، إلا أنهم –على ما يبدو- يقعون في نفس الفخ دائماً. حدث هذا في سبعينات وثمانينات القرن الماضي في بعض دول أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، التي كان حكامها يتغنون باستقرار بلادهم، في تسويق ليس من أجل جذب الاستثمارات، بل لمشاركة الحكام فيها. ويعترف –على سبيل المثال- تيودور روزفلت العضو المنتدب للاستثمار المصرفي في "باركليز كابيتال"، بالخطأ التاريخي الذي يقع فيه المستثمرون في الدول التي تبدو لهم مستقرة. ماذا قال؟ " سورية كانت تبدو كأنها دولة مستقرة تبدأ في محاولة التحديث، لكن التفاؤل الذي حمله البعض بشأن سورية كان في غير موضعه فيما يبدو". ويمضي أبعد من ذلك ليقول: "ما يحدث في سورية الآن مقلق للمستثمرين. إننا نشهد حكومة تقمع شعبها". مشيراً إلى أن المستثمرين، قد يُقبلون مرة أخرى، إذا ما خرجت سورية من هذه الأزمة "بمؤسسات مدنية قوية وتطبيق حكم القانون".

المستثمرون الطبيعيون هربوا بالفعل من سورية، بعد أسابيع قليلة من بدء الثورة فيها. أما المستثمرون الجدد الذي عُينوا في "مناصبهم" الاستثمارية، لم يهربوا بعد، ولكنهم هَرَبوا أموالهم إلى كل الجهات الممكنة، لأن هناك أماكن كثيرة في العالم، لم تعد تمثل للأموال المنهوبة ملاذات آمنة، ولاسيما في الدول الغربية، التي سنت مجموعة من القوانين بتجميد أرصدة وممتلكات 23 شخصية سورية متنفذة (وفي مقدمتها بشار الأسد)، وهي تدرس الآن توسيع نطاق هذا التجميد. ليس غريباً أن ينهار الاقتصاد السوري، بل الغريب أن يستمر صامداً تحت وطأة الحركة الشعبية لفترة طويلة. فكيان هذا الاقتصاد لم يقترب كثيراً من المعايير المؤسساتية. والشيء الذي لا يُبنى وفق هذه المعايير، محكوم عليه بالخراب أو الزوال. وحسب تقديرات معهد التمويل الدولي فإن الاقتصاد السوري سينكمش بمعدل 3 في المائة خلال العام الجاري بسبب الاضطرابات، بعد أن كان قد حقق نموا بنسبة 4 في المائة العام الماضي، ويرجح مراقبون مستقلون أن ينكمش أكبر من ذلك بكثير. وطبقاً لمصرفيين في سورية، فإنهم رصدوا هروباً للأموال خلال الشهرين الماضيين، بينما أعرب مودعون سوريون علانية عن قلقهم من إيداع مبالغ كبيرة في القطاع المصرفي الوليد، مفضلين إيداع أموالهم في بنوك معروفة في لبنان أو أماكن أخرى. ويقول عبد القادر دويك رئيس بنك سوريا الدولي الإسلامي (وهو الفرع السوري لبنك قطر الدولي الإسلامي)، إن المودعين سحبوا في غضون أيام، ما يعادل 680 مليون دولار أميركي من بنوك خاصة، وهو ما يمثل 7 في المائة من إجمالي الودائع بهذه البنوك منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية.

أمام هذه المعطيات، لا توجد مخارج أمام الاقتصاد السوري للنفاذ إلى مناطق آمنة. كما لا توجد بدائل أمام النظام فيها للحيلولة دون وصول هذا الاقتصاد إلى حافة الهاوية. وأحسب أن المسؤولين في دمشق، فهموا هذه الحقيقة، وعرفوا أنه حتى طلب المعونات والمساعدات في ظل الحالة الأمنية الراهنة في البلاد، هو شيء من الخيال، في واقع محلي يبدو خيالي لعدد كبير منهم.


الثلاثاء، 14 يونيو 2011

البطالة.. ثائرة أيضاً

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")










"لا تحتاج لخبير في الطقس لكي تعرف اتجاه الرياح"
بوب ديلان شاعر ومغن أميركي

 
 
 
محمد كركوتــي
 
لو وضعنا ألف سبب لاندلاع الثورات العربية في "جمهوريات الأسر الحاكمة"، لن نجد من يوجه إلينا اتهامات بالمبالغة. ولو قمت بسرد "الأسباب الألف"، لانتهى المقال مع حصتي المحددة بالكلمات، وهي ألف كلمة، يضاف إلى ذلك، بأن المقال سيكون سرداً، لا تحليلاً ورأياً ولا استشهاداً بما يقوله الخبراء المعنيين. وأحسب أن كل فرد في هذه الجمهوريات يمكنه أن يضع قائمة بالألف وأكثر، فقد فُرضت عليه معايير و"أدبيات" القرون الوسطى، في "قرنه" الحادي والعشرين. يستطيع القول، مهلاً.. إن أسباب ثورتي هذه أكبر بكثير من الألف، إنها بعدد الأيام التي عشتها رقماً لا إنساناً، وبعدد الشهداء الذين سقطوا من أجل الحرية، وبعدد المعتقلين والمفقودين. ومجازاً يستطيع القول: بعدد الدولارات التي نهبتها الأنظمة في هذه الجمهوريات الأسرية.

على قمة الأسباب الألف، تقف الحرية والكرامة، والحق في عيش كريم لا أحد يستطيع أن يدعي منحه لهذه الشعوب. إنه حق تلقائي، حق من حقوق الوجود نفسه. وفي قائمة "الأسباب الألف"، يأتي الخراب الاجتماعي والاقتصادي. يأتي الظلم المُمأسس مع القهر المنظم. يأتي المجتمع "المتعسكر" قسراً، والمدنية المقتولة ظلماً. يأتي الرئيس المُلهَم (والمُلهِم) الذي يعرف مصلحتك الخاصة أكثر منك، ويمنح لنفسه الحق في امتلاك حتى أولادك لمصلحة النظام، لا لمصلحة البلاد. يأتي أولاد "المُلهَم" وأقرباءه وبقايا أسرته. في القائمة.. يأتي قطاع الطرق أو الشبيحة أو البلطجية أو البلاطجة أو المرتزقة، من خلال مؤسسات لها مجالس إدارة بل وجمعيات عامة. يأتي ازدراء الإنسانية بمعاييره الوحشية، ومعه التجييش البائس ضد كل من رغب في تغيير هذا المنكر، حتى في قلبه. يأتي الفقر ومعه البطالة وسرقة المال العام والنهب المتواتر والخصخصة السرطانية. إن قائمة "الأسباب الألف"، هي في الواقع بمثابة منظومة متكاملة لخراب مستدام، ولتدمير ممنهَج، ولاستراتيجية مريعة لا تكتمل إلا بتنفيذ مباشر من المُلهَم وبعده (أو معه) ولده البكر، وإذا ما مات هذا الأخير، لابأس من ولده الثاني أو الثالث أو الرابع (لا فرق)، وبعد الابن يأتي الحفيد وهكذا.

في "كومة" الأسباب الألف، ليس صعباً أن تعثر على البطالة، التي تنتج فقراً يضاف إلى الفقر السائد، وفراغاً تخشى منه حتى الأحزاب الحاكمة في الدول الديمقراطية الراشدة، ومرارة جامحة يستحيل إزالتها. وربما لم يكن الأديب المغربي الشهير الطاهر بن جلون مُبالِغاً، حين قال مؤخراً: "إن الربيع العربي سيلُهم الشعوب الأوروبية أيضاً". فهو يعتقد أن البطالة ستكون محركاً للأوروبيين للقيام باحتجاجات منظمة، ولا يقصد بالطبع تغيير أنظمة الحكم فيها. فالأنظمة السياسية لا تورَث (ولا تورِث) للأبناء في أوروبا. تتفق منظمتا العمل العربية والدولية، على أن البطالة أسهمت في إشعال الثورات، لاسيما مع وصول نسبتها بين الشباب في "الجمهوريات الأسرية" إلى 23 في المائة، وترتفع بأوساط النساء إلى أكثر من 30 في المائة، وأن مشاركتهن بسوق العمل العربية، هي الأضعف على مستوى العالم، حسب المنظمة الدولية. والحقيقة أن النسب متفاوتة هنا. فعلى سبيل المثال، يبلغ معدل العاطلين عن العمل بين شريحة ما دون الـ 30 عاماً من الشباب في سوريا 49 في المائة، وفي ليبيا يصل إلى 40 في المائة. والمنظمة الدولية تمضي أبعد من ذلك لتقول: "إن ظروف العمل للشباب العربي، سيئة للغاية جراء الأجور المتدنية والرعاية الاجتماعية والصحية المحدودة وعقود العمل غير الآمنة". والجمهوريات الأسرية التي تدعي وجود العمل النقابي وتدعمه، تعرضت لهجوم كبير من المنظمة، لغياب الدور الفعال للنقابات العمالية.

ويعتبر المدير العام لمنظمة العمل العربي أحمد لقمان، أن ارتفاع معدلات البطالة والفقر، كانت الشرارة الأولى التي أشعلت الثورات العربية، وذلك في مؤتمر العمل العربي الذي عقد في القاهرة مؤخراً. وفي ظل "اقتصاد التشبيح" أو "اقتصاد البلطجة" أو " اقتصاد المرتزقة"، الذي شهدته الجمهوريات المشار إليها، ظهر نوعاً غريباً من النمو، وهو " النمو الفاسد". أي أن هذه الجمهوريات حققت نمواً أعلى من النمو في البلدان الكبرى الراسخة( في بعض السنوات تجاوز 3 أضعاف)، لكنه –أي النمو- حط في جيوب رجال أعمال، عُينوا من قبل الحكومات فيها. ماذا حدث؟ ارتفعت معدلات البطالة، بدلاً من أن تنخفض من فرط هذا النمو الكبير! وحسب المنظمة العربية، يصل عدد العاطلين العرب إلى أكثر من 18 مليون نسمة، والحقيقة أن الرقم أعلى من ذلك بكثير، لأن عدداً كبيراً في البلدان العربية، لا توفر الأرقام الحقيقية للبطالة، إلى جانب عزوف نسبة لا بأس بها من العاطلين، عن تسجيل أنفسهم في سجلات البطالة، من شدة اليأس الذي يعيشونه حيال إمكانية حصولهم على فرص عمل، دون أن ننسى، أن الغالبية العظمى من الدول التي تعج بالبطالة، لا تتبع نظام الحد الأدنى للأجور، وهي في الوقت نفسه هائمة بملايين العاملين بنظام المياومة، وهؤلاء لا يفتقرون للحد الأدنى من الأجور، بل لكل الحقوق العمالية، بما في ذلك الرعاية الصحية، والتعويضات الواجبة للإصابة في العمل، وغيرها من الحقوق.

تمر دول العالم كلها –بما في ذلك تلك الكبرى الثرية منها- بأزمات اقتصادية طاحنة، وترتفع معدلات البطالة فيها إلى مستويات عالية، وتعاني من الديون الحكومية، لكن الدول الراشدة منها، لا تعمق الأزمات بل تعمل على مواجهتها وحلها، وإذا لم تستطع يتم التخلص من الحكومات فيها، وافساح المجال أمام أخرى. لكن الأمر ليس كذلك في الجمهوريات العربية الأسرية. ففي عز أزمنة الازدهار والنمو، يرتفع عدد العاطلين فيها، ويزداد جموع الفقراء، وتتحرك الطبقات نحو الأسفل. فالطبقة المتوسطة تنتهي، وطبقة الفقراء تتحول إلى ما دون الفقر. حصل هذا في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا. فلا عجب إذن، من الثورات التي عمت (وتعم) فيها. قامت الأنظمة في هذه البلدان على الظلم المطلق، وأنفقت عقوداً من الزمن، تحاول أن تبرر الظلم لكي تستمر أطول فترة ممكنة. وعندما واجهت ثورات شعبية عارمة، لم تتردد في استخدام العنف والقسوة والقتل، لا لشيء، إلا لإطالة أمد البقاء. ولو قرأ قادة هذه الأنظمة ما كتبه الفيلسوف الإغريقي سينكا في القرن الأول، لربما فهموا أن الأمور لا تتحسن وفق آلياتهم العبثية الوحشية. ماذا قال؟ "إن الدول القائمة على الظلم لا تدوم أبداً". لقد عرفت شعوبهم، أنه في بعض الأحيان ليس كافياً أن تعرف ماذا تعني الأشياء، بل ينبغي معرفة ما لا تعنيه هذه الأشياء.

الثورات العربية السابقة والراهنة، اندلعت من أجل الحرية والكرامة. فالذين قاموا بها، قد ينتظرون طويلاً، ولكن لا ينتظرون إلى الأبد. والحرية والكرامة، متلازمتان للعيش الكريم، الذي توفره أحقية الحصول على فرص العمل، ليس فقط من أجل كسب العيش، ولكن أيضاً من أجل المشاركة في التنمية التي تقود في النهاية إلى الازدهار. لقد كان الازدهار في هذه الجمهوريات خاصاً جداً، بعدد محدود جداً، على مدى وقت طويل جداً.