الأحد، 29 مايو 2011

فساد متمأسس في بلد بلا مؤسسات











"الرجل الذي يكون أول الصارخين حرامي.. حرامي، غالباً ما يكون سارق الخزنة"
وليام كونجريف كاتب وأديب إنجليزي



محمد كركوتــي

في خطابه الباسم (بل والضاحك) الأول الذي ألقاه أمام ما يسمى بمجلس الشعب، في أعقاب اندلاع الثورة، "أصر" رئيس السلطة السورية بشار الأسد، على أنه لا رجوع عن عزمه على محاربة الفساد في البلاد والقضاء عليه. ضحك –وقتها- كثيراً إلى درجة أنه يمكن أن تتخيل نفسك، في أحد عروض "وان مان شو" أو One man show التي تزخر بها القنوات التلفزيونية الغربية، والتي تعتمد النكتة والفكاهة المحور الوحيد لها، لاسيما مع التصفيق المتواصل لجمهور "ممثلي" الشعب، بمن فيهم، "الممثل" الذي "حسم" الأمر، بأن سوريا أصغر من أن يحكمها الأسد الابن، وأن مصلحة العالم أجمع، هي أن يكون حاكماً للعالم نفسه!

في كل مرة ضحك فيها في خطابه، ودماء المدنيين السوريين الجارية لا تزال ساخنة، كان يصر على محاربة الفساد، ليبلغ "الممثلين" بأن إصراره ليس وليد الثورة، بل يعود إلى زمن وصوله إلى الحكم قبل 11 سنة، وارثاً الجمهورية والشعب معها. ضحكات "القائد"، مع التصفيق مع الأشعار الرديئة مع الكلمات الارتجالية البائسة مع وقوف "الممثلين" إجلالاً وإكباراً لكل كلمة تفوه بها هذا "القائد"، أزاحت التفسير الذي يطلبه الشعب ( والعالم الذي يراقب) من هذا الأخير، للفساد وقوته، وللسرقات وانتشارها، وللنهب ومؤسساته. في ظل هذا المشهد المريع، تم تلخيص الحرب التي أعلنها الأسد الابن على الفساد، بأنها تهدف إلى ردم الفجوة بين المؤسسات الحكومية والشعب، وبعبارة أخرى، تصحيح أخطاء إدارية، ناجمة عن تجاوزات موظفين حكوميين غير مسؤولين، لم يكن "القائد" على علم بها أصلاً! ببساطة، لقد أُفرغ توصيف الحرب من محتواه، حتى قبل أن يُنهي الأسد خطابه في ذلك المجلس الذي لم يشهد وقوف "ممثل" واحد يلفت انتباهه إلى ملاحظة سلبية واحدة. فقد كان الممثلون (وكلهم كومبارس) مشغولين بترديد الهتاف المُعيب "الله سوريا بشار وبس"! ولا أشك في أنهم كانوا يرددونه مقلوباً في قلوبهم. ولو استطاع هؤلاء أن يزيلوا لفظ الجلالة لفعلوا. كما أنني لا أشك في أنهم فكروا في إزالة اسم سوريا من الشعار البائس، لكنهم وجدوا أن "القائد" يحتاج إلى جمهورية يحكمها، فابقوا على اسم البلاد، لضرورة القيادة!

مع إعلان "الحرب" على الفساد، تذكرت واحدة من مقولات الناشطة الاجتماعية البولندية-الروسية إيرنستين روز. ماذا قالت؟ : "عندما يأتيني شخص يحاول إقناعي بأنه ليس سارقاً، أقوم على الفور بحمايتي نقودي". ومعها قال الأديب الأميركي إدوارد هاو "السارق يعتقد بأن الجميع سارقون". فور إعلان "الحرب"، طُرحت في خاطري تلك المقاربات المتعارضة –إن جاز التعبير- من نوع، كيف يمكن لزعيم المافيا أن يتولى قيادة حملة ضد الجريمة المنظمة؟! وكيف سيكون الحال لو تولى الزعيم النازي أدولف هتلر مسؤولية الحرب على العنصرية؟! وكيف سيكون الأمر لو قاد الكوبي فيدل كاسترو جمعيات الصداقة مع الولايات المتحدة الأميركية؟! وكيف سيكون المشهد لو تزعم الإسرائيلي المغمى عليه أرييل شارون حملة لقيام الدولة الفلسطينية؟! هل يمكن تسليم جزار البوسنة والهرسك راتكو ملاديتش مهمة التحقيق في المجازر التي حدثت هناك، والقبض على مرتكبيها؟!

الحقيقة أن الفساد في سوريا، ليس الفساد الإداري الذي حاول "القائد" أن يسوقه وهو في غمرة صدمته من الثورة الشعبية وذهوله من تداعياتها، ولا ينحصر في الفجوة بين المؤسسات الحكومية والشعب، ولا يرتبط بتجاوزات موظفين فاسدين أو انتهازيين أو مرتشين. فهذا النوع من الفساد موجود بنسب متفاوتة بسيطة حتى في الدول الراشدة، مع التأكيد على أنه لا يستمر لفترات طويلة في هذه الدول، بسبب آليات المحاسبة الصارمة، المفقودة منذ قرابة نصف قرن من الزمن في سوريا، وبقية الدول غير الراشدة. لقد ألغى الفساد في سوريا المؤسسات، ومأسس نفسه. إن الفساد المطلق يفرض بصورة طبيعية مطلقة آلياته و "أديباته"، التي تلغي أوتوماتيكياً معايير الأخلاق. هذا النوع من الفساد، يزيل إلى الأبد (على وزن قائدنا إلى الأبد "الأمين" حافظ الأسد) مقومات المجتمع. ليس مهماً وزن الفاسد، لأنه وفقاً لمعايير "الفساد المؤسسي" فإن اللصوص الكبار يقودون مسيرة اللصوص الصغار، والسارق الصغير هو في الواقع موظف (بدون عقد عمل) عند السارق الأكبر. الرابط بينهما هو مفهومهما المتطابق للسرقة، وإيمانهما العميق بأن السرقة هي الرافد الأوحد في ساحة أُفرغت من القيم الأخلاقية والإنسانية. والمريع في المشهد السوري، أن "القائد" روج منذ وراثته للجمهورية والشعب، لما اصطُلح على تسميته "الاقتصاد الاجتماعي"، لكن في الحقيقة كان اقتصاداً نادراً، استحق عن جدارة توصيف "اقتصاد التشبيح"، بعد أن مر على مدى 41 سنة بالمراحل التالية : اقتصاد التفقير (فترة حكم الأسد الاب)، واقتصاد الفقر، واقتصاد ما دون الفقر، في فترة الوارث الذي "صغرت" عليه سوريا ليحكمها!

في مقالي السابق الذي نُشر بعنوان "إكرامية الممانعة 40 مليار دولار"، أشرت إلى أن "اقتصاد التشبيح"، حصر مقدرات البلاد في أيدي مجموعة قليلة من الأسر، في مقدمتها الأسرة الحاكمة- المالكة، بينما حصر "اقتصاد التفقير" هذه المقدرات بأيدي مجموعة من الأشخاص، غالبيتهم من الأسرة الحاكمة، ولا بأس من شخصيات أخرى خارجها لضرورة المشهد. والمثير أن الأسر نفسها شهدت في السنوات الماضية، صراعات على ثروات منهوبة، وعلى نفوذ تجاري واقتصادي واستثماري وخدماتي. فقد ظهر واضحاً أن الصراعات ليست محصورة بين المنهوبين والناهبين، هذا إذا امتلك المنهوبون القدرة على الصراع أصلاً. فعلى سبيل المثال، "قلم" رامي مخلوف (ابن خال الأسد الابن) والمعروف بـ "مصرفي" العائلة الحاكمة- المالكة، أظافر الأقارب، بمن فيهم أقارب "القائد" من الدرجة الثانية ( أولاد العم). وعملية التقليم هذه لم تكن تهدف إلى وضعهم خارج دائرة النهب، بل هدفت إلى تحديد المستوى المسموح لهم بالوصول إليه في عمليات السرقة ووضع اليد والاقتناص القسري. بمعنى آخر، تحديد عدد المليارات التي يُسمح لهؤلاء بنهبها. مخلوف الذي يسيطر على 60 في المائة من الاقتصاد السوري، اتبع كل شيء من أجل تكديس الأموال، بما في ذلك عمليات الاحتيال التي طالت مجموعة كبيرة من المستثمرين العرب والأجانب، الذين دخلوا سوريا بحثاً عن استثمارات مربحة، ليخرجوا منها راضين بالخسائر، بدلاً من قبولهم مخاطر تهدد حياتهم. وقصة رجل المال المصري نجيب ساويرس، الذي سرق منه "مصرفي" العائلة الحاكمة، أكثر من 70 مليون دولار أميركي، لا تزال تتردد في العلن. ولم تنفع الرسائل المفتوحة التي وجهها ساويرس إلى بشار الأسد لاستعادة أمواله.

كيف يمكن لرأس السلطة في سوريا أن يقود حرباً حقيقة على الفساد؟! كيف يمكن له أن يزيح الأسر التي ملَكها مقدرات البلاد من طريق الأمة؟! إن أول الخاسرين في هذه الحرب سيكون هو شخصياً. ولأنه وضع هذه "الحرب" الوهمية ضمن نطاق البرنامج الإصلاحي الذي أعلنه نتيجة للثورة، فإن قيادة هذا النوع من الديكتاتوريات لعمليات الإصلاح، تعني سقوطها على الفور. على بشار الأسد أن يتحمل تبعات ورثة لم تكن من حقه، ولن تكون من حق أي فرد آخر في سوريا.



الاثنين، 23 مايو 2011

"إكرامية" الممانعة 40 مليار دولار

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")











"اللصوص الكبار يقودون مسيرة اللصوص الصغار"
ديوجين فيلسوف إغريقي

 
محمد كركوتــي
 
كما هي الأموال المنهوبة على أيدي النظامين المخلوعين في تونس ومصر، والنظام (أو لا النظام) الليبي السائر نحو الخلع بخطوات واضحة المعالم، كذلك الأموال التي سرقها نظام الأسد الاب والابن، على مدى 41 عاماً، لا أحد يستطيع أن يحدد حجمها، وإن كان بالإمكان الوصول إلى حجم تقريبي لها، على أساس استعراض آليات النهب والفترات الزمنية لعمليات السرقة، والقطاعات التي أنتجت هذه الأموال. والحقيقة أن هذا النوع من الأموال، لا يعرف حجمه التفصيلي حتى السارقون أنفسهم، كما أنه لا يعرف استقراراً، لكي يتسنى لمن يريد تعقبها، القيام بجدولتها للوصول إلى الحجم الحقيقي لها. فاللصوص الذين يعرفون كيف يسرقون بلاداً بأكملها بشعوبها ومقدراتها، هم أكثر الخبراء قاطبة براعة في إخفاء ما يريدون إخفائه من مسروقاتهم، ويعرفون أيضاً أفضل الأماكن لتكديس الأموال، من "تحت البلاطة" إلى سندات حكومية في قلب الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من البلدان التي تبيع سنداتها، ومن خزائن تختفي خلف رفوف من الكتب الأخلاقية والعلمية والأدبية، إلى أسهم في أكبر الشركات والمؤسسات العالمية، ومن جيوب لا منافذ لها، إلى استثمارات في دول تحكمها أشد القوانين الاستثمارية نزاهة. لقد أثبتت الفضائح القليلة التي فاحت حول جزء من الأموال المنهوبة، أنه لا فرق بين دولة مارقة تستقطب الأموال القذرة، وبين دولة راشدة "تدقق" في مصادر الأموال "المسكوبة" فيها، وتسن القوانين "الثورية" لملاحقتها! وهنا تتساوى "شبه دولة" كـ إمارة ليختنشتاين ودويلة مثل كايمن آيلاند وجزر متناثرة كـ موريشيوس، مع دول كبرى كبريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا! لا أتحدث هنا عن الأموال الملوثة بكل شيء عدا النزاهة (وهذه تقدر بأرقام خيالية)، بل أتناول الأموال التي اقتنصت قسراً من الشعوب مباشرة، ولا تقل هولاً من حيث حجمها عن الأولى. بل أن بعض الثانية يمتزج في بعض الأولى.

ولأن أحداً لن يستطيع تحديد حجم الأموال المنهوبة من الشعوب، على الأقل في المرحلة الراهنة، فإن التقديرات المتفق عليها، أن بن علي وأسرته نهبوا 40 مليار دولار أمريكي، كمكافأة نهاية الخدمة، ومبارك وعائلته ''كوشوا'' على 70 مليار دولار كـ ''أتعاب'' رئاسة، وسفاح ليبيا نفح نفسه وأولاده وزوجته المفضلة بـ 120 مليار دولار، كـ ''أجرة'' على قيادة الثورة! أما "قائد" الممانعة والمقاومة والعروبة بشار الأسد وقبله والده حافظ، فقد حصل حتى الآن على ما بين 30 و40 مليار دولار، كـ "إكرامية" لـ "قيادته" سفينة القومية! وحرصاً على النزاهة في الطرح، فهذه الأرقام الفلكية في بلد كسوريا، اتفقت حولها جهات معارضة للسلطة، مع بعض المؤسسات التي لا يربطها بسوريا ولاء أو معارضة. ويرى البعض أن 30 أو 40 مليار دولار، هو أقل مما قد تكون الأسرة الحاكمة-المالكة في سوريا، قد جمعته على مدى أكثر من أربعة عقود. مستندين في ذلك إلى أن محمد مخلوف خال الأسد الابن، تمكن من تكديس ما بين 12 و15 مليار دولار. فإذا كان الخال لوحده اقتنص هذا الكم الهائل من الأموال، فهل تكون أموال "قائد" الممانعة، إلا ضعف أو ربما أضعاف هذه المبالغ؟ وهل تكون أموال مخلوف مثلاً، أكثر من أموال الأخ الأقوى السيء الصيت والسمعة ماهر الأسد؟ أو الصهر العنيف آصف شوكت أو أبناء أعمام "القائد"؟ وإذا تمكن نائب الرئيس السابق رفعت شقيق حافظ الأسد وبطل مجازر حماة وحلب في الثمانينات، قد خرج من سوريا في منتصف العقد الثامن من القرن الماضي، بـ "مكافأة" نهاية خدمة بلغت 3 مليار دولار، عندما كانت سوريا تعيش اقتصاد التفقير، فهل يعقل أن تكون ثروة "قائد" المقاومة أقل من عشرة أضعاف في ظل "اقتصاد التشبيح"؟! مهلاً.. مهلاً، كيف ينسى المتابعون للأموال التي نهبها عدي وقصي نجلا الرئيس العراقي "المغوار" صدام حسين، وقاما بتهريبها إلى سوريا؟ هذه لوحدها، ثروة منهوبة مرتين، من الشعب العراقي ومن ناهبيها الأصليين!

الأسئلة في هذا المجال كثيرة، طالما أنه لا توجد لوائح وبيانات لحسابات الناهبين. فالكشف يعني ببساطة الإدانة الفورية لهم. فكيف يمكنهم أن يورطوا أنفسهم بكشوفات؟ لكن السؤال الذي يُطرح، بعيداً عن حجم المسروقات هو: أين تتكدس الأموال السورية المنهوبة بما في ذلك الجانب العراقي منها؟ الجميع يعلم أن قيام الولايات المتحدة بتجميد أرصدة الأسد الابن وأعوانه كنوع من العقاب على قتل شعبه بدم بارد، لا قيمة لها من الناحية العملية. لها قيمة رمزية فقط. وكذلك الأمر مع الخطوة الأوروبية. لماذا؟ لأن جزءاً كبيراً من الأموال المنهوبة تم نقلها في العام 2005 من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، استباقاً لأي خطوة دولية باتجاه تجميد الأرصدة. وقبل أن تجمد وزارة الخزانة الأميركية في العام 2008 أموال رامي مخلوف ابن خال الأسد الابن و"مصرفي" العائلة الحاكمة-المالكة، كانت الأموال السورية المنهوبة، قد سُحبت من البلدان التي يمكن للولايات المتحدة أن تؤثر عليها. مرة أخرى لا تأثيرات حقيقية للقرارات الأميركية والأوروبية على الأموال المسروقة. وكانت سخرية مخلوف من هذه القرارات مفهومة. والشيء نفسه ينطبق على القرارات المماثلة بحق آصف شوكت صهر رئيس السلطة السورية، ومحمد ناصيف وغيرهما من أولئك الذين دارت حولهم الشبهات بتورطهم المباشر في عملية اغتيال الحريري.

نُقلت الأموال إلى أشباه الدول والدويلات وعدد من الدول العربية، فضلاً عن بعض الدول الآسيوية التي لا تزال فيها مساحات للاحتيال على القانون الدولي، لاسيما بعد أن شددت الدول الكبرى، في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية الإجراءات الخاصة بالأموال المنهوبة والقذرة الباحثة عن "مصابغ" لتنظيفها. بالإضافة إلى ذلك، فقد تجمع جزءاً لا بأس به من الأموال المنهوبة في سوريا، طبعاً دون أي أثر إيجابي لها على الاقتصاد الوطني، الذي استطاع رامي مخلوف (البالغ من العمر 35 سنة) لوحده أن يسيطر على 60 في المائة منه. وربما تكفي الإشارة هنا، إلى أن الدخل السنوي لمخلوف من الأسواق الحرة وعمليات التهريب يصل إلى 500 مليون دولار أميركي، وهذه مبالغ ضائعة من خزينة الدولة. يضاف إلى ذلك، الأموال التي نُهبت على مدى عقود من جراء "وحدة الفساد والسرقة" اللبنانية-السورية، عندما كانت دمشق تقرر المصير اليومي للبنان. ووفق هذه التداعيات الدرامية المالية، سيكون من الصعب على الشعب السوري استعادة أمواله المنهوبة، حتى لو أُطلقت ملاحقات محلية وإقليمية ودولية للسارقين. والأمر لا يختلف كثيراً في بلدان مشابهة أو متطابقة مع سوريا.

وضعت الثورات التي شهدتها تونس ومصر، وتشهدها ليبيا وسوريا، قضايا الأموال المنهوبة في عين الأضواء. وهذا أمر طبيعي. فالطغاة يحسبون أنهم يمتلكون شعوبهم، فما الذي يمنعهم من امتلاك أموال الشعوب ومقدراتها أيضاً؟ ولكن السؤال الأهم هو: هل يستطيع السوريون ومعهم أشقائهم المصريين والتونسيين والليبيين، استرجاع أموالهم المنهوبة؟ وللتذكير –حسب التقديرات المتداولة- يصل حجم الأموال التي نُهبت من هذه الشعوب إلى 440 مليار دولار أميركي. دون أن نضيف الخراب الذي خلفه الناهبون في بلدانهم.

لا شيء يمكن أن يُعبر عن هذا المشهد الذي يدعو إلى الغثيان، سوى الذهول. وأعود إلى الجانب السوري. فالمعركة المقبلة أمام كل السوريين الآن، هي انتزاع حقوقهم المالية والمعيشية المسروقة، بعد أن يتنزعوا كرامة، أراد لها "قائدا" الممانعة الأول والثاني الزوال إلى الأبد، عن طريق الشعار البائس والمشين والمريع (قائدنا إلى الأبد "الأمين" حافظ الأسد).

الاثنين، 16 مايو 2011

امتلك جمهورية واحصل على شعب هدية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")









"المبدأ الأول عند اللصوص، أن لا شيء يصغر على السرقة"
جيمي بريسلين صحافي ومؤلف أميركي




محمد كركوتــي


امتلك بشار الأسد الجمهورية السورية عام 2000، وارثاً البلاد عن والده حافظ الأسد الذي امتلكها على مدى ثلاثين عاماً. أراد الأب أن يكرم الابن، فمنحه الشعب السوري كهدية مع "عقد" الملكية، الذي أُريد (بل وخطط) له أن يكون أبدياً. تمت عملية التوريث، على المبدأ التسويقي المعروف "اشتر واحداً تحصل على آخر مجاناً"، مع ضرورة الإشارة هنا، إلى أن الأسد الأب لم يشتر الجمهورية، بل سرقها. فجأة وجد الأسد الابن (الذي لم يكن مطروحاً للتوريث أصلاً، لكن مقتل شقيقه الأكبر باسل، في حادث فاخر بسيارة لامبورجيني، جعله الوريث الوحيد)، مالكاً لأمة بأكملها، تماماً مثلما كان الإقطاعي في السابق يملك الأرض الزراعية ومن عليها من بشر. كان على الابن، أن ينظم ملكيته وفق المعطيات الجديدة، والتأثيرات الخارجية، وحسب المستجدات المتلاحقة أيضاً، خصوصاً وأن الشعب الذي حصل عليه كهدية، ليس ساكن التكوين، ولا جامد العدد. إنه يتزايد على مدار الساعة، مثل بقية الشعوب، تماماً كما الأرصدة المالية المتعاظمة لرجال الأعمال الجدد، الذين – كما الابن المُفاجَئ بملكيته- وجدوا أنفسهم فجأة يحملون هذا التوصيف، ويملكون ما لا يحلمون به. وقفوا يرددون العبارة المعروفة "هل نحن بحلم أم بعلم؟". وبلا جهد في العثور على جواب، "إنهم بعلم".

في مقالي السابق الذي نُشر بعنوان "سوريا.. اقتصاد الفقر أو ما دونه"، أشرت إلى أن البلاد مرت باقتصادين اثنين، الأول اقتصاد التفقير في عهد الأب، والثاني اقتصاد الفقر في عهد الابن. وأبقى في عهد الابن المتداعي، للحديث عن أن سوريا انتقلت من "اقتصاد ما دون الفقر" إلى "اقتصاد التشبيح". وهو مشتق من شبيح، وجمعه "الشبيحة" التي هي التعبير المرادف لـ "البلطجية" في مصر، و"البلاطجة" في اليمن، و"المرتزقة" في ليبيا. والحقيقة أن كل هذه المرادفات تجتمع تحت سقف التوصيف الأشمل وهو "قُطاع الطرق"، وهو بدوره المرادف الأقرب لـ "المافيا" في العصر الحديث. فكل شبيح وبلطجي ومرتزق، هو في الواقع آل كابون، مع فارق واحد، وهو أن هذا الأخير كان يسرق من الأمة، بينما الآخر سرق الأمة نفسها! أي أن هناك بعض النقاط الإيجابية لزعيم المافيا الشهير يمكن أن تُحسب له، مقارنة بزملائه في سوريا.

اقتصاد التشبيح هذا، يمكن تعريفه بأنه "يقوم على سرقة المال العام والخاص، وامتلاك عدد محدود جداً من الأشخاص، لمقدرات البلاد بما في ذلك المستقبلية منها، من خلال عمليات الترهيب لا الترغيب، باستخدام وسائل حديثة، لتطبيق قوانين الخارجين عن القانون". مرة أخرى هو اختصاراً "اقتصاد قُطاع الطرق"، ولكن بدون أقنعة. فعندما تمتلك القوة المطلقة، لا يعود للأقنعة أي معنى، بل على العكس تماماً، تعطي الانطباع بأنها من رموز الضعف. لا يقوم اقتصاد التشبيح إلا على الشبيحة، وكلما كان هؤلاء قريبون ومقربون من مالك الجمهورية والشعب، كلما كانت هناك أدوات قوية لاستمراره أطول فترة ممكنة، ولا أقول إلى الأبد (على وزن قائدنا إلى الأبد "الأمين" حافظ الأسد)، لأننا نعلم من التاريخ، أنه لم يظهر دخيل أو طاغية أو سارق استطاع أن يمتلك شعباً بأكمله بالخوف والقوة والسلاح إلى الأبد. ومن أشد المخاطر التي تهدد اقتصاد التشبيح، أن تتوسع دائرة الشبيحة. ولذلك فقد ظل الاقتصاد في سوريا، حكراً على عدد من أسرة القائد "المُلهَم"، ومن بعض الأسر المرتبطة بصلة الدم، وعدد محدود جداً من الأسر، التي تؤمن بصورة مذهلة، بأن سوريا أصغر من أن يحكمها "المُلهَم".

لنلق نظرة على هويات الأسر التي يقوم عليها هذا النوع من الاقتصاد المريع. الأسد، مخلوف، الأخرس، طلاس، شوكت، شاليش، حيدر. ولا بأس بعدد قليل جداً من الأسر التي ساهمت في مرحلتي اقتصاد التفقير وما دون الفقر، وذلك لإعطاء الصورة أكبر قدر ممكن من الشمولية. ولم تشمل قائمة الأسر عائلة عبد الحليم خدام نائب الرئيس المنشق، فقد كانت هذه الأسرة فاعلة من مرحلة اقتصاد التفقير فقط، وفترة قصيرة من مرحلة اقتصاد ما دون الفقر. ولأن هناك نخبة حتى ضمن نخبة اقتصاد التشبيح، فقد تصدرت عائلة الأسد المشهد كاملاً، من خلال رامي مخلوف (ابن خال بشار الأسد)، الذي يسيطر على 60 في المائة من الحجم الكلي للاقتصاد السوري، والذي يعتبر "مصرفي" العائلة الحاكمة. ولذلك لم يكن مستغرباً أن تكون أولى صحيات الانتفاضة السورية التي تحولت إلى ثورة حقيقية، هي عزل مخلوف ومحاكمته على سرقاته، وكان المشهد بليغاً في مدينة اللاذقية –على سبيل المثال- التي ترزح تحت أكبر حصار أمني وعسكري صامت، عندما قام المنتفضون، بإحراق أحد فروع شركة " سيرياتيل" للاتصالات الخليوية المملوكة لمخلوف، في الأيام الأولى للانتفاضة. ماذا يقول "مصرفي" العائلة الحاكمة: "إن الهجوم الذي أتعرض له، ليس سوى غيرة من نجاحاتي"! وهل يستطيع أن يقول غير ذلك؟

ولم يجد رامي مخلوف –مثلاً- غضاضة في أن يتحدث عن وحدة الأسرة وأهميتها حين قال في حواره الشهير مع جريدة "نيويورك تايمز" الأميركية: "إن النخبة الحاكمة في سوريا تكاتفت أكثر بعد الأزمة، وعلى الرغم من أن الكلمة الأخيرة هي للأسد، إلاّ أنه يتم وضع السياسات بـقرار مشترك". وعلى طريقة تحليل رؤساء العصابات للأوضاع، عندما يتعرضون للمخاطر الحتمية، يقول مخلوف: "نؤمن بأنه لا استمرارية من دون وحدة. وكل شخص منّا يعرف أننا لا يمكن أن نستمر من دون أن نكون موحّدين. لن نخرج ولن نترك مركبنا ونقامر. سنجلس هنا. نعتبرها معركة حتى النهاية. يجب أن يعلموا أننا حين نعاني، لن نعاني لوحدنا"! إنه بلا شك تهديد واضح لأمة بأكملها، تتطابق مع التهديدات التي أطلقها سفاح ليبيا معمر القذافي وأبنائه ضد الشعب الليبي. لن أتناول هنا، استجداء مخلوف لإسرائيل عندما قال :"إن استقرارها هو من استقرار الوضع في سوريا". فهذا لوحده يحسم الأوهام التي نشرها الأسد الأب والابن، في أوساط السوريين والعرب، وبعض من العالم، بأن سوريا تمثل قلعة الصمود ضد الدولة العبرية.

إذا أردنا أن نحدد بؤر السيطرة على الاقتصاد السوري من خلال اقتصاد التشبيح، نصل إلى النتيجة التالية: 60 في المائة للأسرة الحاكمة-المالكة بإدارة رامي مخلوف، 20 في المائة للأسر المرتبطة معها بروابط الدم، 15 في المائة للأسر المقربة، 5 في المائة لأولئك الذين كانوا قبل اقتصادات التفقير والفقر وما دونه والتشبيح، من الرأسمالية الوطنية، التي ارتضت بأي شيء لكي تستمر، وهي في الواقع تقوم –بإرادتها- بعمليات بائسة لتجميل الصورة القبيحة.

في أحد الحوارات التلفزيونية التي أُجريت معي مؤخراً حول الوضع المتداعي في سوريا، وجهت المذيعة إلي سؤالاً جاء على الشكل التالي: "لماذا لا يعطي السوريون الأسد فرصة لمحاربة الفساد، لاسيما وأنه تعهد بمحاربته في خطابه الأول الذي تلا الثورة عليه؟"، وكان جوابي، أن ذلك يشبه أن يُكَلف آل كابون بمهمة محاربة الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة الأميركية. إن أول ضحية للحرب على الفساد، ستكون بالتأكيد العائلة الحاكمة- المالكة لسوريا والسوريين.





الأربعاء، 11 مايو 2011

الإعلاميون التلقائيون

(المقال خاص بمجلة "جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج")










"الصحافة هي المسودة الأولى للتاريخ"
أحد الصحافيين المجهولين




محمد كركوتــي

لا شيء يقف أمامهم. لا السلطات ولا القوانين ولا الإجراءات. لا شيء يعطل نشاطهم وحراكهم، مهما كانت الظروف قاسية. بل إن حراكهم لا يتفاعل بصورة كبيرة إلا في الظروف الصعبة والقاسية. إنهم يقفون –بدون أن يعلنوا ذلك- في وجه قانون صارم، أو قيود تكتسب في الكثير من الأحيان صفة الحديدية. إنهم يقدمون الحقيقة كما هي، بدون رتوش أو عمليات تجميل أو مقصات القطع، أو أقلام الشطب. هم لا يعرفون المقاييس المهنية، إلا أنهم يفهمون المقاييس الواقعية، ويؤمنون بأن هذه الأخيرة، تلغي كل الاعتبارات والتأويلات و"الفذلكات" المهنية. لماذا؟ لأنهم ينقلون الحقيقة كما هي، لا كما يُراد لها أن تكون. هم يعترفون بأن ما ينقلونه عن طريق الاحتيال على القوانين الصارمة، غالباً ما يكون صادماً ومؤثراً ومبكياً، لكنه في النهاية، هو الواقع الذي يستحيل تجاهله، ويصعب الادعاء بعدم وجوده، وبالتالي لا يمكن الهروب منه إلى الأبد. فهذا الواقع هو في الحقيقة تاريخ معاش، لا يلبث أن يتحول إلى تاريخ معاصر، وبعدها إلى تاريخ من حق الأجيال القادمة أن تعرفه وتدرسه، وتستخلص العبر منه. هو حق للبشرية جمعاء، لأنه بشري التكوين، سلوكياً وإنسانياً وأخلاقياً. ومهما بلغت الآلة المانعة له من قوة، فإنها ليست قادرة على ممانعته حتى النهاية. فالحقائق، قد تؤجل، لكنها لا تُمحى، والواقع قد يُهمش، لكنه لا يُزال. ويسجل التاريخ، قيام قوى (قيل أنها لا تقهر)، بإزالة الحقائق وتدمير الواقع، لكن أدوات الحقيقة كانت أقوى، وآليات الواقع كانت أشد، من أن تزول عن الساحة، وتُمحى من الذاكرة. وفي التاريخ الحديث، فعل ذلك النازي الألماني أدولف هتلر، والفاشي الإيطالي بيتينو موسوليني، والشيوعي السوفييتي جوزيف ستالين. لكن الحقائق، وضعت كل واحد من هؤلاء في المكان الذي يستحقه من التاريخ.

هؤلاء الذين لا يقف شيء أمامهم، ليسوا سوى أشخاص عاديون، أرادوا أن يمارسوا الإعلام التلقائي –إن جاز التعبير- عن غير قصد في أغلب الأحيان، من خلال نقلهم للأحداث في أماكن يصعب وصول الإعلاميين المهنيين إليها، في وقت الأزمات وغيرها، وفي أزمنة المحن والمصائب. إنهم "المراسلون التلقائيون"، المتسلحون بأقل الهواتف تطوراً، وأكثر الأحداث تلاحقاً. ليس مهماً أن تكون كاميراتهم عالية الجودة، المهم أن تكون الصورة من قلب الحدث، لاسيما في المواقع التي يفرض عليها حصار إعلامي، يجرم الصحافي- المراسل، كما يجرم المجرم القاتل. وإذا كان بالإمكان تحديد عدد الصحافيين – المراسلين حول العالم، فإنه يستحيل الوصول حتى إلى عدد تقريبي لهؤلاء. فكل من يحمل هاتفاً نقالاً بكاميرا بسيطة، هو في الواقع مراسل. وفي الأحداث الجسيمة، مثل تلك التي يشهدها غير بلد عربي، يقدم المراسل التلقائي، خبطة في كل لقطة، ويعرض على العالم، الحقيقة بعمقها وألمها وتأثيرها. وفي حوار تلفزيوني أُجري معي على قناة "الحرة"، طُرح موضوع الإعلام في ظل منع المراسلين من العمل في بعض الدول التي تشهد أحداثاً جسام. وأتذكر أنني قلت: "علينا أن نعترف ببعض الفضل لحكومات هذه الدول، لأنها عندما تمنع مراسل من دخول البلاد أو العمل فيها، فهي توفر أرضية لكي يعمل ألف مراسل تلقائي". إذا كانت تستطيع أن تمنع مراسلاً قادماً إلى البلاد بأوراقه ومعداته من الباب، فإنها ستفشل حتماً في منع المئات –وربما الآلاف- من المراسلين التلقائيين الذين يعملون تحت الأرض وفوقها، ولا يحتاجون لأبواب أو حتى نوافذ للولوج منها.

يقول الكاتب والصحافي الأميركي جون هيرسي: "الصحافة تسمح لمتابعيها ليكونوا شهوداً على التاريخ، والرواية تمنح متابعيها الفرصة لكي يعيشوا فيها". وفي غمرة الأحداث الجارية على الساحة العربية، قال مراسل صحافي يعمل في لبنان لإحدى وسائل الإعلام الأجنبية :"إن عملنا الصحفي صار عبارة عن نفايات لا قيمة له"، لماذا؟ لأن الهواتف النقالة المزودة بالكاميرات، التي يحملها الملايين، تزود مواقع الانترنت المتخصصة وغير المتخصصة بالأحداث المصورة لحظة بلحظة. ويقول هذا الصحافي :"لم يعد الأمر يقتصر على تسريب معلومات من السهل القول إنها محض شائعات أو حتى افتراءات، عندما لا نرى آثارها على أرض الواقع، بل صارت المعلومات مدعمة بصور فيديو من الهواتف، تُبث على الانترنت وتتلقفها القنوات التلفزيونية بسرعة تتجاوز الزمن اللازم لتحرك المراسل على الأرض للتحقق من حصولها". هذا إذا سُمح أصلاً للمراسل بالوصول إلى موقع الحدث. والحقيقة أن عشرات القنوات التلفزيونية خصصت ساعات بثها كلها، لفيديوهات المراسلين التلقائيين، بينما اعتمدت قنوات مهنية شهيرة عربية وأجنبية عليها في نشراتها الإخبارية، لكي تُملئ النقص المريع في المادة المصورة لديها.

وحتى في زمن الهدوء، وسماح السلطات في بعض الدول، لعدد محدود من المراسلين في العمل على أراضيها، اتبعت بعض القنوات المتطورة، نظاماً يمكن أن يطلق عليه اسم "المراقبون" أو "المتابعون"، وهو يقوم على تعاون هذه القنوات، مع أشخاص عاديين يُمنحون هذا التوصيف، عن طريق تزويدها بتسجيلات وصور ومقاطع فيديو وشهادات، تدعم القضايا التي تطرحها القنوات المذكورة، وفي بعض الأحيان، تساعد المواد الآتية من المراسلين التلقائيين، المشرفين على القنوات بطرح قضايا جديدة وبأبعاد جديدة وواقعية. أما في زمن الأزمات والأحداث –لاسيما المأساوية المتلاحقة- فإن الأمر يصبح أكثر إلحاحاً بالنسبة للقنوات التلفزيونية كلها. ولأن المراسلين التلقائيين يوفرون مادة خام مائة بالمائة، فقد تحولت القنوات التي تضطر لاستخدام هذه المادة، والتي تتبع معايير البث المهني، إلى صالات لتحرير المادة وانتقاء ما يصلح منها للبث. وهي في ذلك لا تواجه مشاكل، لأن المادة حجم المادة المتوفرة كبير جداً، لا يمكنها حتى احتوائه.

لقد كرست الأحداث المتفاعلة على الساحة العربية، حقيقة أن الإعلام ليس حكراً على الإعلاميين، وأنه قطاع مفتوح لكل من يرغب في المساهمة فيه، خصوصاً فيما يرتبط بنقل الأحداث تلفزيونياً. صحيح أن هناك معايير مهنية، ليست متوافرة عند المراسلين التلقائيين، ولكن الصحيح أيضاً، أن المادة الخام التي يصعب توفرها، لا تترك مجالاً لعمل الإعلاميين الحرفيين. يضاف إلى ذلك، أن الوسيلة الإعلامية هذه أو تلك، ليس بمقدورها أن تتواجد في كل مكان، مهما بلغ شأنها وقدرتها على تجنيد المراسلين العاملين فيها، الأمر الذي يدفعها للجوء إلى "إنتاج" المراسلين التلقائيين، حتى في الأزمنة والأمكنة المستقرة، فكيف الحال بالأزمنة والأمكنة المضطربة؟

استطاع المراسلون التلقائيون، أن يتجاوزا كل الحواجز، وأن يعززوا دورهم في نقل الحقيقة كما هي، وأن يكونوا شهداء موَثقون للتاريخ. استطاعوا أن يعملوا في أماكن مليئة بالعيون ولكنها لا ترى، وأن يعيشوا أوقاتاً تشهد أحداثاً (مرعية في غالبيتها). احتل هؤلاء مكان "الشاهد الملك"، في أماكن مُنع فيها الشهود. أماكن، حاول المسيطرون عليها، أن يقنعوا العالم بأن ما يجري من أحداث جسام، ليست سوى مهرجانات "شم النسيم"، مليئة بالفراشات والطيور الجميلة. أراد المسيطرون أن يقولوا للعالم: لا تصدقوا من يقول لكم إن هناك جثثاً على قارعة الطريق، وهناك أنيناً في الزوايا، وهناك مصائب في الأرجاء!

لم يبدأ عصر المراسلين التلقائيين بالأمس، لكنه كرس وجوده أكثر، مع كل حصار إعلامي، وكل منع لصحافي. هؤلاء لا يصنعون الحدث، إنهم يوثقون لتاريخ، أراد البعض له أن يكون بلا أيام وبلا أحداث وبلا وقائع، بل.. وبلا ضمير.


الاثنين، 9 مايو 2011

سوريا.. اقتصاد الفقر أو ما دونه

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")









"الطغاة كالأرقام القياسية، لابد من أن تتحطم في يوم من الأيام"
محمد الماغوط كاتب وشاعر سوري

 
 
 
 
محمد كركوتــي
 
عاش الشعب السوري (ولايزال)، بين رحى اقتصادين اثنين لا ثالث لهما. الأول سَحق ببطء حتى ما بعد الرمق الأخير، والثاني طَحن بسرعة حتى ما بعد النهاية. الاقتصاد الأول الذي ابتكره حافظ الأسد، حوَل الشعب بأكمله، إلى رعية لا تستحق العيش، إلا من أجل استكمال الصورة، أو المعادلة. أي أن وجود القائد المُلهَم، لا يستمر إلا بوجود شعب يعيش على كرم القائد، لا على مقدرات ومكتسبات الشعب نفسه. فإذا حصل فرد من أفراد هذا الشعب على حفنة من الرز، فهذا يعني أن القائد ليس ملهَماً فحسب، بل هو مجبول بالرأفة والكرم والحنان! وإذا حصل تلميذ على كتاب مدرسي مجاني، هذا يعني أن أبوة القائد، طافحة بصورة لا يمكن السيطرة عليها! وإذا تمكن مواطن من الحصول على علبة دواء لابنته المريضة، هذا يؤكد "تسونامية" إنسانية القائد! بدون القائد الملهَم، لا حياة في الحياة نفسها، ولا مستقبل للغد، ولا ماض للأمس. ولو كانت لحافظ الأسد القدرة على امتلاك الحياة فيزيائياً، لنظم توزيع الأوكسجين إلى رئات الشعب، في مهرجان من الكرم على مدار كل الدقيقة. كان الاقتصاد السوري في عهد الأسد الأب، اقتصاد التفقير، تمكن من خلاله أن يربط لقمة المواطن ودوائه وتعليمه وتفاصيل حياته، به شخصياً. وعندما يكون الأمر على هذا الشكل المريع، يكون وصول الإنسان إلى العزة والكرامة، بنفس سهولة الوصول إلى الفوهات السوداء في عمق الكون!

لم يخرج الشعب السوري من اقتصاد التفقير، إلا ليدخل في اقتصاد ما دون الفقر. وهو اقتصاد مبتكر، تمأسس فيه الظلم والحرمان، بعدما تمأسس الفساد والنهب والسرقة، بصورة دفعت حتى الجهات الدولية المحايدة، إلى "ممارسة" الدهشة كلما استعرضته، وإلى "هز رأسها" حيرة وصدمة، كلما تعاطت معه. فبعد أن ورث بشار الأسد الابن الجمهورية والشعب في آن معاً من والده، وجد أن الأوقات تتغير بشكل يصعب معها استمرار اقتصاد البلاد تحت مظلة هائلة من الفساد الفردي. وفي هذه الحالة لم يجد أمامه سوى مأسسة الفساد، للتناغم مع التطورات المحلية والدولية. فالمؤسسة الفاسدة توفر أجود أنواع الحصانة لكل شيء مشين، كما أنها تعطل أو تؤخر، وفي بعض الأحيان تحمي إلى الأبد، الفاسدين أو الناهبين أو السارقين أو المختلسين، إلى آخر المفردات المشينة التي تنتهي بـ "بالياء والنون". في مقالي السابق الذين نُشر بعنوان (في سوريا كل شيء قابل لـ "البزنس")، قلت: "في مرحلتي الأسد الأب والابن، تاهت سوريا، بين اقتصاد مغلق من دون باب، وبالتالي لا معنى لوجود ملايين المفاتيح، واقتصاد بباب مغلق، له مفاتيح قليلة جداً، في أيدي أشخاص قليلين جداً، 'عُينوا' في مناصب رجال أعمال". في ظل الاقتصاد الثاني، وبعد أن أحكم رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد قبضته على اقتصاد البلاد، وسيطر على 60 في المائة من الحجم الكلي لهذا الاقتصاد، وصلت سوريا إلى أدنى المستويات العربية والعالمية، في كل شيء تقريباً، بما في ذلك الأمن والأمان. فكثيراً ما نسمع تصريحات لمسؤولين في السلطة السورية، يفاخرون بأن البلاد تتصدر المراتب الأولى في الأمان الشخصي. وهذا طبعاً قبل أن تجند السلطة القناصة في قلب المدن السورية، لاصطياد البشر.

ووفقاً لمنظمة الشفافية الدولية، فقد تصدرت سوريا في تقرير المنظمة السنوي قائمة الدول العربية الأكثر فساداً على الإطلاق. من تفوق عليها في الفساد على الصعيد العالمي؟ لنتأمل قليلاً هذه الدول: الصومال وأفغانستان وايران وليبيا واليمن وهايتي والكاميرون وساحل العاج والنيبال والباراغواي. لا عجب، فكل هذه الدول لم تعش في التاريخ المعاصر إلا فساداً. حتى تونس ومصر اللتان اعتمدتا الفساد كـ "خيار استراتيجي" في عهد المخلوعين زين العابدين بن علي وحسني مبارك، تقدمتا على سوريا بأشواط طويلة جداً في النزاهة. ولأن السلطة في سوريا (ولا أقول النظام، لأن النظام فقد توصيفه مع مقتل أول مدني على أيدي قوات السلطة)، تشكك بكل شيء، فأنا أنقل هنا عن دراسة محلية سورية للدكتور فريد خليل الجاعوني من كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، نُشرت العام الماضي، أثبت فيها أن سوريا تحتل المرتبة الـ 19 في مكافحة الفساد، في قائمة الدول العربية التي يبلغ عددها 22 دولة! وفي العام الماضي، احتلت سوريا (وفقاً لإحصائية لموقع "هيرتيج" المتعاون مع صحيفة "وول ستريت جورنال" الاقتصادية الأميركية) المرتبة 140 في قائمة ضمت 180 دولة، فيما يرتبط بالحرية الاقتصادية. وحسب الإحصائية، فقد جاءت سوريا بعد كل من جيبوتي وموريتانيا!

لن أتناول هنا، مؤشر حرية الصحافة التي بلغ فيه ترتيب سوريا 165 من أصل 175، ولا مؤشر الديمقراطية التي احتلت فيه المركز 152 من أصل 167 دولة، وتقدمت عليها كل من أفغانستان وكوبا وأريتيريا والإمارات والبحرين والكويت. ولا مرتبتها في عدد مستخدمي الانترنت التي بلغت 128 من أصل 215 دولة، ولا عن جامعة عريقة كجامعة دمشق التي بلغ ترتيبها عربياً 75 وعالمياً 5900، ولا من مستوى الأمان، حيث "تمكنت" سوريا من احتلال المركز 115 على مستوى العالم، وتقدمت عليها الغالبية العظمى من الدول العربية. في عهد اقتصادي التفقير (الأب) والفقر أو ما دونه (الابن)، انغمست سوريا في حالة ممانعة للتنمية والتطور، وتصدت لأي شكل من النمو التلقائي. لماذا؟ لأن اقتصاد التفقير والفقر، صاحبه "اقتصاد الأسرة"، التي جيرت مصالح أمة بأكملها، لتختصرها في مجموعة من الأشخاص، يقررون مصيرها نيابة عنها في كل شيء. أشخاص قرروا أنهم يعرفون مصلحة الفرد أكثر منه، بل ووضعوا هذه "المعرفة" ضمن نطاق مؤسسي!

في اقتصاد الفقر أو ما دونه، بلغت نسبة السوريين الذين لا يستطيعون تلبية احتياجاتهم الأساسية 35 في المائة، وهؤلاء يعيشون –حسب المعايير العالمية- تحت خط الفقر في حده الأعلى، وهناك 13 في المائة يعيشون في فقر مدقع، أي أنهم لا يستطيعون تلبية أياً من احتياجاتهم الأساسية. وفي هذا الاقتصاد، هناك 49 في المائة من السوريين دون الثلاثين من أعمارهم عاطلون عن العمل. وتصل نسبة البطالة الكلية إلى 22 في المائة. وطبقاً لمحللين مستقلين دوليين –غير مندسين أو متآمرين- فإن انتشال أولئك الذين يعيشون تحت خط الفقر، لا يحتاج إلا إلى 200 مليون دولار أميركي فقط. لكن الواضح، أن اقتصاد ما دون الفقر، يعجز عن توفير هذا المبلغ، على الرغم من أن دخل سوريا من النفط لوحده يصل إلى 3 مليارات دولار أميركي. وإذا قبلنا بالحجج التاريخية، بأن أموال النفط تذهب إلى التسلح، لمقاتلة العدو الذي يجلس هادئاً آمناً عن الطرف الآخر من الحدود، فإن جزءاً بسيطاً جداً من عمولات الأسلحة، تكفي ليس فقط لانتشال الفقراء من فقرهم المدقع، بل أيضاً لتشغيل مئات الآلاف من العاطلين عن العمل. أليس اقتصاد الفساد الموازي للاقتصاد الوطني في عهد الأسد الأب، الذي تقدم على "الوطني" في عهد الأسد الابن، جزء لا يتجرأ من الاقتصاد الكلي للبلاد؟ ليمنح الذين أُفقروا قسراً، شيئاً من مسروقاتهم.

الاثنين، 2 مايو 2011

في سوريا كل شيء قابل لـ "البزنس"

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"الظلم في أي مكان، يهدد العدالة في كل مكان"
مارتن لوثر كينج زعيم حركة الحقوق المدنية الأميركية

 
 
محمد كركوتــي
 

على مدى 41 عاماً، انتقل الاقتصاد السوري من مرحلة الفساد الفردي في عهد حافظ الأسد، إلى مرحلة الفساد المؤسسي في عهد بشار الابن. وفي المرحلتين، تاهت البلاد، بين اقتصاد مغلق بدون باب (وبالتالي لا معنى لوجود ملايين المفاتيح)، واقتصاد بباب مغلق، له مفاتيح قليلة جداً، في أيدي أشخاص قليلين جداً، "عُينوا" بمناصب رجال أعمال. وقد احتلت سوريا المراكز الأولى في قائمة الدول التي تمنح مثل هذه المناصب! فهي سبقت مصر وتونس بمراحل عديدة في هذا المجال. وكما كانت أول الدول العربية (وغالباً آخرها) في توريث الجمهورية للابن (والثانية على مستوى العالم بعد كوريا الشمالية)، كذلك كانت الأولى عربياً، في تعيين رجال أعمال يحملون حقائب أقوى من الحقائب الوزارية، بل وأقوى من "حقائب" نواب الرئيس أنفسهم! وإذا كان هذا الأخير يملك مفاتيح خزائن البنك المركزي، فإن هؤلاء ملكوا (ويملكون) خزائن مقدرات البلاد كلها. والحقيقة، أن ملكية البنك المركزي، هي متوارثة أيضاً من الأب للابن. فكلنا يتذكر ما ورد في أحد كتب وزير الدفاع السوري السابق مصطفى طلاس (التي لا نعرف من يكتبها له)، بأن حافظ الأسد طلب أموالاً من محافظ البنك في منتصف الثمانينات، كثمن يدفعه لشقيقه رفعت الأسد، مقابل أن يتوقف هذا الأخير عن محاولاته لعزله. وقد فوجئ المحافظ بأن الثمن الذي طلبه رفعت، أعلى كثيراً مما هو موجود في خزائن البنك، فما كان لحافظ الأسد إلا أن يطلب من سفاح ليبيا معمر القذافي، تسديد الفارق، وقد لبى هذا الأخير الطلب.

على كل حال، مع المأسسة في عهد الأسد الابن، تحول الفساد إلى قطاع تجمعت في ظله كل القطاعات، بما في ذلك تلك المرتبطة بالتنمية، التي ظلت في ذيل قائمة الحراك الاقتصادي. فقد بلغ الفساد حداً، بات من المستحيل فصل المال العام عن الخاص، بصرف النظر عن مصادر هذا المال الخاص. وصار رجال الأعمال المعينون، هم المالكون الوحيدون لمقدرات البلاد، وأصبحت –على سبيل المثال لا الحصر- العوائد النفطية سراً من أسرار الدولة، ومصير المساعدات التي تصل إلى البلاد من القضايا المرتبطة بالأمن القومي، وحتى وكالات الشركات الأجنبية مهما صغرت، يتم التعاطي معها بصورة حصرية. بعضها محصور بأشخاص معينين بشكل مباشر، وبعضها الآخر محصور بنفس الأشخاص بشكل غير مباشر. ومع انطلاق مرحلة مأسسة الفساد، برز التحالف المريع بين السلطة وكبار التجار التقليديين، الذين يندرجون ضمن نطاق الرأسمالية الوطنية. وعلى الرغم من أن هذا التحالف، قام على مبدأ الندية، إلا أنه لم يستمر على هذا الشكل. شيئاً فشيئاً، تحول الرأسماليون الوطنيون إلى حليف هش، يقبلون بالفتات مقابل الاستمرار على الساحة الاقتصادية، حتى أصبحت غالبيتهم مجرد شركاء رمزيين. وقد قبلوا بهذه الوضعية المهينة، ليس لأنهم يخشون الاقصاء –وهذا وارد دائماً- ولكن من جراء عمليات تخويف، يقوم بها رجال الأعمال الجدد، بأنه إذا سقط النظام، سيسقط بالضرورة رجال أعماله معه، وبالتالي، فإن المجازر وعمليات الانتقام، ستطال التجار في غمرة الأحداث. ومن هنا، فإن هذا التحالف المريع، قام على الخوف والإرهاب، أكثر من قيامه على المصالح المشتركة. فالذي لم يكن يرضى من التجار الكبار بدخل يومي أقل من عشرة ملايين دولار أميركي، قبل مرتعداً بأي دخل كان للنجاة التجارية والشخصية أيضاً!

هذا الإرهاب الاقتصادي، وفر لنظام الأسد الابن، واحدة من آليات البقاء والاستمرار، إلى جانب موجات التخويف الوهمية للأقليات في سوريا، بأن زواله يعني القضاء عليها، وأنه يمثل الحماية الواجبة لها، وأن أي بديل آخر له، لن يكون أقل وحشية من النازي الألماني أدولف هتلر، والفاشي الإيطالي موسوليني. مارس نظام الأسد الابن هذا التخويف-الإرهاب، وبصورة علنية، أكثر مما مارسها نظام الأسد الأب. فقد وفر الانغلاق الفظيع لهذا الأخير، ضمانة هادئة وقوية على هذا الصعيد، بعد أن درس وطبق بجودة عالية، نفس المعايير الكورية الشمالية الاستبدادية، بينما لا يوفر –حتى الانفتاح المنظم- هذه الحصانة لنظام الأسد الابن.

في سوريا كل شيء قابل لـ "البزنس" (بما في ذلك القضايا السياسية)، شرط أن يكون "المستثمر" – والأصح المستحوذ- واحداً من رجال الأعمال المُعَينين. أقول كل شيء، أي انطلاقاً من مصنع صغير لإنتاج العلكة (اللبان)، إلى الاتصالات والنفط ومشاريع البنى التحتية والوكالات الأجنبية والنقل والعقارات والإنشاءات والسياحة والطيران وتجارة التجزئة والمدارس الخاصة. وحتى قطاع التاكسي! وتكفي الإشارة هنا، إلى ما يمكن وصفه بـ "مدير عام رجال الأعمال المُعينين" رامي مخلوف ابن خال الأسد الابن (ونجل القائد السابق للحرس الجمهوري) بأنه يسيطر على ما يقرب من 60 في المائة من حجم الاقتصاد السوري الكلي، وذلك من خلال شبكات معقدة من الشركات القابضة، وله استثمارات يصعب حصرها، بسبب السرية المحكمة عليها في كثير من الدول، من بينها الإمارات ولبنان وألمانيا وأوكرانيا وبلجيكا واسبانيا وسويسرا وانجلترا ورومانيا. بل يمتلك استثمارات كبيرة في دول مثل السودان وليبيا وباكستان واليمن. والحقيقة أن أحداً من الدائرة الضيقة في نظام الأسد الابن، لم يُكذب ولو لمرة واحدة، أي تقديرات على حجم الأموال والاستثمارات التي تعود إلى مخلوف. وتؤكد مصادر معارضة للنظام، بأن هذا الأخير، يقوم ايضاً بالاستثمار لحساب شخصيات متنفذة في النظام، على اعتبار أنه لا يمكن أن يسمح الأسد، باستفراد مخلوف بهذا الكم الهائل من الأموال والاستثمارات المتنوعة.

حين فرضت وزارة الخزانة الأميركية في العام 2008 عقوبات على مخلوف، ومنعت المواطنين أو المؤسسات الأميركية من التعاطي بأعمال معه، وصفته بالقول "رجل أعمال سوري قوي ومتنفذ، جمع إمبراطورتيه التجارية من خلال استغلال علاقاته مع أفراد النظام السوري"، ومضت في وصفه على أنه من داخل النظام ممن يزعم أنه "يستفيد ويساعد في الفساد العام" للمسؤولين. وفي العام نفسه، قال مخلوف لوكالة "رويترز":" إني أشكر جورج بوش –الذي كان رئيسا للولايات المتحدة آنذاك- على هذا القرار، لأن العقوبات زادت من مستوى الدعم لي داخل سوريا. فأنا لست برجل أعمال ينتهج سياسة الصفقات السريعة والانسحاب". وعلى الرغم من أنه لم يصدق، بأن شعبيته زادت في وسوريا، إلا أنه صدق في توصيف نفسه، بأنه ليس رجل الصفقات السريعة. فهو لا يستطيع أن يقول، إن مؤسساته وشركاته التي قامت عن طريق مأسسة الفساد، خُطط لها، على اعتبار أن نظام الأسد مستمر إلى الأبد، وأن هذا النظام الذي عاش أكثر من 40 سنة، سوف يعيش إلى عقود مقبلة، ربما توفر لمخلوف استحواذاً على الاقتصاد الوطني لسوريا يصل إلى مائة بالمائة بدلاً من 60 في المائة.

مع تمأسس الفساد في سوريا، تمأسس الظلم والحرمان في هذا البلد. فالذين يستجدون فرص عمل، عليهم أن يمروا بسلسلة من الامتحانات التأهيلية. فإذا كانوا من أولئك الباحثين عن وظائف بسيطة، يجب عليهم أن يُثبتوا أنهم مؤمنون بحتمية الرشوة، أما أولئك الباحثين عن وظائف أعلى قليلاً، عليهم أن يبرهنوا أن الأخلاق لا قيمة لها، تماماً فثلما هي الإنسانية لا قيمة لها، في مدينة صامدة كدرعا، ومدن مُكافِحة كحمص وبانياس واللاذقية وغيرها.