الاثنين، 31 يناير 2011

"تيار" الفقر والبطالة وراء الانتفاضات التلقائية

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





" أياً كانت نسبة البطالة.. فهي تقلقني"
جيرهارد شرويدر مستشار ألمانيا السابق

 
 
 
محمد كركوتـي
 
تستطيع أي جهة أن تدعي حصة أو حتى قيادة في المظاهرات الشعبية التي تندلع تلقائياً، لا عفوياً. ويستطيع أي حزب سياسي الإدعاء أيضاً بأنه هو الذي يغذي إيديولوجياً هذه المظاهرات، التي تصفها عادة الأنظمة المستَهدفة بـ "مظاهرات مثيري الشغب أو انتفاضات الحرامية". ويمكن لأي تيار سياسي، القيام بمحاولات لركوب هذه المظاهرات، أو للاستحواذ عليها، كما يمكن حتى للأفراد أو الشخصيات المستقلة، أن تحاول الحصول على ما أمكن لها من الرصيد الشعبي والوطني لهذه المظاهرات. كل هذا مرتبط بمدى نجاح المظاهرات الاحتجاجية، وحجم الانجراف الشعبي معها، ومستوى جماهيريتها. ومرتبط أيضاً، بمدى اهتزاز الأنظمة من ترددات زلازلها. ولذلك نسمع عادة الأصوات المُدعية تعلو في مراحل متقدمة لهذه المظاهرات أو الاحتجاجات أو الثورات أو الانتفاضات. وكلما حققت خطوة نوعية، ارتفعت هذه الأصوات درجة. تبدأ بالحناجر، وتنتهي بمكبرات الصوت المتنقلة، أو تبدأ همساً وتنتهي صراخاً. إنها نوع من أنواع الانتهازية التي ظهرت في التاريخ كثيراً. فحتى الثورة البلشفية الشهيرة في روسيا، قامت في الواقع مطلع القرن العشرين، عن طريق استحواذ التيار الشيوعي (الذي كان في مرحلة التشكل) على تحركات شعبية تلقائية، اندلعت من أجل كرامة الحياة. ركبت هذه الثورة الموجة بأعلى درجة من الذكاء والتدبير، وبأعلى مستوى من العنف أيضاً.

ليس مهماً أن يُعلن هذا التيار أو ذاك أحقية ما في هذه الانتفاضة أو تلك، وليس مهماً أيضاً الإدعاء بدور أو بآلية تحريك مهما صغر حجم الإدعاء أو كبر، مع التأكيد على أن المدعين لن يتوقفوا عن محاولات قطف ثمار المجهود الشعبي والوطني. ومهما كثر المدعون وتنوعوا، فـ"التيار" التي يقف وراء المظاهرات الوطنية، ليس سوى الفقر. وهذا "التيار" يفرز في الواقع تيارات عدة، في مقدمتها البطالة، بالإضافة طبعاً إلى الظلم، وغياب العدالة الاجتماعية، والفساد الذي يجسد دائماً عدم تكافؤ الفرص. بعض المتمسكين بصوابية الأنظمة وامتعاضهم من الانتفاضات التلقائية، يبرر ارتفاع معدلات البطالة، خصوصاً في أوساط الشباب والخريجين، بأن هناك بطالة في كل دول العالم، بما في ذلك الدول المتقدمة الثرية. وبالطبع لا يقول هؤلاء: إن العاطلين في الدول المتقدمة، لا يعيشون عند أهاليهم، ولا يقتسمون اللقمة معهم. ولا يقولون أيضاً: إن الحكومات في الدول المذكورة، توفر للعاطلين الحد الأدنى من الدعم المالي الذي يحفظ الكرامة، في معركة البحث عن وظائف، ولا يقولون: إن الحكومات نفسها، تقدم للعاطلين برامج تدريبية لتجعلهم أكثر جاذبية لسوق العمل، ولا يقولون: إن هناك تكافؤ في نطاق البحث عن فرص العمل. لا يقولون: إن التأمينات الاجتماعية، تجنب العاطلين البحث عن لقمة في صناديق القمامة. وبالتأكيد لا يقولون: إن المظاهرات التي تندلع بين الحين والآخر في الدول المشار إليها، لا تواجَه بالدبابات ولا بمندسين من عناصر الأمن فيها. ولا يذكرون – على سبيل المثال– ما قاله ذات مرة رئيس الوزراء البريطاني الراحل هارولد ويسلون:"إن أفضل جائزة يحصل عليها رئيس دولة، أن يحظى بنوم هانئ لليلة واحدة".

نعم "تيار" الفقر "المنتج الأوتوماتيكي" المباشر للبطالة، هو الذي يُطلق الانتفاضات أو المظاهرات، ويُطلق معها مُتغيرات تتجاوز الحكومات فور حدوثها، وهو الذي يرفع سقف المطالب، بصورة يصعب على الأنظمة أن تطاولها، أو حتى أن تلاحقها. بين العامين 2005 و2008 بلغت معدلات البطالة في الدول العربية 12 في المائة، وذلك طبقاً لتقرير الأمم المتحدة حول "أهداف التنمية في الألفية الثانية". والحقيقة أن هذه النسبة ليست دقيقة، فهي تستند إلى أرقام حكومية يصعب الاعتماد عليها، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن هذه النسبة – رغم عدم دقتها- تشمل السنوات التي سبقت اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، التي بدورها أضافت مزيداً من العاطلين إلى صفوف زملائهم. وفي كل الأحوال، فإن البطالة في أوساط الشباب العربي تصل إلى 30 في المائة، وهي نسبة لا تماثلها أخرى على مستوى العالم أجمع. والمصيبة، أن هؤلاء الشباب ينظرون إلى أنفسهم كعالة على مجتمعاتهم، حتى قبل أن يجتازوا مرحلة التعليم والإعداد، على اعتبار أن "المكتوب يُعرَف من عنوانه"، وأنهم لن يحصلوا على فرص عمل حتى لو تمكنوا من النجاح بامتياز. فكيف يمكن التعاطي مع شباب يتسرب الإحباط إليه، حتى قبل أن تأتي ساعة الحقيقة؟ وينتشر اليأس في صفوفه قبل أن يخوض غمار العمل أو سراديبه! إن هؤلاء ليسوا مُسيسين، وليسوا حالمين أيضاً. إنهم لا يريدون أكثر من حقهم بالعمل والعيش الكريم. وسواء كانت هناك أزمات اقتصادية كبرى أو صغرى تواجه هذه الحكومة أو تلك، فإن أحداً لا يمكنه أن يقبل بمبررات لتكدس العاطلين، ومبررات أخرى لحرمانهم من الضمان الاجتماعي، أو شيء منه.

لم تحقق غالبية المشاريع التي طرحتها الحكومات العربية للحد من البطالة أية نتائج مُرضية، خصوصاً في أوساط الخريجين. بل أن بعضها تحطم برمته أمام الحقائق الموجودة على الساحة. لماذا؟ لأن الخلل في سوق العمل ما زال قائماً، ولأن الموائمة بين مخرجات التعليم والتأهيل وبين احتياجات السوق لا زالت مفقودة، ولأن الظلم في توزيع الوظائف مازال سائداً. فكلنا يعرف أن بعض البلدان العربية، لا توظف أي خريج مستحق للعمل فيها، إذا لم يكن منتسباً للحزب الحاكم، أو دائراً في فلك المجموعات التابعة لهذا الحزب. وحتى فرص التعليم العالي في البلدان المشار إليها، خاضعة لهذه الاعتبارات. فلا عجب – مثلاً- أن يكون الحزب الحاكم الهدف الأول للثورات التلقائية، ورموزه الأهداف الأكثر وضوحاً أمامها. صندوق النقد الدولي يرى –على سبيل المثال- أن الانتفاضة التي شهدتها تونس، وأدت إلى فرار الرئيس زين العابدين بن علي من غضب المنتفضين، تظهر أهمية إيجاد حلول سريعة للبطالة في العالم العربي. ووجد مسؤولو الصندوق أن "ضغوطاً اقتصادية تتراكم في المنطقة. وأن تسوية مسألة البطالة المرتفعة، هو تحد اقتصادي معروف منذ زمن طويل، ولكنه أصبح أكثر إلحاحا". والحقيقة أن الأمر لا يحتاج إلى تحليل من صندوق النقد أو أي مؤسسة عالمية أخرى. فطالما هناك بطالة هائلة، كانت هناك آليات لتحرك شعبي تلقائي يكسر حاجز الخوف من كل شيء وعلى أي شيء. فعندما لا يمكن الإنسان شيئاً، لا يخشى من الخسارة.

لقد كان العاطلون عن العمل في السابق، مكدسون في المقاهي ودور السينما التي تعرض الأفلام الرديئة بدون توقف. الآن تركوا هذه الأماكن، لأنهم باتوا عاجزين حتى عن مواجهة تكاليفها المالية البسيطة. لقد خرجوا إلى الشارع، بدون إيديولوجيات أو مؤثرات سياسية، للمطالبة بحقوقهم في العمل والأمل، وفي حياة كريمة. إنه تيار البطالة هذا الذي يقود الشارع الآن.

الاثنين، 24 يناير 2011

"بلاطات" لأموالهم؟

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")










"اللص يعتقد أن الجميع يسرقون"
إدوارد هاو كاتب أميركي

 
 
محمد كركوتـي
 
يخرج هذا الحاكم أو ذاك مطروداً من بلاده (وغالباً فاراً منها)، بعد تحرك شعبي أو انقلاب عسكري، وعلى الفور يُطرح السؤال الثاني بعد الأول (الأول هو أين ذهب؟)، كم تبلغ الثروة التي جمعها طوال سنوات حكمه؟ ومن السؤال نفسه يظهر سؤالان. ما هو حجم ممتلكاته غير المنقولة؟ وأين يحتفظ بالأموال. هذا طبعاً إلى جانب الأسئلة التقليدية المتفرعة، حول ثروات أركان الحكم وأفراد أسرة الحاكم والنخبة المنتفعة، التي ينتهي مفعولها بمجرد انتهاء مفعول الحاكم نفسه. ويبقى السؤال الأهم، وهو كيف يمكن استعادة الأموال، وإعادة دمجها بأموال الخزينة العامة، التي –إن لم تكن خاوية- فهي بالتأكيد دون قيمتها التي يجب أن تكون عليها. وفي أحسن الأحوال –وهذا عادة ما يكون نادراً- مضطربة. وفي كل الأحوال، إعادة هذه الأموال إلى أصحابها الحقيقيين، إلى أولئك الذين تمنحهم أموالهم المسترجعة بعضاً من أمل، وشيئاً مما كانوا محرمون منه. ألم يفر هذا الحاكم أو ذاك من المحرومين الذين "صنعهم"؟ ومن المظلومين الذين أوجدهم؟ ومن المحتاجين الذين كدسهم؟

في العالم اليوم، تغيرت (قليلاً وليس كثيراً) قواعد اللعبة الناتجة عن حاكم فارٍ وأموال مسلوبة. تغيرت الطريقة التي تتعاطى بها الدول الكبرى أو تلك التي تعج بالحسابات السرية هائلة القيمة، وبالأرصدة المالية المكونة من تسعة أرقام وما فوق! فأرصدة الحكام الفارين أو أولئك المهيئين للفرار في أية لحظة، باتت تنافس بعضها البعض من حيث الحجم، ومن جهة الأساليب التي جُمعت بها، ومن ناحية سرعة وضع اليد عليها. ويبدو واضحاً من خلال التسريبات وبعض الوثائق التي تكشف بين الحين والآخر، أن الحاكم الفار (أو المقبل على الفرار)، يظل "فقيراً" إذا ما فشل في جمع أموال تحسب بالأرقام التسعة. ومع ذلك، فحتى "الفقير" منهم لا يمكنه العثور على "بلاطة"، يستطيع أن يُخفي أمواله تحتها. فكل "البلاطات" المتوافرة هي تلك التي تستوعب فقط بعضة دولارات تخفيها جَدة لأيامها المتعثرة، أو أم تخبئها لحالة طارئة ليست أكثر من مصاريف المدرسة لا عطلة، أو ملابس الشتاء لا معطف فراء، أو دواء لمرض، لا حبوب للتخسيس.

"البلاطات" الوحيدة التي يمكن أن تستوعب هذه الأموال الهائلة، هي الحسابات في مصارف أشباه الدول (مثل جزر الكيمان و ليختنشتاين وأنجويلا والباهاماس وغيرها)، والدول "الكاملة" وفي مقدمتها سويسرا. ولأن الأمور تغيرت، فهذه " البلاطات" لم تعد مُحكمة تماماً، ليس حباً من جانب الدول المستوعبة للحسابات المشينة، للشعوب المسلوبة، بل لتغير المعايير الدولية في التعاطي مع الأنظمة المنهارة بقوة التغيير الشعبي، ولتبدل المناخ السياسي العالمي. وقد قاومت هذه الدول طوال العقود الماضية، كل المحاولات الرامية لجعلها أكثر إنسانية في مسألة الأموال المنهوبة من الشعوب، وحاولت بكل ما لديها من حجج، أن تُكرس وهْمَ أن الأرصدة المشبوهة التي تعم مصارفها، هل عبارة عن ملكيات خاصة وليست عامة، ولا يحق لأحد التصرف بها إلا صاحبها المباشر! وهي تعرف أن "صاحبها" المباشر لا يريد لأمواله أن تبرح خزائنها. ومن ناحية أخلاقية، فهي بهذا السلوك المشين كانت تشاركه بأموال لا يملكها، وبفوائد لا حق له بها، وبممتلكات كانت لشعب يريد أن يعيش.

ولأن المفاهيم والسلوكيات تغيرت، فقد بدا واضحاً إسراع عدد من الدول الكبرى وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا، بتجميد حسابات مالية محتملة للرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي. وكانت ألمانيا أكثر وضوحاً في موقفها حين أعلنت على لسان وكيل وزارة خارجيتها فيرنر هوير، بأنها تعمل على ألا يصبح الاتحاد الأوروبي بمنزلة ملاذ آمن لثروات مشبوهة. بل وأكد على أنه "في حال حصل اتفاق بين دول الاتحاد، على إجراءات معينة، مثل تجميد حسابات مصرفية فستدعمها ألمانيا". هذا التوجه يؤسس في الواقع إلى مرحلة جديدة أخرى، في مسألة التعاطي مع أموال الأنظمة المخلوعة، ويدفع قادة الأنظمة المرشحة للانهيار في أي وقت، إلى إعادة حساباتها – ليس المصرفية- بل التخطيطية في التصرف بالأموال. فمع الوقت، فإن هذه الأموال قد تتحول إلى عبء على من جناها بغير وجه حق، ودليل مادي على جرائم سرقة الأموال العامة.

وعلى الرغم من تحسن السلوك السويسري في مسألة الأرصدة المشبوهة لا المسروقة، ورغم حرصها على إظهار تعاونها في هذا المجال، بهدف تلميع صورتها، إلا أن تحركها في هذه القضية بالذات جاء دون المستوى المطلوب، وأقل من أن تعثر على آلية لـ "التلميع". فحسب القانون السويسري، فإنه يتعين على الحكومة التونسية الجديدة أن تجري التحقيق الخاص بها، وبعد ذلك تطلب من سويسرا المساعدة القضائية! وهذا يعني أن القضية ستستغرق وقتاً طويلاً قبل أن تجمد الأموال ، علماً بأن سويسرا ( ما غيرها) قررت في السابق من جانب واحد تجميد أموال بمصارفها تخص حكاماً مخلوعين، مثل الرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس, والنيجيري ساني أباتشا، والهاييتي فرانسوا دوفالييه، من أجل كسب الوقت حتى يتسنى لممثلي الادعاء في الدول المعنية رفع دعاوى قضائية لاستعادة تلك الأموال. ولكن في الحالة التونسية، لا يبدو أن الوقت مهم بالنسبة للحكومة السويسرية والمشرعين فيها!

وحتى لو أدركت سويسرا أنه من الضروري كسب الوقت في هذه القضية بالتحديد، فإن نظامها القضائي المالي، بطيء في أدائه، إلى درجة الغيظ، كما أن القضايا ليست مضمونة لصالح حكومة الدول المنهوبة. فقد حكمت محكمة الجنايات الاتحادية السويسرية –على سبيل المثال- بعدم إعادة 7 ملايين دولار باسم حاكم زائير السابق (الكونغو الديمقراطية حالياً) موبوتو سيسي سيكو إلى حكومة كينشاسا، وأقرت بأن تبقى هذه الأموال لمن؟ للورثة! وذلك بعد سنوات طويلة من المداولات. لا شك في أن دولة كسويسرا، تريد أن تكشف "البلاطات" عن الأموال المنهوبة التي تخزنها مصارفها، ولكن دون أن يمسها أحد. لا بأس في النظر إليها فقط! ولهذا السبب أشرت في البداية إلى أن قواعد اللعبة تغيرت قليلاً لا كثيراً. فهناك الكثير من المناورات التي يمكن للدول (وأشباه الدول) الحاضنة للأموال المسروقة القيام بها، في ظل غياب قانون دولي واضح المعالم بهذا الصدد. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن منظمة "أكشن" السويسرية غير الحكومية المعنية بمكافحة غسيل الأموال، أوردت في تقرير لها، أن قيمة الثروات الأجنبية التي تديرها المصارف السويسرية تصل إلى 3000 مليار دولار أميركي! وأن ما بين 30 و40 في المائة من هذه الأموال، هي في الواقع أموال أودعها حكام وثروات ناتجة عن غسيل أموال أو عن فساد!

الأوقات والأوضاع تتغير في قضية الأموال المنهوبة من الشعوب، ولكنها تتغير ببطء. إنها تخرج من جيوب أصحابها الحقيقيين بسرعة البرق، وإن عاد منها شيء، فإنه يعود على ظهر سلحفاة!

الثلاثاء، 18 يناير 2011

قنبلة الغذاء "النووية"

(هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")




" المنزل لا يكون منزلاً إذا كان خالياً من الطعام "
بينجامين فرانكلين أحد مؤسسي الولايات المتحدة الأميركية





محمد كركوتـي

أيهما أخطر على أنظمة الحكم في العالم كله؟ التيارات السياسية المعارضة لها، أم ارتفاع أسعار المواد الغذائية ( ولاسيما الأساسية منها)؟. أيهما أشد وطأة على هذه الأنظمة؟ فصيل سياسي نشط "يقض المضاجع"، أم زيادة بضعة قروش لسعر رغيف الخبز؟. أيهما يهز الاستقرار السياسي (بصرف النظر عن طبيعته، ديمقراطية كانت أم ديكتاتورية)؟ تفجير هنا وآخر هناك تقوم به مليشيا إرهابية ما، أم احتجاج شعبي قد يتحول إلى انتفاضة وبعدها إلى ثورة، التي بدورها قد تؤدي إلى الانقلاب؟. لا مجال للمقارنة هنا. فاحتواء هذا التفجير، أسهل مئات المرات، من الوقوف في وجه احتجاج شعبي عفوي، لا خلفيات سياسية، ولا آليات ميليشيا له. والجدل السياسي العنيف مع هذا الفصيل، أهون آلاف المرات، من انتفاضة شعبية، لا تهدف إلا للحصول على حق المنتفضين فيها بالطعام الممكن، لا الطعام الفاخر، وفي اللقمة المشبعة، لا اللقمة الفائضة أو المتخمة. والشتائم والاتهامات المتبادلة بين النظام ومعارضيه لا قيمة لها، أمام شخص مشغول بحرق نفسه، لأن قيمة رغيف الخبز بالنسبة له، باتت بقيمة علبة فاخرة من الكافيار، ولأن حلمه بعشاء يقي من الموت، مثل عشاء في مطعم "مكسيم" الباريسي الفاخر جداً.

قليلة هي أنظمة الحكم في هذا العالم، التي تفهم هذه الحقائق في وقتها، لا في مرحلة اللاعودة. وقليلة هي تلك الأنظمة، التي تعتبر أن الخبز وسعره، أهم بكثير من حزب المعارضة وقيمته. وإذا كانت هذه المعادلة في الدول الديمقراطية تؤدي حتماً إلى التخلص من الحكومة عبر البرلمان ومجالس الشعب، فإنها في الدول غير الديمقراطية تؤدي بالتأكيد إلى زوال الحكومة عبر الشارع، الذي يتحول (دون تخطيط أو برنامج)، إلى صاحب الكلمة الحاسمة، التي تؤدي بدورها إلى تقهقر سقف النظام، وارتفاع سقف الشارع. إنها معادلة بسيطة، لا تحتاج إلى مُفسِر. فكلما ارتفعت حدة الجوع، ارتفعت معها حدة النقمة، وكلما تأخرت الأنظمة في فهم الأولويات، كلما اقتربت نهاياتها، وفي أحسن الأحوال، كلما زادت هشاشتها تمهيداً لنهايتها.

يعيش العالم اليوم، أسوأ حالة فيما يرتبط بالغذاء، ليس من جهة شحه بل من ناحية ارتفاع أسعاره. وتواجه الحكومات - على المستوى العالمي - مخاطر جمة، تهدد وجودها، بل وتهدد استقرار بلدانها، من جراء الارتفاع المتزايد لأسعار المواد الغذائية الأساسية، إلى درجة بات معها تدخل المجموعات العالمية التي تمسك بزمام الأمور والمبادرة الاقتصادية، أمراً ملحاً، بل وواجباً قبل فوات الأوان. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن أسعار الغذاء ارتفعت في الشهر الأخير من العام الفائت، إلى مستوى فاق الحد الذي وصلت إليه في العام 2008، عندما كان المراقبون يقولون: إنها وصلت إلى معدلات تاريخية، لم يكن يتوقعها أحد!. ولأن الأمر كذلك، فإن المخاوف باتت متعاظمة من انفلات التضخم، واتخاذ إجراءات حمائية، واندلاع قلاقل واضطرابات، وتراجع طلب المستهلكين في اقتصادات ناشئة رئيسة. بعض المسؤولين ( من بينهم رئيس اندونيسيا)، طالبوا مواطنيهم بزراعة غذائهم في حدائقهم الخاصة!. وبعض هؤلاء المسؤولين، قام بالفعل بالزراعة في حديقته الخاصة، ليبرهن لمواطنيه "جدية" المطالب. وكأن كل فرد من شعوبهم يمللك حديقته الخاصة!.

الحقيقة.. أن القضية أكبر وأخطر من ذلك بكثير. كما أنها أعظم من زراعة بضعة حبات من الطماطم والفلفل والخيار. فهي تختص بكيفية الحد من ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية برمتها على المستوى العالمي، والوصول إلى حالة من الأمن الغذائي العالمي، لاسيما في البلدان الفقيرة، التي لا تعاني فقط من ارتفاع الأسعار، بل ومن شح المياه، ومن تراجع الاستثمارات بأنواعها فيها ( بما في ذلك الزراعية)، ومن نقص في الدعم الزراعي المادي والإرشادي أيضاً. يضاف إلى ذلك – وهذه نقطة خطيرة للغاية – أن إجراءات الحمائية الزراعية، تساهم إلى حد بعيد في ارتفاع الأسعار. فقد ثبت أن الأسواق الحرة الخاضعة للضوابط ( لا المفتوحة على الغارب)، هي وحدها التي يمكن أن توفر مواد غذائية أساسية، بأسعار "ممكنة" لا مستحيلة.

إذن.. القضية ليست وطنية أو محلية، وليست إقليمية. إنها قضية عالمية تاريخية بكل معنى الكلمة. ولأنها كذلك، فلابد من تدخل عالمي على مستويات كبرى، ترقى إلى مجموعة العشرين، ولا بأس من مجموعة الثماني. ورئيس البنك الدولي روبرت زوليك، كان على حق عندما أعلن صراحة، "بأن الرد على تقلبات أسعار المواد الغذائية ( والأفضل له أن يقول: ارتفاع الأسعار)، ينبغي أن لا تُعتبر بمثابة مقاضاة أو وقف عمل الأسواق، بل استخدامها بشكل أفضل، ومن خلال إعطاء القدرة للفقراء، يمكن لمجموعة العشرين اتخاذ خطوات عملية نحو ضمان إتاحة المواد الغذائية". والحقيقة أن التدخل الدولي، سيكون ملائماً الآن أكثر من أي وقت مضى، للبلدان الفقيرة، التي تعج بأكثر من 1,02 مليار جائع. كما أنه سيرسم معالم حقيقية لمستقبل الغذاء بشكل عام. وهذه القضية بالتحديد تفوق أزمة الديون الحكومية ومشاكل المصارف الغارقة، بل وتفوق حتى كارثة البطالة. فكل قضية ترتبط باللقمة، هي بمثابة "قنبلة نووية" قابلة للانفجار في أية لحظة. فقد صدق المدير العام السابق لوكالة الطاقة الذرية الدولية محمد البرادعي عندما قال: "إن أسلحة الدمار الشامل الحقيقية، هي في الواقع الفقر والجوع".

لنكن صرحاء لبعض الوقت. لم تنفع قمم الغذاء والمؤتمرات المنبثقة عنها واللجان المُشَكلة منها، طوال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، في الوصول إلى صيغة مُرضية، لعلاج أزمة الغذاء العالمي، من حيث نقصه وارتفاع أسعاره، مع التقدير – بالطبع – لحسن النوايا في هذا المجال (وهي موجودة، بصرف النظر عن زخمها). وأقصى ما وفرته هذه المحافل الموسمية وأدواتها، أرضية هشة، لا تصمد أمام ''أرق'' الأزمات! أرضية تتلاشى مع أول مشكلة، سواء كانت بيئية أو بشرية أو اقتصادية أو سياسية. أرضية يغرق فيها المنقذون، فما بالنا بالمُنقَذين!.

وعلى هذا الأساس، لابد من أن تخرج مسألة الغذاء العالمي من ملفات المنظمات، إلى أيدي الدول التي تملك مفاتيح القرار الاقتصادي العالمي اليوم. فهذه الدول التي ترسم معالم النظام الاقتصادي العالمي الجديد ( ما بعد الأزمة الاقتصادية العالمية)، تعرف بأن النظام المزمع، لن يستقيم أو يحقق خطوات ناجحة، إذا لم يكن نظاماً متكاملاً، يأخذ في الاعتبار مصالح الأسواق المالية وما يرتبط بها، ومصالح البشر الإنسانية المباشرة.

وهل هناك أكثر مباشرة من اللقمة؟!.

الثلاثاء، 11 يناير 2011

هَرِمٌ في عز طفولته

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")







"عمالة الأطفال يجب أن لا تتحول إلى منظومة أمان اقتصادي واجتماعي"
كايلاش ساتيارسي المنسق العام للحركة العالمية المناهضة لتشغيل الأطفال

 
 
محمد كركوتـي
 
إذا كانت البطالة تستحق توصيف أزمة، فإن عمالة الأطفال لا تستحق توصيفاً أقل من مصيبة. وإذا كان الفقر كارثة مُعيبة للمجتمع، فإن القبول بتشغيل الأطفال (كحل متواضع للفقر)، هو بمثابة كارثة مشينة. لا مجال هنا للتوصيفات المعتدلة أو "التجميلية"، ولا مكان للمبررات مهما كانت قوية. ولا مساحة هنا أيضاً، لذلك السؤال المريع: إذا كانت عمالة الأطفال تقلل شيئاً من آلام الفقر.. فهل تؤيدها؟!. وبطرح آخر، إذا كان الطفل يستطيع أن يؤمن من عمله خبزاً لأسرته.. فهل تقف في وجهه؟!. وبصيغة أكثر مباشرة، إذا كانت الأسرة تموت جوعاً.. هل تمنع طفلاً فيها من العمل؟!. أقول لا مساحة لهذا السؤال، لأن الفقر هو بالضرورة عار ارتكبه المجتمع، ومعه الأنظمة القائدة له، ولأن تشغيل الطفل هو بالتأكيد جرم مشين ارتكبه الجميع، إلا الطفل نفسه. وحول هذه النقطة بالتحديد، أتذكر ما قالته طفلة من بنغلاديش، اسمها سلطانا، في الثانية عشر من عمرها تعمل بمصنع للملابس في بلادها. قالت: " لماذا ينبغي علينا دفع فاتورة الفقر؟. نحن لم نصنع الفقر، البالغون هم الذين صنعوه"!!. بعد سلطانا بسنوات، قال أوم باركاش الحائز على جائزة نوبل للسلام :" من حقنا أن يصغي إلينا الكبار – قصد هنا البالغين -. وإذا لم يسمعوا إلينا، سوف نعمل بقوة وثبات وجهد لنجعلهم يصغون".

لابد من الإشارة، إلى أن عمالة الأطفال هي عبارة عن سرطان يصيب كل المجتمعات المتقدمة وغير المتقدمة، وينال من الدول النامية وتلك التي نمت واستقرت نمواً. وكما للسرطان مستويات، بين السطحي والقاتل، كذلك عمالة الأطفال، هي سطحية في المجتمعات المتقدمة، وقاتلة في غيرها. وبما أنه لا تتوفر إحصائيات دقيقة عن حجم عمالة الأطفال في العالم، باعتبارها عمالة غير شرعية، وحراكها يجري تحت الأرض، إلا أن تقارير المنظمات الدولية المستقلة، تتفق على أن عدد الأطفال المنخرطين بأسواق العمل، على مستوى العالم يقدر بنحو 300 مليون طفل وربما أكثر، من بينهم أكثر من 90 في المائة في قارتي آسيا وأفريقيا!. مهلاً.. مهلاً، من بين هؤلاء هناك مائة مليون طفل مشردين في الشوارع، ومليونان يتعرضون للاستغلال الجنسي!. أيضاً.. الغالبية الساحقة من المشردين الأطفال، "يسوحون" في القارتين الأفريقية والآسيوية، اللتان تضمنان كل الدول العربية مجتمعة، مع التذكير – لمن نسي – بأن قوانين دول العالم كلها، تمنع تشغيل الأطفال تحت أي مسميات، وبالطبع تتضمن الكثير من العقوبات على من يخالفها. لكن لا القوانين ولا معايير المجتمعات ساهمت في الحد من هذه الجريمة المتواصلة والمستدامة (التي أصبحت اقتصاداً بحد ذاتها)، بل هناك من يبرر الجريمة على اعتبارها تساهم في تخفيف حالة الفقر المدقع!. لم يسمع هؤلاء ما قاله زعيم التبييت المنفي دالاي لاما (لاما تعني بلغة التبييت "محيط الحكمة"): "إن مشاكل هذا العالم بما في ذلك تشغيل الأطفال والفساد، هي أعراض لأوبئة روحية، وافتقار إلى الرحمة".

للعرب حصة مريعة من "الأطفال الهَرمون"! أو "الأطفال الكبار قسراً"! أو "الأطفال البالغون بقرار"!. تضاف إلى حصصهم الهائلة من البطالة والأمية، وإلى تخلفهم عن بعض بديهيات الحياة نفسها. فقد أقرت سوريا رسميا عن طريق وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، بالعجز في مواجهة عمالة الأطفال. وأقرت أيضاً، بأن نسبة الأطفال العاملين الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و14 سنة، تشكل 4 بالمئة من النسبة الكلية لعمل الأطفال!. وحسب المكتب الإقليمي لمنظمة العمل الدولية، فإن سوريا تعج بـ 650 ألف طفل، يعمل أغلبهم في القطاع الزراعي والمؤسسات العائلية!. وفي لبنان، يقدر عدد "القوى" العاملة من الأطفال بأكثر من 45 ألف طفل، في بلد لا يتجاوز عدد سكانه 4 ملايين نسمة. ولا توجد تقديرات عن أعداد الأطفال الفلسطينيين العاملين الذين يعيشون في هذا البلد. ولا شك في أنها ستكون هائلة. وبالانتقال إلى الأردن، تؤكد دائرة الإحصاءات العامة – حسب إحصاء العام 2007 - بأن عدد الأطفال العاملين في قطاعات الزراعة والأعمال المنزلية وغيرها يبلغ 33 ألف طفل، أي بنسبة 2 في المائة تقريباً من عدد سكان البلاد!. وفي تقرير رسمي يمني، وصل متوسط معدل نمو عمالة الأطفال في اليمن إلى 3 في المائة سنوياً من إجمالي عدد الأطفال العاملين ما دون سن الـ 12 عاماً!. وأن الإناث يمثلن نسبة 51 في المائة من إجمالي الأطفال العاملين، المقدر تعدادهم بـ 3,2 ملايين طفل وطفلة.

وأتوجه إلى العرب في أفريقيا، حيث يصل عدد الأطفال العاملون في مصر إلى مليونين و786 ألف. وطبقاً لوزارة القوى العاملة المصرية، فإن هؤلاء يعملون في ظروف صعبة تعرض حياتهم للمخاطر الدائمة، كما أنهم يعملون فترات طويلة تتجاوز أوقات العمل للكبار. لا مجال هنا للشكوى، لأن العمل غير الشرعي، ليست له ضمانات عمالية شرعية. وأنقل عن المندوبية السامية للتخطيط في المغرب، بأن 16.6 في المائة من "الأطفال الكبار قسراً" في المغرب، يجمعون بين العمل والدراسة، وأن 1. 56 في المائة متسربون من التعليم، بينما لم يسبق لـ3. 27 في المائة منهم الذهاب للدراسة!. وفي الجزائر أظهرت دراسة مسحية أعدها أكاديميون جزائريون، أن عدد الأطفال العاملين يصل إلى 1.8 مليون طفل، من بينهم 1.3 مليون تتراوح أعمارهم بين 6 و13 عاماً، ومنهم أيضاً 56 في المائة من الإناث. في حين أحصت الدراسة 28 في المائة من الأطفال العاملين الذين لا يتعدى سنهم الـ15 عاماً!. وتقدر المؤسسات الدولية والمحلية العربية عدد الأطفال العرب العاملين بأكثر من 13 مليون طفل!. ثلاثة ملايين منهم تقريباً في بلد كمصر!.

والمصيبة، أن هذه الإحصائيات أو التقديرات، تعود في غالبيتها إلى ما قبل انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، التي زادت – كما هو معروف – من المآسي والكوارث الاقتصادية والاجتماعية، في كل بلدان العالم، خصوصاً الدول الفقيرة أصلاً. وقد استغل "المشغِلون المُشينون" تلك الأزمة الحاضرة دائماً، بإتباع أحقر أنواع التشغيل. فقد اكتشفت حكومات في دول غربية، أن بعض المؤسسات والشركات التي تخلصت من نسبة من موظفيها وعمالها، قامت بإحلال أطفال في أماكنهم. فالطفل العامل، يتقاضى أقل ولا يظهر في ملفاتها ضمن لوائح العاملين، وبالتالي لا حقوق له، ولا تأمينات أو ضمانات. فإذا كان هذا التشغيل القبيح تجري في دول متقدمة، تحكم حراكها الاقتصادي قوانين متماسكة ورقابة مشددة تكفل حقوق العاملين، لنا أن نتخيل الأمر في الدول الأخرى!. ولنا أن نشاهد – قسراً – طفلاً يحمل معولاً بدلا من حقيبة المدرسة!. أمام هذا المشهد، لا مجال هنا للنيات الحسنة، والتمنيات الطيبة، والإدانات الإعلامية، والتصريحات الثورية. كما أنه لا مكان هنا أيضاً لدموع صادقة لا تجلب لذارفها إلا احمرار عينيه، ولا تقدم للضحية شيئاً.

في مقال سابق لي، كتبت عن مصيبة عمالة الأطفال، ووصفتها بأنها قضية الأمس.. يحضنها اليوم.. ليقذفها إلى الغد. ومع استفحال المصيبة، خصوصاً على الساحة العربية، أقول: إنها مصيبة ما بعد الغد أيضاً. إنها تغير في " الجينات" البشرية، عن طريق تحويل اليافع إلى هرم، في عز طفولته!.

الثلاثاء، 4 يناير 2011

مهاجرون لإنقاذ اقتصاد أوروبا

(هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")


" ربما نحن نواجه مشكلة في الهجرة، لكنها ليست مشكلة جدية. المشكلة الحقيقية تكمن في القدرة على الاحتواء"
صموئيل هانتيجتون أستاذ أميركي في العلوم السياسية

 
 

محمد كركوتـي
 
لا أعرف إذا كانت الحكومات الأوروبية المختلفة (وهي منغمسة في معرفة مصير بلدانها المالي)، تسمع النصائح التي تظهر بين الحين والآخر، خصوصاً تلك التي لا تتوافق مع سياساتها، أو لا تتناغم مع "آذانها"، بما في ذلك نصائح مؤسسات دولية وأوروبية كبرى، عادة ما تأتي ضمن نطاق تقارير ودراسات، لا تستحق القراءة فحسب، بل التأمل أيضاً. ولا أعرف – على وجه الدقة – كيف تتعاطى الحكومات المشار إليها، مع هذه الدراسات، إذا ما اهتمت بقراءتها. الذي أعرفه – ويعرفه الجميع – أن هذه الحكومات الهشة سياسياً وشعبياً، بدأت في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، تمارس سياسة رد الفعل، أكثر من سياسة الفعل نفسه، وتقبع منتظرة الفعل يتشكل، لتطلق عليه ردودها!. لقد "استعارت" حكومات الدول المتقدمة ( والأوروبية في أساسها)، سياسات حكومات دول متخلفة أو نامية، على مدى عامين من عمر الأزمة الاقتصادية المديد. وأهم ما يمز هذه السياسات أنها بلا رؤية إستراتيجية متكاملة. فالذي لا يصنع الفعل، لا يمكنه عادة وضع استراتيجيات مُعمرة، ولا سياسات تحاكي المستقبل، والجهود التي تُستهلك في رد الفعل، لا تصنع قراراً، ولا تأتي عادة إلا بأنصاف حلول، أو بحلول آنية، سرعان ما ينتهي مفعولها لتذهب بعيداً عن الساحة.

ووفق هذا السلوك السياسي والاقتصادي، تعيش القارة الأوروبية حالة من التخبط، بين سياسة "الصد" وإستراتيجية الغد. والنتيجة هي أن "الصد"، لا يصب في استحقاقات الغد!. وعندما يكون أحد أهم الأهداف هو استمرار الحكومات في السلطة لأطول فترة ممكنة، فإن النتائج لا تخرج عن نطاق " الترقيع" السياسي والاقتصادي. ولعل هذا ما يفسر غضب دولة كفرنسا أو كألمانيا – مثلاً - من جراء تأخر الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة في الدول الأوروبية الغارقة في الديون والبطالة والتخبط الاقتصادي، ويبرر دعوة هاتان الدولتان، بفرض عقوبات على أي دولة أوروبية لا تفي بوعودها في عملية الإصلاح. والمصيبة أن الدول الأوروبية المنكوبة مالياً، تقودها حكومات أضعف من أن تتخذ قرارات وفق مفهوم إستراتيجي. فهي إن فعلت ذلك، فإنها ستغادر السلطة في اليوم التالي. هذه الحكومات، تعيش في الواقع على الاستقطاب الشعبي، من خلال محاكاة العاطفة الوطنية أو القومية، ومن خلال التخلص – على الأقل في هذه المرحلة – من التسامح الذي كانت تتحلى به بلدانها – بصرف النظر عن مستوياته - طوال السنوات التي سبقت الأزمة الاقتصادية الكبرى.

ماذا فعلت هذه الحكومات؟ وضعت مجموعة من القوانين الطاردة للمهاجرين الشرعيين، ومجموعة أخرى مانعة لوصولهم إليها!. والحقيقة أن هذا التصرف، سيمنح الحكومات المعنية مزيداً من "الأوكسجين الشعبي" للبقاء على "قيد" السلطة، ويوفر الحماية – ولو لبعض الوقت – لهشاشة الأحزاب الحاكمة. فهي تعرف أن "تهييج" المشاعر الوطنية، يمنحها بعض الشعبية التي تحتاجها للاستمرار، وليس للاستدامة. لكن الأمر – من منظور إستراتيجي- ليس سوى كارثة مستقبلية محققة. لأن سياستها حيال المهاجرين الآن، هي ببساطة عبارة عن أزمة مؤجلة لها في السنوات المقبلة. وتكفي الإشارة هنا، إلى دراسة خطيرة أصدرتها منظمة العمل الدولية بالتعاون مع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وخلصت إلى أن "الهجرة وإن كانت تساعد في علاج العجز الذي تعاني منه الدول الأوروبية، في الحصول على الأيادي العاملة والمهارات المتخصصة، إلا أنها لا يمكن أن تحل تماماً مشكلة شيخوخة سكان القارة"!. وحسب هذه الدراسة، فإن أوروبا تحتاج إلى 13 مليون مهاجر سنوياً، لتعويض نسبة المسنين المحالين إلى التقاعد، الذين تفوق أعمارهم 65 عاماً، وتثبيت نسبة القوى العاملة في المرحلة العمرية بين 15 و64 عاماً حتى عام 2050. بل يمضي واضعو الدراسة أبعد من ذلك، حين يطالبون "بتنظيم الهجرة بشكل فعال من خلال شراكات وتعاون، بين الدول المصدرة للقوى العاملة والكفاءات البشرية، وبين دول المقصد، اعتماداً على أطر من المعايير والسياسات الدولية".

وأحسب أنه من الضروري الإشارة هنا، إلى أن ما يفيد أوروبا من المهاجرين الضروريين لها، يضر البلدان المصدرة لهم. فهجرة العقول والكفاءات البشرية الماهرة والمتميزة، سيؤدي حتماً إلى نقص في الموارد البشرية، الأمر الذي يعوق التقدم الاقتصادي في البلدان الأقل نمواً. وتستحق هذه القضية وقفة مطولة، لأنها تضع الدول الكبرى أيضاً، أما معضلة أخلاقية وتنموية في الدول النامية، خصوصاً فيما يرتبط بالعقول المبدعة المهاجرة، أو التي تخطط للهجرة باتجاه الغرب، وتحديداً نحو أوروبا. بل أن هناك مشاكل كبيرة أيضاً بهذا الخصوص تواجهها دول أوروبية "جانبية"، مثل ألبانيا وبلغاريا وأوكرانيا. فهذه الأخيرة – مثلاً – فقدت نحو 30 في المائة من علمائها، بمغادرتهم البلاد في غضون العشر سنوات الماضية. مرة أخرى، إن ما يفيد أوروبا بدولها الكبرى عن طريق العمالة الوافدة الضرورية، لا يفيد على المدى البعيد بالتأكيد الدول المصدرة لهذه العمالة.

ومع ذلك، فقد فضلت الدول الأوروبية الكبرى، وفي مقدمتها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، سن قوانين للتقليل من الهجرة العمالية الشرعية. دون أن تأخذ بالاعتبار استحقاقات السنوات المقبلة. فعلى سبيل المثال، أعلنت وزارة العمل والمعاشات البريطانية، أن واحداً من كل خمسة أشخاص في المملكة المتحدة، سيعيش إلى سن المائة على الأقل. وطبقاً لمسح أجرته الوزارة نفسها، فإن 10 ملايين شخص، أو ما يساوي 17 في المائة من إجمالي عدد السكان، سيصبح "مئوياً" في وقت ما مستقبلاً. وحسب تقديرات الوزارة، فإن العام 2066 سيشهد وجود 507 آلاف شخص بين المائة و109 أعوام، إضافة إلى 7 آلاف و700 آخرين فوق سن 110 !. والأمر ليس مختلفاً كثيراً في بلدان كفرنسا وألمانيا وحتى إيطاليا. ومع ذلك وضعت الحكومات القوانين المناوئة للهجرة الشرعية التي ستساهم على المدى البعيد في تخفيف ضغط "شيخوخة" أوروبا على اقتصادها. ولمزيد من الأرقام الإحصائية المخيفة، فإن عدد البالغين من العمر 60 عاماً سيتضاعف بمعدل مليوني شخص كل عام في دول الاتحاد الأوروبي، خلال الـ 25 سنة المقبلة!، وإن أعمار الطبقة العاملة في أوروبا سيتباطأ بشدة، وسيتوقف نمو هذه الطبقة بعد ست سنوات فقط، كما ستتناقص الطبقة العاملة بعد السنوات الست المقبلة، بمليون إلى 1.5 مليون كل عام، وستتزايد شريحة الأعمار بين 65 و79 بمعدل الضعف بحلول عام 2060 !.

ولأن الأمر كذلك، فقد كانت إحدى المحاكم البريطانية، أكثر واقعية وحكمة من حكومتها، عندما قضت ببطلان سقف مؤقت لأعداد العمال المهاجرين المهرة من خارج الاتحاد الأوروبي، لأن الحكومة لم تتشاور مع البرلمان، ولأن القاضي وجد أن القضية تحتاج إلى إعادة النظر بصورة أكثر إستراتيجية، لا آنية أو ارتجالية. ولكن إذا ما نجحت الحكومات الأوروبية – ومن ضمنها الحكومة البريطانية – في تمرير القوانين الجديدة، فإنها بلا شك ستضع بلدانها أمام مصيبة مؤجلة، لن تكون المدة لانفجارها طويلة. كما أنها ستمنح الدول المصدرة للعمالة والعقول فرصة وطنية ذهبية، لكي تعيد النظر في سياساتها الطاردة لمواردها البشرية. وقتها لن تستجدي الدول الأوروبية العمالة، بل ستبحث عن مشرفين يرعون مئات الآلاف من العجزة الذين سيتجاوز عمر الواحد منهم، قرناً من الزمن!.