الاثنين، 25 أكتوبر 2010

هل من عِبر لعلم في الكَبر؟

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")









" عندما تفشل في التحضير.. أنت تحضر للفشل"
بنجامين فرانكلين مؤلف ورجل دولة أميركي

 
 
محمد كركوتـي
 
 
على مدى عقود طويلة من الزمن، كان الغرب يفخر بدوره كمُعلم لهذا العالم وموجه له. كان الغربيون يعيشون متعة "الأستذة"، بكل وسائلها وطقوسها التعليمية. كانوا يرفعون "عصا الأستاذ" في وجه تلاميذه، لاسيما أولئك المشاغبين، أو الذين أرادوا أن يُثبتوا أن البديهيات المعمول بها في العالم، ليست من تلك الطبيعية، لكي تُقبل دون حوار، وليست بديهيات مقدسة غير قابلة للنقاش. كان هؤلاء (الخارجون عن التقليد) يريدون دوراً ليس في "الأستذة"، بل في المشاركة الحوارية المنطقية، بين الأستاذ والطالب، أو بين المعلم والتلميذ. نجح الغربيون في مناح كثيرة، وأضافوا بالفعل لهذا العالم ما كان يحتاجه، واستطاعوا أن يؤسسوا ( ويتسيدوا) علوماً، ما كان لغيرهم القدرة عليها. كانوا يعملون بكل قدراتهم، ليس فقط للابتكار، بل أيضاً ليواصلوا إحساسهم (المستحق) بمتعة التميز، والمتعة الأخرى التي يجرها، وهي “الأستذة". استحق الغربيون هذه الصفة، عن جدارة – بلاشك – لأنهم صنعوا للعمل قداسة، ومعها "الفراسة"، وأنفقوا كثيراً من أجل ابتكارات تخصهم وتخص العالم معهم. ومهما كانت "عنجهية" مشاعر "الأستذة"، فهي لا تُلغي فوائد هذه الأخيرة، خصوصاً إذا ماكانت عامة وقبل ذلك إنسانية.

لكن "الأستذة" الغربية، وإن سادت العالم وقدمت له الكثير من الإنجازات التاريخية، إلا أنها لم تكن على قدر سمعتها وهيبتها ومكانتها ومقامها، في المجال الاقتصادي المستدام. فقد أسست – بعد الحرب العالمية الثانية - لنظام اقتصادي مضطرب أحياناً، وهش في أحيان أخرى، وفوضوي في بعض الأحيان. وقبل هذا وذاك، كان نظاماً اقتصادياً يعاني من فقدان المناعة. فلا ازدهار مضمون دائماً، ولا نمو متوازن مستمر، ولا استقرار له صفة الديمومة. وعلى الرغم من ذلك، تشبث "الأستاذ" بمعايير نظريته الاقتصادية، وحوَلها إلى بديهيات مقدسة، رغم أنها مصطنعة، وكان يقاوم النيل منها بكل أشكاله ( انتقاداً أو دحضاً أو رفضاً)، مُدعياً أنه يعرف المصلحة العالمية، وأنه يعرف الحقيقة كـ "أخ أكبر". وكأن الغرب أراد من خلال هذا السلوك، أن يُصادق على نبوءة الأديب البريطاني الشهير جورج أورويل، الذي أوردها في روايته "1984"، والتي كتبها في العام 1948، بأن "الأخ الأكبر – يقصد الأنظمة الكبرى- يراقبك، وهو يعرف مصلحتك أكثر منك"!.

بعد الأزمة الاقتصادية العالمية انقلب المشهد، بعدما قلبت كل شيء في هذا العالم، وأوجدت معايير، كانت ( قبل ثلاث سنوات) تدخل في خانة المستحيلات. فالمُعلم انسحب من أمام "السبورة"، ليجلس في مقاعد التلاميذ!. وسلَم عصا "الأستاذية" لهم ومعها "الطباشير". لم يعد لديه ما "يتأستذ " به، بعد سبعة عقود فاصلة بين الحرب الثانية والأزمة العالمية، شهد خلال العالم سبعة انهيارات اقتصادية، أي انهيار واحد في كل عقد من الزمن!. وعندما يتحول المُعلم إلى تلميذ، ينبغي مراجعة كل ما قدمه هذا المُعلم لتلاميذه، ويجب مراجعة كل المُسلمات التي أدخلها عنوة في عقولهم. وهذه الحالة لا ينطبق عليها مقولة "أن التلميذ تفوق على مُعلمه"، بل " أن التلميذ حدد أخطاء مُعلمه وكشفها"، ولو بعد سنوات طويلة، من علوم اقتصادية، هي في الواقع، سلوك اقتصادي غير راشد. سلوك كان الوهم في صلبه.. لكي لا نقول غير ذلك!. فقد أثبت الغرب صحة مقولة لـ ألان لاكين المؤلف الأميركي المتخصص بشؤون الإدارة، مشابهة لمقولة بنجامين فرانكلين " أن الفشل في وضع خطة، هو خطة للفشل".

في ظل هذا التحول التاريخي الجديد، تحولت الدول الناشئة إلى "مُدرس" للاقتصاد، لمن؟ للدول الغنية الراسخة، وتحديداً الدول الغربية!. وتحت ضربات الأزمة الاقتصادية العالمية، أدركت الدول الغربية الثرية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، أن لدى دول كالصين والبرازيل والهند، ودول أخرى ذات اقتصادات سريعة النمو، ما يمكن أن تتعلمه في مجال اجتياز الأزمة بمصائبها وتبعاتها التي لا تنتهي. فقد عرف الغرب الذي انطلقت منه الأزمة الكبرى، أنه عاجز عن حلها، بالمعايير التي كانت سائدة قبلها، في الوقت الذي يرى فيه ( وبصورة يومية)، كيف يتحول الاقتصاد العالمي من جهة الغرب إلى جهة الشرق، وكيف استطاعت دول ( فتية وفق المفهوم القديم)، أن تقفز بخطوات واسعة، باتجاه الخروج من الأزمة. واعترف بعض الغربيين العادلين، أن من حق دول الأسواق الناشئة – إن جاز التعبير – أن تحظى بمكانة توازي، ليس فقط قوتها المتعاظمة، بل أيضاً خبرتها في التعاطي مع الأزمات. وهذه لوحدها ينبغي أن تكون بمثابة ميزة أساسية، لكي تكون لهذه الدول كلمتها المسموعة في المنظمات والتجمعات الدولية المختلفة، وفي مقدمتها "مجموعة العشرين" و "صندوق النقد الدولي"، بالإضافة طبعاً إلى أهمية أن يكون لها منبر، تقدم من فوقه خبراتها لتلك الدول التي لا تزال "ألعوبة" للأزمة وتداعياتها.

لا مجال للكبرياء الغربي هنا، ولا ومكان لـ "اجترار" ماض اقتصادي أليم، ولا وقت لمراجعة معايير اقتصادية عالمية قديمة، لم تعد صالحة للمستقبل، كما لم تكن صالحة في الماضي أيضاً. الأمر الجيد هنا، أن الحكومات الغربية من الضعف بحيث لا يمكنها أن تتعالى، ولا تستطيع أن تُكابر. يكفي عليها أن تستعرض استفحال ديونها، وانعكاساتها على مصداقيتها، لكن تنضم إلى "الصفوف الدراسية" الاقتصادية الجديدة، ولكي تتعلم من تجارب الدول الناشئة، بعد أن كانت تصنعها. والشيء الجيد الآخر، أن نسبة المعترفين الغربيين بـ " خطايا" الغرب الاقتصادية، تزداد حتى في معاقل اليمين، الذي كان يتعالى في السابق، بنظام اقتصادي، ترك الأسواق تهيم على وجهها بممارسات مشينة. ماذا حدث؟.. أكل النظام أسواقه"!!. فقد ظهر ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا، ومعه رئيس فرنسا نيكولا ساركوزي، ومستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل، (جميعهم من اليمين المحافظ)، كـ "ثوريين" اقتصاديين!. جنحوا إلى المجتمع، الذين وجدوا فيه الملاذ الطبيعي الآمن لهم.

للمؤسسات الدولية كبرى دور أساسي في توفير "المدارس" الاقتصادية للغرب. ويمكنها أن تقوم فعلاً بخطوات عملية في هذا الاتجاه، ليس لفائدة الدول الناشئة، بل لمصلحة الدول الغربية الهائمة على وجهها. وبوسع صندوق النقد الدولي ( يضم 187 دولة)، أن يكون "المدرسة" المثالية، شرط أن يتخلى الغربيون عن تمسكهم بقوتهم التقليدية، التي لم تعد تنفع فيه. يضاف إلى ذلك، أن متطلبات مواجهة الأزمة، لا ترتكز فقط على إعطاء الدروس المفيدة للغربيين، بل تقوم أيضاً على العمل الجماعي، لا المحلي ولا الوطني، وعلى ضرورة مراجعة صارمة للاقتصادات العالمية – لاسيما الغربية منها– لكي لا تفلت من التدقيق. فقد اكتسب صندوق النقد على مدى ستة عقود، سمعة لا تليق به، وهي أنه يتحدث بصوت عال، لكنه لا يملك السلطة لإجبار الدول على الأخذ بنصائحه أو دروسه. الصورة تغيرت الآن، وأصبح هناك مدرسون عمليون لا نظريين. ما يحتاجونه فقط هو "صف دراسي"، لا يقدمون نظريات "مفذلكة" فيه، بل يعرضون تجارب واقعية للنجاح، على الأستاذة السابقين. وأفضل طريقة لتحقيق الأهداف، هي أن يكون صندوق النقد الدولي، هو " ولي أمر" التلاميذ الجدد، فقد كان هؤلاء بلا " أولياء أمور" على عقود من الزمن، ولم يكن هناك من يُعاقِب!.

الثلاثاء، 19 أكتوبر 2010

المخابرات الاقتصادية

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")









" كل إنسان محاط بجيران يتطوعون للتجسس عليه"
جين أوستن أديبة بريطانية




محمد كركوتـي


رغم أن الوقت ليس وقتها، فهي موجودة. ورغم أنها تسبب وبالاً لا حصر لتداعياته، فهي حاضرة على الساحة العالمية. ورغم أنها يجب أن تكون خارج "اللعبة"، وخارج الحراك الاقتصادي الهش، فهي آخذة بالازدهار والانتشار في كل الأرجاء، وتتخذ أشكالاً مختلفة، ولكن بهدف واحد محدد. إنها آفة في أوقات النمو، ومصيبة في أزمنة المحن والكوارث. إنها ليست جديدة على الساحة، بل قديمة قِدم الاقتصاد نفسه، واستمرارها وتجددها، لا يعرض الاقتصاد العالمي إلى الخسائر (الخسائر أحاطت به من كل جانب، وأصابت كل قطاع فيه)، ولكن يصيب التحرك الدولي، لتأسيس منظومة اقتصادية خالية من الشوائب و"الجراثيم"، في مقتل، أو على الأقل، يُبطئ الخطوات باتجاه الوصول إلى مثل هذه المنظومة التي يحتاج العالم وجودها، بأسرع وقت ممكن، وبأعلى درجات الشفافية والنزاهة، وبأقل قدر من المكاسب المحلية الآنية. فقد نال الاقتصاد العالمي ما يكفي من المصائب، نتيجة لممارسات تعاطت مع النزاهة كـ "مرض"، وأساليب كانت النزاهة معها، مجرد شوائب تم التخلص منها بقوة، وأفكار هدامة كانت على مدى سنوات طويلة، محل تقديس!.

إن المرض المتجدد، ليس سوى ما يمكن تسميته بـ "المخابرات الاقتصادية"، أو " التجسس الاقتصادي"، بكل قطاعاته وميادينه. إنه مرض كان ينبغي أن ينتهي مع انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، لأنها – وإن جلبت المصائب – فقد أتت بمحفزات جديدة، في مقدمتها، ضرورة التعاون الدولي للوقوف بوجهها، والتخلص من آثارها، والقضاء على "الثقافة" التي ولدتها، وقبل هذا وذاك، إنشاء نظام اقتصادي جديد، لن تستوي أحوال العالم يستكمل بناؤه، ولن تتوقف المصائب المتوقعة بعيداً عنه، ولن نشهد أياماً مزدهرة، إذا ما ظل خارج الساحة. نحن نعلم أنه في كل أزمة، هناك أشياء إيجابية ليست كثيرة، ولكنها كافية – على الأقل – لتمنح الواقعين فيها مساحة لمعالجتها (ومراجعة ما كان من أجل مستقبل أفضل سيكون)، لكي لا نقول: مواجهتها. ومعالجة هذه الأزمة بالذات، لن تحقق النجاح، إذا لم يتم التخلص نهائياً من "السلوك الاقتصادي" المشين، الذي صبغ العالم بصبغته لمدة تزيد عن عقدين من الزمن، وكان نتاجاً طبيعياً لمبادئ ما بعد الحرب العالمية الثانية، بظلمها وفوضويتها وتسيبها.. وحتى "فجورها".

إن "المخابرات الاقتصادية" ليست حكراً على طرف دون الآخر. فالكل مارسها ويمارسها، وإن بدرجات متفاوتة، وآليات متباينة القوة، وسلوكيات مختلفة. فالغرب يمارسها والشرق أيضاً. والمؤسسات الكبرى والصغرى تمارسها أيضاً. هذه " المخابرات"، أفرزت – بصورة طبيعية – عمليات تجسس نالت من كل شيء، تجارياً وصناعياً وخدماتياً وسوقياً، وبالطبع مصرفياً. فجواسيس الحروب والنزاعات العسكرية، ليسوا لوحدهم الآن، تماماً مثلما لم يكونوا لوحدهم في السابق. فزملائهم الاقتصاديون ينشروا على الساحة. وكما للمخابرات التقليدية فروع وأقسام، لـ "المخابرات الاقتصادية" شركات ومؤسسات، تقدم خدماتها لمن يدفع، بصرف النظر عن شرعية جلب "المنتج" الاستخباراتي!. فالعاملون – الجواسيس – فيها، لا يعتبرون عملهم مشين أو غير شرعي. بل هناك – في الولايات المتحدة الأميركية – من تحدث علناً، بأن ما يقوم به، هو واجب وطني، للدفاع عن "المصالح الاقتصادية" لبلاده!. فقد استوى عنده التجسس بهدف الأمن القومي، مع التجسس بهدف تدمير شركة أو مؤسسة، أو على الأقل سرقة معلومات تشكل أساساً لإنتاج هذه الشركة أو تلك!. وقد توازت عنده أيضاً، معايير التنافسية القائمة على الإبداع والابتكار وبالتالي النجاح، وسرقة الآخرين من أجل خوض التنافسية!. لا مكان للأخلاق هنا. إنها قضية أصغر من أن تحظى بأدنى اهتمام!.

والحقيقة أن المخابرات التقليدية في الدول المتقدمة والناشئة، انضمت هي الأخرى إلى زميلاتها "الاقتصادية"، تحت المسمى العريض والفضفاض والهلامي، وهو " الأمن القومي"!. ولا نعرف – في هذا العالم السري – من يعطي الدروس لمن؟. المعروف أن الأدوات الاستخباراتية، قد تختلف بعض الشيء، لكن في النهاية تصل أو تقترب من الهدف المشين نفسه. قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، كانت المخابرات الألمانية واضحة حين نشرت تقريراً، عن التجسس الاقتصادي الهادف إلى جمع المعلومات التكنولوجية والعلمية والابتكارية، أكدت فيه وجود مئات من الجواسيس الإسرائيليين والصينيين والأميركيين والسلوفاك والتشيك والبولنديين وغيرهم، فضلاً عن جواسيس (عملاء) لأجهزة المخابرات الغربية كلها، منتشرين في كل الدول المتقدمة منها والنامية. وطبقاً لهذا التقرير، فإن الكل يتجسس على الكل، في جميع المجالات الاقتصادية، بما في ذلك، الأسواق القديمة، وفتح أسواق أخرى جديدة!. وفي العام 1993، جاء في تقرير للأمن القومي الكندي، أن الأسرار العلمية والأبحاث التقنية الكندية، التي استغرق إعدادها سنوات، وكلفت أموالاً طائلة، سُرقت ونُقلت إلى شركات ومصانع خارج البلاد. واستناداً إلى التقرير نفسه، فجواسيس الاقتصاد في 25 دولة على الأقل، يقودون حرباً خفية ومدمرة، دون أن يهتموا بأدنى معايير النزاهة الاقتصادية!.

والمصيبة التي تواجه العالم الآن، أن هذه الحرب لم تتوقف في أعقاب الأزمة، التي يُفترض أن تكون هدفاً لحرب عالمياً شاملة، يشترك فيها القوي والضعيف. ويقول ألستر نيوتون المسؤول السابق لـ " الحرب الإلكترونية" في وزارة الخارجية البريطانية: " مادامت التكنولوجيا متاحة، فمن الإنصاف القول إن الحكومات استخدمتها على الأقل أحياناً لأغراض تجارية. في الماضي اتهم الفرنسيون البريطانيين بالتجسس على صناعتهم الدفاعية والعكس صحيح. وكانت اتهاماتهما مبررة". وقد اعتاد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون على الإعلان في بعض المناسبات، بأنه يجب على الدبلوماسيين البريطانيين أن يقوموا بالمزيد من الجهد، من أجل الترويج لأنشطة الأعمال البريطانية في الخارج، لكنه – بالتأكيد - لم يكن – ولن يكون – واضحاً حول ما إذا كان ذلك يعني، أن على الجواسيس البريطانيين أن يقوموا بنفس المهمة.

وبعيداً عن الاشتباه التاريخي – والحالي أيضاً – للدول الأوروبية تجاه الشبكة البريطانية – الأميركية أو "الأنجلو سكسونية"، بأن هذه الأخيرة قد تستخدم أحياناً ضدها. وبعيداً أيضاً عن فحوى تقرير برلماني أوروبي خطيرة صدر في العام 2000، وتحدث عن شبكة عالمية قوية تابعة لواشنطن ولندن، مخصصة لرصد إشارات المخابرات، من أجل التجسس الصناعي، فإن العالم لن يخرج من أزمته الراهنة، إذا ما استمر هذا السلوك المريع والمشين. كيف يمكن لـ "متضامنين" في حرب واحدة ضد "عدو" محدد ومعروف، أن يتجسسوا على بعضهم البعض؟!. كيف يمكن لهؤلاء، أن يتفقوا على منهجية اقتصادية عالمية جديدة، تقي دولهم والعالم ومعها، من أزمات كبرى مقبلة، إذا ما ظل التوجس بينهم قائم؟!. وهل ينجح حليفان في تحقيق أهدافهما، إذا ما كانت الريبة هي التي تسود العلاقات بينهما؟!.

يقول بيتر رايت رجل المخابرات البريطاني السابق، وصاحب الكتاب الشهير "صياد الجواسيس" الذي نشره في منتصف ثمانيات القرن الماضي، ومنعته حكومة مارجريت تاتشر من التوزيع في بريطانيا: "عندما أردت الانضمام للعمل كجاسوس لصالح المخابرات البريطانية، قيل لي عليك أن تتجرد من أخلاقك، إن وجدت لديك". ولمن نسي، فقد كان غياب الأخلاق، العامل الأكبر في انفجار أزمة صرعت العالم أجمع.


الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010

الاقتصاد العالمي.. إلى الشرق دُر

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")








" القوة ليست فقط ما تملك.. ولكن ما يعتقد العدو أنك تملك"
ساول ألينسكي كاتب وناشط اجتماعي أميركي



محمد كركوتـي


يجري في هذا العالم تحول تاريخي، لا يقل أهمية عن التحولات التاريخية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ولن يقل أثراً عنها. تحول، كان قبل ثلاثة أعوام فقط، أقرب إلى الدراما غير الواقعية، وإلى قصة بالغ كاتبها في تقدير الأشياء، وفي إعطاء أبطالها أكثر مما يستحقون. فقد أثبتت الأزمة الاقتصادية العالمية ( بالإضافة إلى مصائبها التي باتت معروفة)، أنها مُولِد مرتفع "الإنتاج" للتحولات التاريخية.. لا الآنية، وللتبعات القاسية ( بل والقاضية أحياناً).. لا العابرة أو "اللطيفة". فمن كان قبلها كبيراً، لم يعد كذلك، ومن كان صغيراً، بات يقف جنباً إلى جنب من كانوا كباراً، أو من تصدعت عظمتهم. بل أصبح جزءاً أصيلاً، ليس فقط في الحراك الاقتصادي العالمي، بل في رسم اللوحة النهائية المقبلة لهذا الاقتصاد. كانت أوروبا والولايات المتحدة الأميركية قبل الأزمة، سيدتا صنع القرار الاقتصادي ( والسياسي) العالمي، وأصبحتا بعدها، مشاركتان ( قويتان بالطبع) في عملية الصنع هذه. ورغم الظلم في أن صنع القرار الكامل، كان في أيدي دول الغرب في أزمنة الازدهار أو الانتعاش أو الطفرة، ولم يكن للدول الأخرى دور يُذكر، إلا أن الأزمة فرضت عملية تصحيح في هذه "الصناعة"، وإن دمرت الصناعات الأخرى. فنحن نعلم، أن الأزمات تحمل معاول الإصلاح، تماماً كما تحمل آليات التدمير. وكلما كانت تاريخية، كلما كانت التحولات التي "تُنتجها" بحجم تاريخيتها. وهل من أزمة أخرى، يمكن أن توازي الأزمة الحالية، في استحقاقاتها التاريخية، وتبعاتها المستقبلية، وهمومها الآنية؟!.

باتت السرعة التي يخرج بها اقتصاد ما في هذا العالم من مطبات الأزمة، مؤشراً واضحاً لمدى قوة هذا الاقتصاد، وقابليته على الاستدامة، ومرونته في أوقات المحن والمصاعب. وعلى العكس تماماً أصبح البطء في خروج اقتصاد آخر منها، علامة أكثر من واضحة، على أنه ليس ضعيفاً فحسب، بل يعاني "موروثات" اقتصادية، كانت حتى وقت قريب، جزءاً أساسياً من عظمته. فما كان ينفع قبل الأزمة، أصبح حِملاً ثقيلاً بعدها. وعندما يكون "الحامل" هشاً، لنا أن نتخيل فداحة هذا الحِمل، ومدى ضرورة التخلص منه، بأسرع وقت ممكن. فالأزمة كانت أسرع من كل آليات صدها، وأقوى من كل الدفاعات الموجودة على الأرض. فهي من تلك التي تُخرب من دون رحمة، وتدمر من دون أن تترك معولاً واحداً لإعادة البناء. وقد اعترف المخربون الاقتصاديون أنفسهم، بأنهم لم يتوقعوا أزمة، يمكن أن تُحدث مثل هذا الدمار. لا عجب، فهؤلاء لم يكونوا يتوقعونها أصلاً، وكانوا يعيشون في وهْم نمو اقتصادي، لا يأتي إلا في الأحلام.

التحول التاريخي الذي "أنتجته" الأزمة، ليس أقل من تحول ميزان القوى من الغرب إلى الشرق، وتحديداً من أوروبا إلى آسيا. أي من معقل صنع القرار الاقتصادي، إلى معقل صنع الاقتصاد. ولأن القوة باتت تحسب بالقدرة على الخروج من الأزمة الاقتصادية، لا بالتاريخ الاقتصادي، ولا بمعايير اتفاقيات "بريتون وودز" التي أُطلقت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي دمغت اقتصاد العالم بختمها، فقد تعافت اقتصادات القارة الآسيوية بسرعة، في حين لا تزال دول الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة، تعيش معاناة تبدو طويلة، من ارتفاع العجز في موازناتها، وازدياد البطالة، وانخفاض معدلات النمو. وقبل أربع سنوات فقط، كانت دول الغرب تحب أن تقوم بدور "الحكيم والمرشد" للدول الآسيوية، خصوصاً بعد انهيار ما كان يسمى بـ " اقتصادات النمور الآسيوية"، إلا أنها ( بعد الأزمة) "تقاعدت" عن القيام بهذا الدور. كيف لها أن تستمر بدورها، وهي غارقة في بحار من المشاكل الاقتصادية، إلى درجة هددت بانهاير بعض الدول فيها، تحت وقع الديون الحكومية (السيادية) والفوضى الاقتصادية، والهشاشة الشعبية لحكوماتها، وفقدان بوصلة الخلاص الاقتصادي؟!.

ما كان يُصنف تحت بند المفارقات، لم يعد كذلك الآن، وما كان من المستحيلات، أضحى وراداً. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن رئيس الوزراء الصيني وين جياباو، تعهد للمسؤولين اليونانيين الذين يعشون أسوأ أيامهم السياسية والاقتصادية والشعبية أيضاً، بأن تقدم بلاده المساعدة لهم، وأن بكين سوف تشتري سندات اليونان، فور طرحها في السوق. وهذا الرجل القادم من جهة الشرق، لم يكتف بهذا التعهد، بل بات يقدم "المحاضرات" للدول الغربية، في كيفية مواجهة أزماتها الاقتصادية. إنه يتحدث من موقع القوة التي اكتسبتها بلاده من جراء نجاح مواجهاتها لتداعيات الأزمة العالمية، ومن آليات اقتصادية، لم تكن موجودة قبلها. لقد بلغ الأمر حداً، دفع المسؤولين الأوروبيين، إلى التوسل لنظرائهم الصينيين، بأن يساعدوهم، عن طريق تشديد قبضتهم على العملة الصينية اليوان. لماذا؟ لأنها تخفيف القبضة تؤثر بصورة سلبية على الاقتصادات الغربية. لقد أصبحت المساعدة في أيدي الصينيين، لا الأميركيين ولا غيرهم. الأميركيون أنفسهم يحتاجون إلى المساعدة الصينية في هذا المجال. وما قاله مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الاقتصاد أولي رين، يمثل حالة توسل غربية أخرى. فلترغيب الصينيين يقول : "إن وجود اقتصاد أوروبي قوي يصب في مصلحة الصين لأن الاتحاد الأوروبي هو أكبر سوق تصدير لها. وإذا استمر اليورو في تحمل عبء غير متناسب، فإن هذا قد يؤدي إلى ضعف التعافي الأوروبي".

آسيا تحولت بالفعل ( لا بالقول)، إلى محرك لنمو الاقتصادي العالمي، بينما يخشى العالم من انهيارات جديدة قادمة (مرة أخرى) من جهة الغرب. ليس مهماً في هذا المجال ما يقوله المسؤولون الآسيويون، بقدر أهمية ما يقوله نظرائهم الغربيين. فقد اعترف رئيس وزراء لوكسمبورج، جان كلود يونكر، بأن أداء النمو الصيني مؤخراً، كان عاملاً مهما في التغلب على الأزمة المالية والاقتصادية العالمية. إنها نقطة أخرى لصالح آسيا، وإشارة جديدة إلى أن الأمور لن تعود كما كانت قبل الأزمة. وذهب رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني أبعد من ذلك حين توقع أن يتفوق اقتصاد الصين على اقتصاد الولايات المتحدة، في السنوات القليلة المقبلة. هذا الطرح يأتي قبل أيام من تسجيل الولايات المتحدة ثاني أعلى عجز في موازنتها العامة، منذ الحرب العالمية الثانية. فقد بلغت في أيلول/ سبتمبر الماضي 1,29 تريليون دولار أميركي، أو ما يعادل 8,9 في المائة من مجموع الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في العام الجاري!.

إن تحول ميزان القوة الاقتصادي من الغرب إلى الشرق، لا يستند فقط إلى مدى سرعة نجاة القارة الآسيوية من براثن الأزمة، بل من مجموعة جديدة من التحالفات الاقتصادية، وحكمة جديدة، وُلدت من المحنة. قد يحتاج الأمر مزيداً من الوقت، لكي تستكمل آسيا بناء مركز الثقل العالمي فيها، لكن بالتأكيد تحولت عناصر القوة إليها في الأشهر الماضية، ومعها معايير جديدة، لا ترتبط بما كان، بل متشابكة بما سيكون. وهذا ما يحتاجه العالم الآن، لكي يخرج من أزمة وُلدت في الغرب، لكنها لم تترك مكاناً في العالم، لم تصل إليه. أزمة صُنعت من " مواد أولية" - انتهى مفعولها - تعود إلى ستة عقود، لكنها أتت تحمل معها أيضاً "مواد أولية"، تاريخ مفعولها بلا حدود.


الثلاثاء، 5 أكتوبر 2010

ثورة العاطلين.. وفقدان الوظائف!

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


" شيء حسن أن الأمة لا تفهم كيف يعمل نظامنا المالي. لو فهمت بالفعل، لكانت هناك ثورة قبل صباح الغد"
هنري فورد الصناعي الأميركي

 
 

محمد كركوتـي

هل يقف العالم الغربي ( ومعه ربما غالبية دول العالم) على أعتاب ثورة اجتماعية – عمالية كبرى، على مبدأ الظلم الاقتصادي؟. هل يستطيع هذا العالم، تحمل مثل هذه الثورة، في وقت يحاول فيه لملمة تبعات أفعال الذين سيطروا على مقدرات القرار المالي والاقتصادي العالمي طوال عقود من الزمن؟. وهل يمكن لهذه الثورة المتصاعدة، أن تحقق ما فشلت فيه الحكومات؟. وهل يمكن أن نرى على الأرض المعايير التي يسعى إليها العاطلون عن العمل، وأولئك المرتعدين من إمكانية فقدان وظائفهم، ومعهم بالطبع الذين قُلصت مداخليهم قسراً، لا فشلاً في أداء واجباتهم؟. أسئلة كثيرة تحوم في الأفق الغربي على وجه التحديد، تزداد كلما ارتفعت حدة برامج التقشف التي أعلنتها الحكومات، لاحتواء ما أمكن من مصائب الأزمة الاقتصادية العالمية. إنها من تلك الأسئلة، التي تجعل من النوم حلماً لدى صناع القرار، لا ممارسة بشرية طبيعية. إنها من تلك التي تطرح قضية معقدة أخرى، في زمن العُقد الشاملة، تدور حول "الجريمة والعقاب"، وحول الظالم والمظلوم، وحول الفاسد والنظيف، وحول الحقوق وآكليها!. تدور أيضاً حول علاج المرض، بل حول تحديد المرض نفسه. فلا علاج ينفع لمرض، اختُلف على تشخيص مسبباته، بل اختُلف حول طبيعة مسبباته!. وهذا آخر ما ينتظره المعالجون الأكفاء، إن وجدوا في هذا الزمن.
في كتابي الأول عن الأزمة الاقتصادية، الذي صدر في العام 2009 تحت عنوان " في الأزمة"، تصورت كيف أن المفكر الشيوعي كارل ماركس، سيبتسم ( لو كان حياً) من جراء فشل النظام المالي المولود في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكيف كان المفكر الاقتصادي الرأسمالي ( جداً) آدم سميث سيحاول الاختباء، ويتوارى عن الأنظار، خوفاً من رمية حجر أو بيضة فاسدة أو طماطم معفنة. وعلى الرغم من فشل الفكر الشيوعي الشمولي، إلا أن فشل الفكر الرأسمالي "السميثي"، كان أكثر وبالاً على العالم، لأنه كان يقود هذا العالم "بشمولية" رأسمالية. فالأول أضر بمحيطه وانسحب من الساحة، والثاني أضر بالعالم كله، ولا يزال موجوداً على الساحة!. ولذلك يمكننا أن نفهم "ابتسامة" ماركس المجازية، ونفهم في الوقت نفسه، اختباء سميث المجازي أيضاً. أما المفكرين الاقتصاديين الرماديين، فلا مكان لهم الآن. إن العالم وقع في أزمة سوداء، لا مساحة لبقية الألوان فيها. ولعل الأديب البريطاني الشهير جورج أورويل، استطاع في أربعينات القرن الماضي، أن يُلخص حالة العالم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، عندما قال: "لا الثروة ولا العادات ولا الإصلاح ولا الثورة، قربت المساواة الإنسانية ملم واحد". وقد وَصَف بيج رينسي الصحافي والكاتب الأميركي، الجانب الأخطر( وهو البطالة) من الأزمة الاقتصادية العالمية قبلها بعقود، حين قال: " عندما أفقد وظيفتي، أفقد الإحساس بهويتي، في أقل من 15 دقيقة".
الثورة الاجتماعية التي يشهدها العالم، جاءت نتيجة تراكم مجموعة من التحولات، بدأت بنمو مشاعر "الوطنية الاقتصادية"، ثم "القومية الاقتصادية"، لتتطور بصورة خطيرة إلى مشاعر "العنصرية الاقتصادية". ومع استكمال مراحل التطور هذه، برزت مشاعر "التمرد الاقتصادي"، على من؟ على الحكومات التي تسعى من خلال خطط التقشف القاسية، أن يدفع المجتمع ( لاسيما بعماله وعمالته) ثمن أخطاء المصرفيين الكبار الذين ارتكبوا الأزمة، والذين استطاع عدد كبير منهم، أن ينجوا بفعلته دون محاسبة!. أو الذين " قتلوا القتيل ومشوا في جنازته". لا بأس في أن يساهم المجتمع في حل المشاكل الاقتصادية التي يمكن أن تظهر بين الحين والآخر، لأن ذلك جزء أصيل من الحراك الاجتماعي، لكن المصيبة أن الذين وقعت على عاتقهم حل المشكلات، لم يكونوا المسببين لها، ويشعرون بأن القوانين التي تضعها حكوماتهم، لاستعادة السيطرة على الاقتصادات الوطنية، هي أشبه بقوانين " قرقوش"، أي محاسبة أو تغريم الضحية، لا الجاني!. وأن عليهم أن يتقشفوا، من فرط فحش المصرفيين، ووهِم الازدهار، وفوضى الاقتصاد، التي سادت السنوات السابقة للأزمة الكبرى.
التقشف يعني على الفور البطالة، ويعني أن العالم سيشهد كل عام انضمام 213 مليون شخص إلى زملائهم العاطلين أصلاً عن العمل، ويعني – حسب مكتب العمل الدولي – أن عودة مستويات العمالة إلى ما كانت عليه قبل الأزمة، لن تتم قبل العام 2015، ويعني أيضاً وأيضاً، مشاكل ومصائب اجتماعية، لن تستطيع -حتى الدول الكبرى - احتوائها. والحقيقة أن الدول التي تواجه مشاريع ثورات اجتماعية، أطلقت برامج التقشف، بعد أن أوقفت برامج التحفيز، التي كانت توفر بعضاً من المواساة للشعوب التي اكتوت بنار الأزمة. وكل هذا يعني، أن الاضطرابات السياسية والاجتماعية، ستتواصل على مدى الخمس سنوات المقبلة. ومن المشاكل أيضاً، أن غالبية الحكومات ( ولاسيما في العالم الغربي)، ليست مستقرة شعبياً بما يضمن لها الاستمرار في السلطة، الأمر الذي سيجعل من البرامج والمخططات التي وُضعت للخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية، عرضة للمناوشات الحزبية، وللاستقطاب السياسي، في الوقت الذي تحتاج فيه هذه الدول، حكومات وطنية، أكثر من احتياجها لحكومات الحزب الواحد.
ونظرة سريعة على بعض الإحصائيات التي توصلت إليها مؤسسات متخصصة، بما في ذلك مكتب العمل الدولي، تكفي لتعطي صورة حقيقية للمستقبل القريب، الذي يمثل أساساً للمستقبل البعيد. فهناك أربعين في المائة من طالبي الوظائف في 35 دولة تتوفر فيها إحصاءات حقيقية، لا عمل لديهم منذ أكثر من عام، أي ما يوازي 10 في المائة عن عام 2009 لوحده!. ولمزيد من الفداحة، قرر في العام الماضي أكثر من 4 ملايين عاطل، التخلي عن البحث عن وظيفة!. فقد دخل هؤلاء في عالم اليأس، الذي سيقودهم إلى عالم الضياع، الذي سيقود بدوره المجتمع، إلى الاضطراب. وبنظرة سريعة أخرى، يمكن أن نلحظ الاضطرابات الاجتماعية في 25 بلداً، منها بلدان من العالم الأول، لا العاشر!. يمكن أن نرى المظاهرات والاعتصامات، في مدن مثل باريس وبروكسل ولندن وبرلين وأثينا ومدريد، لا في داكار ولا هراري ولا أبوجا، ولا مقديشو، ولا أديس أبابا!.
مرة أخرى، هل هذا بمثابة مقدمات لثورة اجتماعية عالمية؟. وهل ستتوازى هذه الثورة فيما لو استكملت أدواتها، مع حجم كوارث الأزمة الاقتصادية العالمية؟. هل حل موعد دفع الفاتورة الاجتماعية، التي لا توجد حكومة في العالم تستطيع الوقوف في وجهها؟. هذه الأسئلة وغيرها، ستلقى إجابات لها في غضون الخمس سنوات المقبلة، وهي فترة ما بعد البركان، الذي انفجر بفعل قوانين وقرارات ورؤى اقتصادية، كان مجرد المس بها، يعني الكفر، عند "المُلهمين" الاقتصاديين، ومعهم "المُلهمين" السياسيين. لم ينفجر هذا البركان أبداً بفعل قوانين الطبيعة.

الجمعة، 1 أكتوبر 2010

قمة الفقر.. "قمة" في الفقر!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")






" إذا كان العالم الحر لا يستطيع إنقاذ الفقراء الكُثر، لا يستطيع إنقاذ الأغنياء القلائل"
جون كينيدي الرئيس الأميركي الراحل





محمد كركوتـي


أستطيع الشعور "بمشروعات" أسئلة عند رب ( أو ربة) أسرة في إحدى الدول الفقيرة، بعد سماعه بانتهاء القمة العالمية المخصصة لمناقشة الفقر وتبعاته ومصائبه، التي عُقدت في نيويورك. الأسئلة هي: هل سنستطيع الحصول على المياه الصالحة للشرب الآدمي؟ وهل سنتمكن من الوصول إلى اللقاحات الضرورية ضد الأمراض والأوبئة؟ وهل بمقدورنا أن لا نرسل أطفالنا إلى العمل بدلاً من المدرسة؟. هل سيقل عددنا نحن الجياع؟. هل سنرى عوناً للتنمية أكثر من العون الغذائي؟. هل ستحول الدول المانحة حقاً مساعداتها المتردية بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية، لنا مباشرة بدلاً من حكومات بلادنا؟. الأسئلة لم تنته بعد. لماذا ينجح العالم بعقد صفقات سهلة، لبيع وشراء وسمسرة السلاح، ويفشل في صفقة وضع شروطها هو، من أجل تقليل عدد الفقراء والجائعين، والأطفال الذين يحملون المعاول، بدلاً من حملهم لحقائب الكتب؟. لماذا علينا أن ندفع فاتورة أزمة لم نرتكبها. أزمة لا دخل لنا بها. أزمة فُرضت علينا، نحن الذين لا نعرف الفرق بين المصارف الاستثمارية ومصارف التجزئة. بل نحن لا نعرف حتى شكل "المصارف الصحية"، لأن المجاري لدينا لا تزال مفتوحة. ولعله يقول: ليتها أصيبت بالعدوى وأُغلقت، كما أُغلقت مئات بل آلاف المصارف المالية حول العالم!.
أستطيع أن أشعر، بأن "مشروعات" الأسئلة هذه، بلا نهاية. تماماً مثل عدد الجياع في العالم، الذي بدأ برقم معروف، ولا أحد يمكنه أن يحدد الرقم الذي سيصل إليه. لماذا؟ لأن قادة العالم، الذين يسعون للحد من الفقر والجوع، لن يستطيعوا إيقاف العدد المتنامي لسكان هذا الكوكب، الذي من المتوقع أن يصل بحلول العام 2050 إلى تسعة مليارات نسمة، سيفوق "عديد" الجياع والفقراء الجدد، "زملائهم" السابقين!. وبمعادلة بسيطة، إذا فشل العالم في برامج الألفية ( الجميلة نظرياً)، سيصل عدد الجياع ( لا الفقراء)، إلى قرابة الملياري نسمة، وسيصل عدد الأطفال المحرومين من التعليم إلى 120 مليون طفل تقريباً، وسيصل عدد الأشخاص الذين يموتون يومياً من الجوع إلى 45 ألف، وعدد الأطفال الذي سيموتون ( يومياً أيضاً) لنفس السبب إلى قرابة 18 ألف!.
للإمبراطور الفرنسي الشهير نابليون بونابرت، مقولة صادمة، لكنها واقعية. ماذا يقول؟ :"إن الدِين هو الذي يمنع الفقراء من قتل الأغنياء". وبعده قال الممثل والكاتب الأميركي الساخر وليم دانكينفيلد: " إن الرجل الثري، ليس إلا رجل فقير يملك مالاً". فالأول تناول النقمة، المرفوضة بلا شك، ولولا الإيمان بالله لارتكبت الجرائم، والثاني اعتبر أن الثراء لا يعني امتلاك المال. وإذا كان جون وولدين المدرب الأميركي الشهير لكرة السلة، يعتبر أن " القدرة هي ثروة الإنسان الفقير"، فإن "ميكنة" هذا الإنسان، لا تقع على عاتقه فقط في هذا العالم المتشابك، الذي أصابت أزماته على مدى عقود من الزمن، "الأبرياء الاقتصاديين" – إن جاز التعبير-. وإذا كانت الدول الكبرى "شاركت" في الماضي الدول الصغرى في ثرواتها ( لكي لا نقول أكثر من ذلك)، فمن الإنصاف أن تشارك هذه الأخيرة الدول الكبرى، بشيء ما. لا أقول الثروات، بل أقول بمساعدات ومنح وخبرات ونوايا حسنة، تبني اقتصادات.. لا تؤسس لصدقات، وتجلب تنمية.. لا معونات، وتستهدف المستقبل.. لا تنحصر ضمن ظروف آنية.
قمة الفقر ( أو قمة مراجعة أهداف الألفية) التي جمعت 140 رئيس دولة في نيويورك، كانت "قمة" في الفقر!، مع الاعتراف بوجود نوايا حسنة، ودون أن ننسى الإشارة إلى سماع الكلمات الجميلة، خصوصاً من القادة البلاغيين قولاً أكثر مما هم بلاغيون عملاً. والجميع يعرف، بأن البلاغة لم تؤمن لأبلغ شاعر عربي في التاريخ (أبي الطيب المتنبي)، الحد الأدنى لرغبته الكبرى. ولو حُولت كلمات القادة إلى مال يُصرف وتنمية تُحَقَق وأمل يُدْرَك، لتحققت أهداف الألفية قبل موعدها، حتى في ظل أزمة عالمية اقتصادية كبرى. والحقيقة المُرة، هي أن عدم التزام الدول الكبرى بتعهداتها لتنفيذ أهداف الألفية، بدأت قبل الأزمة الاقتصادية، ولم تنفع كل التوسلات من أجل أن تحترم بعض هذه الدول وعودها. لقد تحولت الأزمة عندهم إلى ما يشبه حائط المبكى، ولا ينقصهم سوى "طاقيات يهودية"، وشعور مُجدَلة ليكتمل المشهد السريالي!. وإذا ما استمر هذا المشهد، فإن العام 2015 الذي حدده العالم في سنة 2000 ليشهد انخفاض عدد الفقراء في هذه الأرض إلى النصف، لن يكون سوى عام، مليء بأفواه بشرية مفتوحة، تتزايد على مدار الدقيقة، بنفس سرعة تناقص مؤشر الأسهم الأميركية ( وغيرها)، عشية انفجار الأزمة العالم!.
أمام القادة البلاغيين والواقعيين، والشعوب العطشى إلى كل شيء، خمسة أعوام لمعرفة ما إذا كان بالإمكان توفير مياه الشرب ( لا أقول الطعام) لمن؟ لربع سكان الكرة الأرضية، وتوفير الحد الأدنى من الخدمات الصحية لمن أيضاً؟ لـ 2,5 مليار إنسان!. فإذا كان العالم ( بأمواله الحقيقية والوهمية) فشل حتى الآن في الوصول إلى مَقرِبة من أهداف الألفية، علينا أن نتخيل سرعة سيره نحو هذه الأهداف، بعد أن تبخرت الأموال بكل توصيفاتها!. ولمن نسي، تنحصر أهداف الألفية، بخفض الفقر المدقع في العالم إلى النصف، وتطوير التعليم، والمساواة بين الجنسين، ورعاية الأمومة، ومكافحة وفيات الأطفال والايدز والملاريا وحماية البيئة. المريع في الأمر، أن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون – ولأسباب واقعية مُرة – اعتبر أنه بالإمكان إنقاذ 16 مليون شخص بحلول العام 2015!. يا له من رقم مشين، تبدو بلاغة الكبار الكلامية معه، كبلاغة المغني شعبان عبد الرحيم الشعرية!. تبدو كلماتهم متكسرة، تعف أي لغة عن احتوائها. فأمام هذا الواقع، عليهم أن يزيلوا كلمة " سنقوم"، ويستبدلوها بكلمة "نقوم"، وعليهم أن يستعيضوا ( في هذا الزمن بالذات) عن المضارع بالحاضر. فالمضارع – في خضم المصيبة الإنسانية العالمية – لم يعد ذا معنى، بل تحول إلى "فعل" مضحك.
المفارقات الإنسانية العالمية، صاحبتها في "قمة المراجعة" مفارقات إجرائية مشينة بالفعل. ففي الوقت الذي حقق فيه موضوع " التمويلات المبتكرة"، عن طريق فرض رسوم على بطاقات السفر جواً، وعلى قطاعات السياحة والإنترنت والاتصالات الخلوية، تقدماً في نطاق جمع الأموال، لإضافتها إلى المساعدات العامة، وعلى الرغم من أن هذه "التمويلات المبتكرة" تتضمن أيضاً الصفقات المالية، إلا أن أياً من الدول الكبرى، لم تفرض أي رسوم على هذه الصفقات!. هل اعتبر القادة "البلاغيون" أن المصارف التي ارتكبت الأزمة، ضحية؟!. أرجو أن لا يُجبروا الأمم المتحدة، على وضع خطة "ألفية" جديدة، لإنقاذ مؤسسات مالية، تستحق أن تُغلق إلى الأبد، بل وأن تُحاسب قضائياً وقانونياً وإنسانياً.
مرة أخرى، لا ننكر حسن النوايا لدى من يرغب في توفير الخبز – لا كافيار ولا الأسماك المدخنة -، لكن العالم تعلم أن حسن النوايا، تنفع في أوقات الازدهار، أكثر مما تنفع في أزمنة المحن. ما يحتاجه الجائعون الآن، "حسن أعمال قوية"، تقلل من أحكام التاريخ، على أولئك الذين لا يفرقون، بين محتال وقع من فرط أعماله القبيحة، وإنسان وقع من فرط شح كوب ماء صالح للشرب الآدمي!.