الثلاثاء، 27 أبريل 2010

مُنقِذون عاجزون؟!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")





" الديون والأكاذيب عادة ما تختلط مع بعضها البعض"
المؤلف والكاتب الفرنسي فرانسيس رابيلايس



محمد كركوتــي

لا .. ليست مبالغة. وعندما ننفي المبالغة، لا يعني بالضرورة أننا من محبي التشاؤم، أو من مناصري الإحباط، أو من مؤيدي الإرباك، أو من مروجي الهموم، أو من أولئك الذين لا يرون سوى الجانب المظلم من مشهد فيه أيضاً جانب مضيء، يحتوي على شيء يمكن التأسيس عليه (بصرف النظر عن هشاشته). ليست مبالغة التحذيرات الآخذة بالانتشار في كل الأجواء، من أن الديون السيادية national debt ( لا أعرف كيف تكون هناك سيادة مع الديون؟!)، ربما تفجر أزمة اقتصادية عالمية جديدة. التحذيرات الأقل حدة ( أو الأقل رعباً)، تتحدث عن مرحلة جديدة من الأزمة الاقتصادية، بسبب هذه الديون، التي فاقت كل التقديرات، ووصلت إلى مستويات، لم تصل إليها حتى في عز الحروب الكبرى والصغرى!. دول ثرية بسمعتها، لكنها "ثرية" أيضاً بديونها. دول ثرية بديونها، لكنها فقيرة بسمعتها!. كلها تحت الهم ترزح، وضمن المشاكل المتوالدة تعيش. كل واحدة منها، تسعى إلى إخراج ما يمكن إخراجه من قَدمِها، من محيط الأزمة التي لا تزال مسيطرة على الحراك الاقتصادية – وإن بدرجات متفاوتة – مثل سيطرة "الأخ الأكبر" The big brother ( الذي سماه -ولم يبتكره- الأديب البريطاني جورج أورويل)، على المجتمعات بناسها وحياتها ومستقبلها. هذه الدول لا تختلف بديونها، عن ديون الأفراد الذين كُبلوا بها، لتتحول بعد ذلك إلى أزمة لم تحدث من قبل، وإن كانت كل الاحتمالات مفتوحة لتَحدُث في المستقبل، خصوصاً في ظل البطء، بتصحيح المسار الاقتصادي العالمي، لاسيما الجانب المالي منه، الذي عَمَتُه الجريمة بآثامها.

الديون السيادية ( ولنقل الحكومية لأنها أبلغ توصيفاً)، ليست مصيبة قائمة بذاتها فقط، بل كارثة على ماذا؟.. على المحاولات والإجراءات الهادفة إلى الوصول إلى أقرب مستوى للاستقرار المالي العالمي. إنها تتفاعل في وقت يحتاج فيه العالم، إلى وجود حكومات أقل مديونية، وأكثر قوة - سياسياً واقتصادياً وتشريعياً.. وحتى إجرائياً – لإزالة أدران الأزمة الاقتصادية، ووضع نظام مالي، لا يشبه ذاك الذي وفَر مقدمات الأزمة، وعصف بالعالم على مدى سبعة عقود من الزمن، وقضى على ما يمكن تسميته بـ " الوجدان الاقتصادي"، ودحر الأخلاق التي كان يجب أن تشكل صرحاً أصيلاً، في النظام الاقتصادي ككل.

قد تكون بعض المخاوف من الأزمة العالمية زالت، وأخرى في طريقها إلى الزوال، بصرف النظر عن المدة الزمنية ( وهي ليست قصيرة). لكن المخاوف المتعاظمة باتت تسيطر على الموقف من الموازنات العامة العاجزة لدول كبرى، كانت في السابق تملك "أسلحة" بمقدورها تخفيف العجز، أو سده برمته. الذي يحدث الآن، أن الحكومات المُنقذة للمؤسسات المالية، والمطالَبة بمواصلة عمليات الإنقاذ والتحفيز والإسناد، غارقة بالديون. وظهر هذا بوضوح من انخفاض قيم أصول المصارف والمؤسسات المالية في الربع الأول من العام الجاري إلى 2,3 تريليون دولار أميركي، بينما بلغت قيمة هذه الأصول في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي 2,8 تريليون دولار. أي أنها تراجعت بمقدار 100 مليار دولار شهرياً!. إلى ماذا يؤدي هذا؟ يؤدي – حسب صندوق النقد الدولي – إلى إطالة فترة انهيار الائتمان، وسيجعل الأنظمة المصرفية وغيرها من الأنظمة المالية، في مهب الريح مجدداً، وسيُبقي بالطبع على هشاشة مستوى الائتمان.

المخاوف لا تُحدق فقط باقتصاد اليونان المتشبثة بكل المنقذين. ولا تخص أيضاً دولاً مثل أسبانيا أو لاتفيا أو البرتغال. بل باتت جزءاً أساسياً من الحراك الاقتصادي في الولايات المتحدة الأميركية واليابان وبريطانيا. فديون هذه البلدان الأخيرة تبدو خارج مجال التصديق. الولايات المتحدة تخضع لديون تصل إلى 95 % من ناتجها القومي، وتعيش بريطانيا بديون وصلت إلى 57% من ناتجها، أما اليابان فقد وصلت ديونها إلى قرابة 200% من ناتجها!. وللتذكير يرتفع الدَين العام في الولايات المتحدة، بمعدل 3.79 مليار دولار أميركي في اليوم الواحد، منذ سبتمبر/ أيلول من العام 2007 !!. والديون تعصف أيضاً بدول كبرى أخرى مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وغيرها من الدول التي تتسلم حالياً زمام المبادرة والأمور في إصلاح الاقتصاد العالمي، وخصوصا النظام المالي فيه. إنها أزمة ضمن أزمة، علماً بأن الأزمة الاقتصادية، لم تكن السبب الأول لها. فقد كانت هذه الديون تتعاظم – وإن بمستويات أقل – حتى قبل أن تأتي هذه الأزمة، وتجلب معها الخراب للإنسانية كلها.

يقول المؤلف الروماني ببليلوس سيروس: " الديون.. هي عبودية الأحرار". وحكومات الدول الكبرى – قبل الصغرى- تعيش عبودية غير مسبوقة في هذا المجال. فهي تسعى – كغيرها من الحكومات – إلى البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة، بصرف النظر عن مدى استقرارها السياسي، المتأثر سلبا من عدم استقرارها الاقتصادي. إنها حقاً تعيش عبودية، بينما تجد صعوبة في العثور على من يتعاطف معها، وذلك لسبب واحد فقط، هو أن هذه الحكومات، تركت الحبل على الغارب لـ "أفاقي" السوق، ولمروجي الوهم، ولبائعي أوراق لا قيمة لها، ولـ "مُلَهمين" صَدموا هم أنفسهم، من فداحة "إلهامهم"!. الحكومات في منطقة اليورو، تنظر بقلق وتوتر إلى مستقبل " التصحيح" الاقتصادي اليوناني، لاسيما وأنها منخرطة في عملية التصحيح هذه. وزاد القلق أكثر، عندما لم يستبعد جان كلود يونكر رئيس مجموعة اليورو "يوروغروب"، أن تجد بلدان أخرى من منطقة اليورو نفسها في وضع مشابه لوضع اليونان، ومضى أبعد من ذلك حين طالب بضرورة إصلاح المعاهدات الأوروبية لإنشاء آلية خاصة بمنطقة اليورو، لتسوية مثل هذه المشاكل في المستقبل. فهو يرغب بوجود آليات، تجنب أوروبا من الغوص في بحار الديون. وإذا كانت اليونان (بعجزها الاقتصادي) أحدثت هزة عنيفة، ضربت أوروبا وأثرت على بلدان خارج محيط هذه القارة، فإن عجز متطابق العوامل ( والحالة) يضرب الولايات المتحدة أو بريطانيا أو اليابان أو ألمانيا، سيحدث زلزالاً، لن ينجو منه أحد. ولنا أن نعرف – حسب منظمة "التعاون والتنمية الاقتصادية" – أن الدول الثلاثين الأكثر تقدما في العالم، ستشهد ارتفاعاً في ديونها 100%، من إجمالي ناتجها المحلي في العام 2010، وهو ما يمثل ضعفي ديونها تقريبا في غضون عشرين عاما!.

لرسام الكاريكاتير اللبناني – السويسري باتريك تشاباتي، رسمٌ لخص فيه فداحة الديون الحكومية، ليس فقط في الوقت الراهن، بل في المستقبل. فقد رسمَ مجموعة من المسؤولين الغربيين، يقرأ أحدهم بياناًَ جاء فيه :" إننا نشكر أحفادنا، لأنه لولا أموالهم، ما كانت عمليات التحفيز والإنقاذ ممكنة"!. وبالفعل لخص هذا الفنان الكارثة، بهذه الجملة المفيدة جداً. فالديون الحكومية، الناجمة بصورة رئيسية عن عمليات الإنقاذ، التي تطلبتها الأزمة الاقتصادية، التي بدورها جريمة ارتكبها المنقذون أنفسهم، ليست ديون المرحلة، بل ديون المستقبل. فكل طفل يولد الآن، يخرج إلى الدنيا وهو مَدين بأموال لم يقترضها، وبالتأكيد لم ينفقها!.

إنها جريمة متكاملة شاملة. ضمت في "أحضانها" الأطفال وفي محيطها البالغين على حد سواء، وأصابت العالم أجمع بكارثة ليست طبيعية، بل "كارثة مُصنعة"!.



الثلاثاء، 20 أبريل 2010

العالم الثالث السابق!

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")











" العالم الثالث ليس حقيقة.. إنه فكرة"
الفيلسوف الأميركي حنا آرنديت

 
محمد كركوتــي
 
على دول العالم الثالث أن تفرح، وعليها أن تَسعد بتقدمها صفا أمامياً واحداً. عليها أن تعترف للأزمة الاقتصادية العالمية، ببعض "الجميل" في تحركها الطبقي نحو الأعلى. عليها أن تتخلص من مشاعر "الدونية" ولو قليلاً. عليها أن ترفع من صوتها بكل ما تمتلك من قوة، في وجوه "كاتمي الصوت". عليها أن تردد تلك الأغنية الشهيرة للشاعر والمغني الأميركي بوب ديلان " الأوقات تتغير" The Times They Are a-Changin . عليها أن تُذكِر العالم – لاسيما الذين كانوا أقوياء في المُطلق – بما قاله يوماً رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرتشل : " إن الأمم القوية ليست عادلة، وعندما ترغب في أن تكون عادلة، تكون قد فقدت قوتها". على دول العالم الثالث، أن تغتنم التحول التاريخي الذي أحدثه الاقتصاد لا السياسة، والذي جعل من الكبير أقل شأنا، وأكثر اضطراباً، ومن الصغير رقماً، لم يكن محسوباً في السابق. عليها أن تتخذ سياسات توازي التحولات، وأن تعمل على " إنضاج" نفسها وفقاً للمستجدات التاريخية. لقد ظلت هذه الدول عقوداً من الزمن، تسلك طريقاً بلا مسارب، ودرباً بلا نقطة علاَم واحدة!. ارتضت برقمها الثالث الذي حدده الآخرون لها. ربما اعترضت مرة أو مرتين.. لكن لم تجدد اعتراضاتها بعد ذلك. قبلت بالتصنيف، دون أن تسأل عن واقعية ومعايير المُصنِف!.

إذا كانت السياسة والنظم غير الديمقراطية كرست تصنيف العالم الثالث، على اعتبار أن العالم الأول – مثلاً- يمارس السلوك الديمقراطي في حياته، فإن الاقتصاد هو الذي بدأ بدفع التوجهات إلى إلغاء "الرقم الثالث" في عالمه. وهو بالتحديد ما دفع رئيس البنك الدولي روبرت زوليك إلى الإعلان عن أن " مفهوم العالم الثالث القديم، لم يعد قائماً، وأن الدول الغنية ( الصناعية) لا يمكنها فرض إرادتها على الدول النامية التي أصبحت الآن محركات رئيسية للنمو العالمي". كيف توصل حاكم بنك " الأثرياء والفقراء" إلى هذه النتيجة التاريخية بكل معنى الكلمة؟. قام باستعراض بسيط للحراك الاقتصادي في بعض الدول النامية على مدى السنوات الماضية، "واكتشف" أن التقدم الاقتصادي في هذه الدول، كان له آثار عميقة على التعاون الدولي والتعددية وعمل مؤسسات مثل البنك الدولي. "واكتشف" أيضا، أن الاقتصادات الناشئة ستلعب دوراً أكبر، من العودة مجدداً للتركيز على مصالح ذاتية. ولمن نسي – ومن بينهم زوليك – فإن الدول المَعنية في العالم الثالث هذه، بدأت بلعب دور كبير على الساحة العالمية منذ سنوات. أي أنها تجاوزت حالة أو توصيف "ستلعب". لا يرغب مكتشفو "الحقيقة" الجديدة، أن ينظروا لعالم جديد من منظور قديم. والواقع أن الحائط الأخير في "صرح" المنظور القديم، دُمر عملياً وواقعياً مع أول تفجير جاءت به الأزمة الاقتصادية العالمية، "المصنوعة" من جهة الغرب لا الشرق، والمتُشكلة من مفاهيم المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، التي لا دخل لـ " العالم الثالث" في نشوبها، لكنه احترق بنارها، من جملة حرائق العالم.

هل سيفهم الغرب (المُصنِف) خطأ تصنيفه؟ أم أن بقاياه من المنتصرين السابقين، سيحاولون الاحتفاظ بالمنظور القديم بأطول مدة ممكنة ؟ هل سيقتنع الغرب، بأن سياسة الإشراك، لم تعد مطلباً، بل أضحت حقيقة واقعة ماثلة أمام الجميع؟. هل سيستفيد العالم من الفترة المتبقية للرئيس الأميركي باراك أوباما في البيت الأبيض، لتكريس هذه الحقيقة، لاسيما وأنه بدا من دعاتها؟. الواضح أن عدداً متنامياً من "المنتصرين القدماء" الذي ملكوا زمام كل مبادرة دولية، باتوا يعرفون أن التغييرات العالمية ليست مرحلية أو عابرة، بل حدثت ( وتحدث) لتبقى، ولتؤسس لمفهوم جديد فيما يرتبط بصنع القرار الدولي. ومع تزايد تأثير الدول الناشئة في الحراك الاقتصادي العالمي، واشتراكها في صياغة الحلول ( لا تزال بعيدة عن الاشتراك الذين تستحقه في صنع القرار)، لن يكون سهلاً على أي من الدول ذات المفهوم القديم، أن تقاوم وجود اللاعبين الجدد على الساحة. فهؤلاء لم يكن مسموحاً لهم، حتى بالجلوس على مقاعد "الاحتياط". لقد كانوا مثل أولئك الذين يحضرون مباراة لكرة القدم، لا يقومون بأي شيء سوى التشجيع!.

عندما ابتكر المؤرخ الفرنسي الفريد سوفيه مصطلح "العالم الثالث" في العام 1952، لم يشر إلى أن مصطلحه هذا سيصلح في كل زمان، وإن كان يعرف المكان. فقد أطلقه في وقته، على اعتبار أن دول العالم الثالث لم تستفد من الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. ولأنها كذلك، فهي دول نامية، أو دول متخلفة. ولكن السؤال الذي كان ينبغي أن يُوجه إلى سوفيه : لماذا لم تقم الدول الصناعية أو تلك المنخرطة في التصنيع آنذاك، في نشر "الاستفادة" من هذه الثورة؟! علماً بأن الغالبية العظمى من الدول التي "حملت" الرقم ثلاثة، كانت مجرد مستعمرات للدول الصناعية. إن هذا المصطلح كان ظالماً، لأن "النفحات" الصناعية وقتها، كانت محجوبة عن هذا العالم، الذي لم يكن يملك حتى صنع القرار الاجتماعي في بعض دوله، فكيف الحال بصنع القرار الاقتصادي أو التنموي أو الصناعي؟!.

الآن.. يتحدثون عن أن أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ، ستحقق متوسط نمو يتجاوز الستة في المئة بحلول العام 2015 بينما ستشهد منطقة جنوب آسيا - حيث يعيش نصف فقراء العالم - نمواً بنسبة تصل إلى سبعة في المئة سنوياً خلال الفترة نفسها. وأن التغييرات العالمية الهائلة لا تحدث فقط في دولة مثل الصين والهند. وهذا يعني أن أي مبادرة (أو تحرك) ، ستكون بلا قيمة، إذا ما استبعدت هذه الدول عن ماكينة صنع القرار العالمي. كيف يمكن تجاهل دوراً للصين والهند والمكسيك والبرازيل وماليزيا والفلبين وتايلاند وجنوب أفريقيا في هذا المجال؟. كيف يمكن تجاهل دور المملكة العربية السعودية التي تشهد نمواً متوازناً، وتستأثر بأكبر احتياطي نفطي في العالم، وتساهم مالياً بصورة كبيرة في المؤسسات الدولية، بما في ذلك البنك الدولي؟!.

لقد أظهرت مجموعة العشرين – على سبيل المثال – قدرة فائقة على مجابهة الأزمات، وقوة متعاظمة في صياغة ووضع الحلول. وأثبتت أن القرارات التي فُرضت على مدى عقود من قِبل الدول التقليدية الكبرى، لم تؤد إلا إلى مجموعة من الكوارث، وجملة من المصائب، إلى جانب مشاعر الأسى عند الدول المُتلقية لهذه القرارات. في هذا الزمن سوف يؤدي أي تجاهل لدول "العالم الثالث" الناشئة والمؤثرة في الاقتصاد العالمي، إلى دفعها للسعي وراء مصالحها الوطنية الأضيق. وهذا ما يخشى منه رئيس البنك الدولي، لأن ذلك سيترك " الفريق" تحت رحمة "لاعبين كهول"، لن يسجلوا أهدافاً، وإن فعلوا فسوف يسجلونها في مرماهم!.

إن مفهوم " العالم الثالث"، ينبغي أن ينتهي ليس إعلامياً ولا إنسانياً فحسب، بل سلوكياً أيضاً. المجال الآن مناسب لـ " تغيير الأرقام"، تمهيداً لإلغاء "الطبقية الاقتصادية العالمية". في هذا العالم لم يعد هناك مكان للنخبة، ولا مساحة لمُتسيد، ولا فسحة لكبير. هناك ساحة للجميع.

الثلاثاء، 13 أبريل 2010

بطالة عربية فتية.. لكنها مُعمِرة!


(هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")







" الجوع ليس الشكل الأسوأ للبطالة.. إنه الفراغ "
المؤلف والكاتب الأميركي وليام باريت

 
محمد كركوتــي
 
تستحق قضية البطالة في العالم العربي، صفحات دائمة في الصحف العربية، وفترات مستمرة في وسائل الإعلام الأخرى. وتستحق أن "تحتضنها" دراسات وبحوث أكثر واقعية، ومستندة إلى قاعدة بيانات أكثر حداثة من تلك المتداولة على الساحة. وتستحق أن تبقى ملازمة لصناع القرار، وكل المؤسسات المعنية بالتنمية والحراك الاجتماعي – الاقتصادي. فهي ليست قضية موسمية، ولن تكون في المستقبل بهذه الصفة. كما أنها تلتصق بقوة بالهم المعيشي، اليومي لا السنوي. بل هي صانعة أصيلة للهموم، أينما وجدت. هي "سرطان"، يكبر إذا لم يُقاوم، وينتشر إذا ما كانت المقاومة أكثر ملامسة للضعف، منها إلى القوة. هي بؤس مرحلي إذا كانت مرحلية، وكارثة إنسانية إذا كانت دائمة. هي حالة مشينة للمجتمع، قبل العاطل نفسه. فكما لهذا المجتمع أو ذاك الحق، في الحصول على الطاقة الإنتاجية لأفراده في كل المواقع، كذلك للأفراد الحق في الحصول على فرص، توفر لهم الكرامة، وتمنحهم الأدوات للقيام بدورهم الوطني والاجتماعي.

المصيبة في قضية البطالة العربية، أنها وصلت إلى مستويات مرتفعة، في أوقات الازدهار والنمو، وفي أزمنة الكساد والركود. وبذلك خلقت معادلة اقتصادية غريبة، ليس لها مثيل في العالم كله. ولأن الأمر كذلك، فقد أحدثت ( ولا تزال) إرباكاً في عمليات علاجها – إن وجدت -، وضربت بكل المحاولات الرامية للتقليل من آثارها. فنحن نعرف أن حلها ليس بالأمر السهل، لأنه لا يأتي بقرار ( أو قرارات)، بل من خلال منظومة اقتصادية تنموية وطنية شاملة، تساندها منظومة إقليمية مشابهة، ولا بأس من دور لمنظومة دولية. فبعد اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، بات من الصعب ( إن لم يكن من المستحيل) فصل الاقتصادات عن بعضها البعض، لاسيما تلك التي ترتبط بوثاق إقليمي. والحل المنشود لأزمة البطالة، لم يكن ( ولن يكون) حلاً وطنياً صرفاً، بل هو "كوكتيل" من الحلول، الجانب الوطني فيها (لاشك) أساسي.

المصيبة الأخرى في هذه القضية، أن البطالة "استحوذت" على الشباب العربي، أي أنها ببساطة عطلت المستقبل، في حاضر مليء بالأعطال. حاضر يعج بسياسات مضطربة في بعض البلدان العربية، ومتعارضة في بلدان أخرى، مع استحقاقات التنمية. حاضر فاقد للتناغم بين متطلبات السوق ومخرجات التعليم. وهذه النقطة بالتحديد ساهمت بصورة كبيرة – إلى جانب الأزمات الاقتصادية المحلية والدولية – في ارتفاع معدلات البطالة في الدول العربية، ووصولها إلى أعلى مستوى بين الشباب عالمياً!. والجانب المريع في تحديد معدلات البطالة العربية، أنه لا توجد إحصاءات حديثة، وتقوم المؤسسات المهتمة بهذا الخصوص، بوضع دراساتها وفق إحصاءات جرت قبل خمس سنوات!. أي أن الضحايا الذين أوقعتهم الأزمة الاقتصادية العالمية، ليسوا في الحسبان، وإن كانت هناك تقديرات، يصعب الاستناد عليها، في بحث هذه القضية الخطيرة. والغريب، أن القمة العربية الاقتصادية الاجتماعية التي عُقدت في الكويت مطلع العام 2009، ناقشت دراسة قُدمت لها، بعنوان "تحديات التنمية في الدول العربية نهج التنمية البشرية" بُنيت أساساً، على إحصاءات من العام 2005، بل هناك بعض الإحصاءات (قُدمت إلى القمة) أُجريت في العام 2003!.

لن أستعرض هذه الإحصاءات، التي استُعرضت بما فيه الكفاية، منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وللتذكير فقط، تتحدث منظمة العمل العربية، عن بطالة تصل إلى 14 في المائة، لكن هذه النسبة "استُهلكت" من فرط عدم تجديدها، خصوصا وأنها لا تشمل في الواقع عدد العاطلين العرب الذي انضموا إلى زملائهم في أعقاب الأزمة العالمية. وحسب تقديرات أخرى، فإن النسبة تصل حالياً إلى 17 في المائة، بينما تتحدث جهات أخرى عن 19 في المائة. وأياً كانت النسبة، فالكارثة تكمن في نوعية العاطلين، مثلما تكمن في انتشارهم وارتفاع أعدادهم بصورة مستمرة. الجهات الرسمية العربية تقدر العاطلين الشباب بحدود 25,7 في المائة، وهي النسبة الأكبر على مستوى العالم، وأعلى من المتوسط العالمي بنسبة 77.8 في المائة. وعلى الرغم من أن واقع الحال يطرح نسبة أكبر منها ( بعض الجهات تقدر نسبة العاطلين الشباب بـ 50 في المائة)، إلا أن هذه المُعلنة تمثل قمة المصائب، وتفرض طرح قضايا متلازمة معها، في مقدمتها، ليس توفير فرص العمل، بل توفير العاملين للفرص. أي الموائمة بين ما تحتاجه السوق، وبين ما أصبح يعرف بصورة واسعة "مخرجات التعليم". صحيح أن الفرص في زمن الكساد والركود والأزمات، ليست متاحة بشكل كبير، لكن الصحيح أيضاً، أن هناك ضرورة حتمية، لسد ما هو متوفر في السوق من فرص عمل. هذه النقطة لا تزال ضائعة بين إحصاءات قديمة، وهموم متجددة.

يقول المؤرخ والكاتب الاسكتلندي توماس كارلايل : "إن الرجل القادر على العمل، وليس قادراً على الحصول عليه، يعيش شكلاً من أبشع أشكال البؤس". وعندما يصبح الرجل عاطلاً، دون أن يسبق له العمل في حياته، يكون البؤس أكثر بشاعة وأشد هولاً، وتكون الآثار الاجتماعية مريعة إلى درجة الانفجار في أي لحظة. نعرف أنه ليس هناك حلول سريعة وناجعة لهذه الأزمة المتفجرة، ونعرف أيضاً أن الأوضاع الاقتصادية العالمية، تبرر ازدياد عدد العاطلين عن العمل. ونعرف أن الحكومات العربية ترغب ( وتعمل) للوصول إلى أفضل الحلول الممكنة. لكن الذي نعرفه، أن كل ما طُرح من حلول ( في الركود وخارجه)، لا يعالج القضية، وإن كان يجعلها مطروحة على الساحة. وهذه القضية في الواقع، هي "أم القضايا"، لأنها مرتبطة بتنمية المجتمع، كما ارتباطها بخلق فرص عمل. بل مرتبطة بأمن المجتمع نفسه.

إن " التصالح" بين ما هو موجود في السوق، وبين ما يَصدر من المؤسسات التعليمية بكل مستوياتها من قوى بشرية، هو خطوة أولى على طريق إيجاد الحلول، ويكتسب هذا "التصالح" أهمية كبيرة في وقت الأزمات. كما أن العالم العربي لا يزال بعيداً جداً، عن ما يعرف بآليات "الاخراط"، التي تستند بدورها على أدوات التأهيل وإعادة التأهيل، خصوصا في عز الأزمات، التي تعيد تشكيل المشهد الاقتصادي "غصباً".

القضية ليست سهلة، ولن تكون كذلك. لكن يمكن من خلال بعض الخطوات العملية والواقعية، الوصول إلى مراحل، تفسح المجال أمام المراحل الكبرى، التي لا ينفع فيها، إلا انخراط عربي شامل، لحل مشكلة هي في الواقع " قنبلة" بشرية موقوتة.

الثلاثاء، 6 أبريل 2010

فساد أسود من القارة السمراء؟!


( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")









" اللامبالاة شريكة دائمة لجريمة الفساد"
ملكة الجمال الأميركية السابقة بيس ميرسون

 
 
محمد كركوتــي
 
وجدت صعوبة في العثور على مقدمة مناسبة لهذا المقال. فالأرقام التي أمامي تلغي كل المقدمات، وتضفي ركاكة على كل الجمل الإنشائية البليغة إذا ما سبقتها، وتجعل الكلمة بلا معنى، بل بلا جدوى!. هي أرقام مفجعة حقاً. مرارتها توازي الفاجعة عنفاً، وتصيب متابعها بقرف، يفوق القرف الذي نشرته الأزمة الاقتصادية العالمية في الأجواء. أرقام من النوع الذي ينشر "ضجيج الصمت". أرقام تتقزم أمامها كل الأرقام، فيما لو استثنينا الرقم الذي وصل إليه عدد الجياع في العالم وهو 1,02 مليار إنسان!. والواقع أن الأرقام المفجعة الرهيبة، مرتبطة بهذا "الرقم" من الجياع أيضاً. فهي من النوع الذي ينشر الجوع والفقر والألم والبطالة ويُمَكِن المرض والأوبئة. هي من النوع الذي ينال من الحياة البشرية مباشرة، دون وسيط أو فريق أو طرف آخر. هي أرقام تعاظمت عن طريق جمع الفساد والاحتيال والرشوة والسرقة في حراك شيطاني واحد. هي "منتج" من "قطاع" صناعة هذه "المواد الأولية" الأربعة مجتمعة!. ففي الوقت الذي غاصت فيه كل قطاعات الصناعة في العالم في بحر الأزمة الاقتصادية، بقي هذا "القطاع" مزدهراً و"منتجاً" وملبياً لطلبات القائمين عليه. إنه "القطاع" الوحيد الذي وقف في وجه الأزمة. إنه قاهر الأزمات!.

عندما نتحدث عن الجوع، تكون القارة الأفريقية الموضوع الأول فيه. وعندما نتناول الفقر، تبقى في المقدمة، وعندما نطرح قضايا الأمراض والأوبئة ووفيات الأطفال وتشغيلهم و"أمُُيتهم"، نبدأ منها. وحتى عندما تنطلق المهرجانات الفنية الضخمة لجمع التبرعات، وتتحرك الجمعيات الخيرية في العالم لتوفير المساعدات، تكون هذه القارة الوجهة الرئيسية لها. إنها القارة الأولى المستوردة للعمل الإنساني، والأولى "المنتجة" للآلام الإنسانية!. وماذا أيضاً؟ هي المنطقة الأكثر انتشاراً للفساد الذي يأكل سكانها، ويرمي بقاياهم. بل في هذه القارة مئات الآلاف - إن لم نقل ملايين - من بشر يعيشون كـ "بقايا"، من فرط العوز والجوع والفقر، وكل ما ينال من الحياة الإنسانية!. في هذه القارة عدد الراغبين بنهار جديد، أقل من عدد أولئك الذين ينتظرونه. فاليوم الجديد هناك، يعني معاناة جديدة من طراز جديد أيضاً!.

على مدى أربعة عقود من الزمن، خرج 1,8 تريليون دولار أميركي بصورة غير شرعية من القارة السمراء. صبت غالبية هذه الأموال أين؟ في المؤسسات الغربية، وفي النظام المالي الدولي الآخر المشين!. والتقديرات وراء هذا الرقم ليست من تلك "الجامحة"، بل من المحافظة جداً. فالتقديرات الأخرى تتحدث عن 2,4 تريليون دولار في الفترة المذكورة. أي أن هذه القارة خسرت قرابة 500 مليار دولار أميركي كل عشر سنوات. وهذه الأموال هي ببساطة، خسائر مباشرة لكل فرد يعيش فيها، وهي ضريبة غير مُعلنة فرضها الفاسدون عليه، وتقاضوها دون علمه. هي أموال العلاج والتعليم والتشغيل. أموال لجلب المياه الصالحة للشرب الآدمي، وللتنمية الزراعية والبشرية. هي أموال لصيانة كرامة الإنسان هناك. أموال ليس فقط يمكن من خلالها تسديد الديون الخارجية للدول الإفريقية البالغة – حسب لوائح العام 2008 - 250 مليار دولار، بل يمكن أيضاً أن تحقق معدلات عالية جداً للنمو. وطبقاً لمركز "سلامة النظام المالي العالمي" الأميركي Global Financial Integrity المعروف اختصاراً بـ GFI ، فإن الفرد الأفريقي يخسر سنوياً قرابة 989 دولار أميركي منذ العام 1970!. واستنادًا إلى الأرقام التي توصل إليها المركز نفسه، فقد بلغ حجم الأموال المهربة إلى الخارج 2% من الناتج الكلي الأفريقي في العام 1970، وبلغ في العام 1987 أكثر من 11%. وقد شهد تراجعاً في تسعينات القرن الماضي إلى 4%، ليرتفع في العام 2007 إلى 8%، وفي العام 2008 بلغ أكثر قليلا من 7% من الناتج الكلي لهذه القارة.

المصدومون من هول هذه الأرقام، لم يجدوا أمامهم سوى مجموعة العشرين، التي أخذت زمام المبادرة على الساحة العالمية في أعقاب الأزمة الاقتصادية، ليستنجدوا بها، لماذا؟ لأنها الجهة الدولية المخولة – والقادرة- حاليا على كبح جماح المؤسسات المالية والمصارف العالمية، والملاذات الضريبية الآمنة، واقتصاد "الوهم"، والاستثمار المشين. فالأمر ليس شأناً داخليا لكل دولة أفريقية تعاني من هذا الفساد المدمر، بل هو شأن دولي إنساني أخلاقي. وهو ليس قضية إقليمية، بل دولية خالصة، ليس فقط لتهريب الأموال من القارة السمراء إلى خارجها، بل لأنها تصب، أين؟ في ما تعرف تسميته "نظام الظل المالي العالمي" أو global shadow financial system . وهذا النظام الأسود، يأكل حقوق ومقدرات السواد الأعظم لسكان القارة السمراء، من خلال وجود – ضمن آلياته وتسهيلاته – ملاذات ضريبية آمنة، وأدوات متطورة بصورة مستمرة لغسيل الأموال، ومؤسسات وشركات وهمية لا وجود لها في الواقع، وما يعرف تجارياً بـ " سوء التسعير" أو Trade mis-pricing ، والكثير من الأفكار الاستثمارية السوداء أيضاً. هذا النظام، هو في الواقع "سرطان اقتصادي" دولي، لا أفريقي أو آسيوي أو أوروبي. ولأنه كذلك، فقد خرج منذ زمن بعيد من نطاق محليته أو إقليميته. هو " سرطان" نشأ في بقعة، لكنه سرعان ما أصاب كل البقع.

يقول الفيلسوف الإغريقي ديوجين :" اللصوص الكبار يقودون مسيرة اللصوص الصغار"، وفي رد غير مباشر على هذا الفيلسوف، يقول المؤلف والكاتب الأميركي إدوارد هاو :" إن اللص يعتقد أن الجميع لصوص". في أفريقيا – كما العالم – هناك أنواع متعددة للفساد، من بينها "الفساد المستتر". وهو - في هذه القارة - لا يؤلم، بل يقتل. ووفق تقرير "التنمية في أفريقيا" الذي أصدره البنك الدولي في الربع الأول من العام الماضي، فإن " الفساد المستتر" يكلف الدول الأفريقية أموالاً طائلة، عن طريق فشل الموظفين الحكوميين في تسليم السلع أو الخدمات التي تدفع تكاليفها الحكومات نفسها!. وحسب التقرير، فإن هذا النوع من الفساد، متفش على نطاق واسع في جميع أنحاء أفريقيا ويؤثر سلباً على الفقراء فيها على المدى الطويل. وأنقل هنا مثالاً واحداً على كيفية ارتكاب هذا الفساد. في قطاع التعليم، يحرم طفل من التعليم المناسب، لماذا؟ لأن المدرس- الذي يفترض وفقاً للميزانيات الحكومية - أن يكون في الصف الدراسي، يؤدي واجبه في تعليم التلاميذ بدوام كامل، لا يقوم بواجبه. لماذا أيضاً؟ لأن رواتب المعلمين قد تم تحويلها عن طريق الاحتيال إلى المسؤولين الفاسدين أو إلى أطراف أخرى مؤثرة مثلهم!.

لن يتوقف الفساد في القارة الأفريقية سواء كان مستتراً أم فاضحاً. وقد أثبتت العقود الأربعة الماضية، أن الخطأ لا يكمن في وجود حكومات فاسدة فقط، بل في كيفية إدارة المساعدات التي تقدم لهذه القارة من الدول المانحة، وكيفية تعاطي الحكومات المانحة مع الحكومات الممنوحة. ولا أعرف كيف ينظر رئيس دولة تقدم المساعدات، إلى هذه الحقائق المريعة؟. فغالبية أموال المساعدات ينتهي بها المطاف لدعم حكومات "منتفخة"، ينفق رؤساؤها على حفلات أعياد ميلادهم أموالاً، يمكن أن تبني وتشغل مدارس ومستشفيات، وتوفر الحد الأدنى للكرامة الإنسانية لعدد كبير من مواطنيهم.

إن هروب الأموال من أفريقيا، التي يصونها الفساد من كل الأنواع، هي قضية إقليمية داخلية بلاشك، لكن معالجتها لن تتم بصورة ناجعة إلا خارجياً. إنها مسؤولية دولية، ارتفع زخمها العالمي في أعقاب الأزمة الاقتصادية. وهي مسؤولية أخلاقية، سيحاسِب التاريخ بسببها الفاسد والساكت عن الفساد.