الثلاثاء، 30 مارس 2010

تقارير دولية بلا معنى؟!

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")










" الرجل الجائع.. ليس حراً"
سفير الولايات المتحدة الأسبق إلى الأمم المتحدة أدلي ستيفنسون

محمد كركوتــي

 لم تعد تقارير وبحوث ودراسات وإحصائيات المؤسسات الدولية الكبرى ( الأمم المتحدة ومنظماتها، والبنك وصندوق النقد الدوليين، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والاتحاد الأوروبي ومنظماته.. إلخ)، تمثل صدمة في أرقامها، ولا خوفًا في حقائقها، ولا إنذارًا في استنتاجاتها. بل لم تعد تشكل وقعًا، حتى إعلاميًا!. فقد تحولت من فرط غياب الجدية في التعامل مع حقائقها( بل وتجاهلها) إلى ما يشبه البيانات التي تصدرها حكومات في دول، لا تسمع إلا صوتها، مهما كان نشازًا. وعلى الرغم من أن كل تقرير عن التنمية والبشر والبطالة والمرض والجوع والعطش والطفولة والتعليم، يحتوي على كارثة إنسانية كاملة ( تماما مثل الجريمة الكاملة)، إلا أنه يظهر ويمضي عابراً، لكنه يترك آثارًا مريعة على أرض الواقع، لا في محيط الوجدان. فصاحب القرار الدولي، مشغول بشيء ما، ولو استطاع، لكتب على جبينه لافتة " نرجو عدم الإزعاج"!. لكنه في الواقع، ليس بحاجة إلى مثل هذه اللافتة. فهو إن قرأ التقرير المريع، يضعه في أسفل كومة الأوراق (الأولويات). وليس مهمًا إن كان هذا التقرير على رأس تلة الأوراق، إذا لم يقرأه أصلاً. فالمادة التي لم تُقرأ، مثل المادة التي لم تُكتب!.

ولأن الأمر كذلك، فلا معنى لإحصاء منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، بوصول عدد الجياع في العالم إلى 1,02 مليار بشري، ولا قيمة لما أصدره مكتب الأمين العام للأمم المتحدة، بأن هناك 1000 مليون شخص في العالم، لا يحصلون على مياه شرب نظيفة، وأن مليون طفل يموت سنويا بسبب المياه الملوثة. ولا وزن لما أعلنته منظمة الصحة العالمية، بأن نصف المرضى في مستشفيات الدول النامية يموتون بسبب تلوث المياه، وأن عدد الوفيات الأطفال دون سن الخامسة في الدول نفسها، بلغ في العام 2008 قرابة 8,8 مليون طفل. ولا أهمية لأرقام منظمة العمل الدولية، التي أحصت 162 مليون طفل عامل في العالم، وأن أكثر من 633 مليون عامل ( بالغ ) يعيشون مع عائلاتهم على أقل من 1.25 دولار أميركي!. ولذلك فقضية وجود 37 في المائة من سكان العالم بدون مرافق صحية جيدة، تبدو مسألة تافهة!، وعدم التحاق أعداد هائلة من الأطفال في المدارس، هو شيء من الكماليات!.

كل تقرير تصدره المؤسسات الدولية الكبرى، يتطلب التزامًا من الدول الكبرى قبل الدول الصغرى. وكل حقيقة مريعة، تستوجب "هَبَة" كبرى توازي في قوتها حقيقة المخاطر. لكن الالتزامات تبددت، والإرادة تزعزعت، وكأن توالد المآسي، يخص المنكوبين فقط، في عالم متشابك، لا توجد قوة على وجه الأرض يمكنها أن تفك تشابكه. ألم تقدم الأزمة الاقتصادية العالمية، الدليل التاريخي الأقوى على "تراص التشابك"؟. ألم تربط بين قوي كان لا يقهر، وضعيف يعيش قهرًا؟. ألم تأتي بحقيقة، أن الحدود لم تعد تلك التي تحدد مساحة هذا البلد أو ذاك؟ بل هي تلك التي المرسومة على محيط الكرة الأرضية كلها؟.

نعرف أن الجميع يعاني من أزمة الأزمات. ونعرف أن الأولويات الوطنية تمثل ضرورة حتمية لحكومات الدول الكبرى. ونعرف أن هذه الحكومات تسعى إلى فرص انتخابية أخرى. ونعرف أنها تواجه مصاعب جمة. ونعرف أن بعضها يسعى إلى إعادة هيكلة اقتصاداته. ونعرف أن ديون بعضها المحلية يفوق دخلها المحلي. لكننا نعرف أيضًا، أن مسؤولياتها الدولية، هي ضرورة حتمية أيضاً، إلا إذا أرادت أن تتخلى عن مكانتها العالمية، وتنضم إلى مجموعة الدول المتلقية للقرار العالمي، لا صانعته. فمسؤوليات الكبير ليست كمسؤوليات الصغير. الأولى دولية عامة والثانية محلية خاصة. الأولى لها مرددوها التاريخي العالمي الكبير، والثانية لها مردود وطني صغير.

التقرير الأخير الذي أصدرته الأمم المتحدة مؤخراً، حمل عنوانًا مليئًا بالدلالات. عنوان مشين للدول الكبرى هو " الوفاء بالوعد". أرادت المنظمة الدولية أن تُذكِر من وَعدوا بوعودهم. أرادت أن تقول لهم : "نرجو قراءة هذا التقرير، ونرجو عدم رميه في سلة المهملات، أو في ملفات التأجيل. نعرف أنكم في أزمة، لكن القضايا المطروحة في تقريرنا، تفوق أزماتكم خطورة، وتحمل معها تفجيرا نوويًا بشريًا عالمياً". أرادت الأمم المتحدة القول : "رجاءً ضعونا ضمن أولوياتكم. فهذه القضايا، هي قضاياكم أيضاً. إنها تحوم في الأرجاء، قبل أزماتكم وخلالها وبعدها". هذا التقرير -الذي بلاشك سيتم وضعه في الملفات فقط – تضمن اعترافاً بحدوث تقدم في المجال الإنساني سابقاً. أي أنه لم يتناول فقط الجانب المأساوي، ولم يطرح الأرقام المشينة، ويتغاضى عن غير المشينة منها. بل تناول ما للكبار وما عليهم. لكن المشكلة أن التردي في الحياة البشرية، فاق التقدم فيها، ومسحت السلبيات الهائلة المفجعة، الإيجابيات الصغيرة الجميلة. لماذا؟ لأن الجهود التي بُذلت لتخفيف الآلام والأوجاع ودفع التنمية ( بصورتها الشاملة) خطوات إلى الأمام، لم تكن مستدامة، ولم تكن على قدر الكارثة. كانت في كثير من الأحيان، جهود موسمية، وفي أحيان أخرى ارتجالية. وفي بعض الأوقات كانت عاطفية حافلة بالدموع، تقدم مشهدًا درامياً مؤثراً في وقته، سرعان ما يصبح ذكريات!.

لقد تراجع كل شيء في السنوات القليلة الماضية ( أي قبل الأزمة العالمية) باتجاه الدول النامية. المساعدات من الدول المانحة الكبرى، ومعها الاستثمارات الأجنبية، والمخصصات التي اعتُمدت من أجل خفض مستويات الفقر وشح المياه والبطالة وتشغيل الأطفال والوفيات والأوبئة والأمية. كانت الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، لا تؤمن بزيادة مساعداتها للدول الفقيرة وتطوير فعالية هذه المساعدات. ومن أجل ذلك تراجعت في ظل هذه الإدارة من المركز الأول على قائمة الدول المانحة، إلى الرابع!. لا غرابة هنا. فهذه الإدارة وقفت بقوة ضد تعميم الضمان الصحي للأميركيين أنفسهم الذين انتخبوها مرتين!. وفي عام 2005 وضعت الدول الغنية في الاتحاد الأوروبي مخططاً لزيادة المساعدات الإنمائية بشكل تدريجي، يتم بموجبه تخصيص 0.51 بالمائة من ناتجها المحلي الإجمالي لمساعدة الدول النامية حتى عام 2010 ، على أن ترفع تلك القيمة إلى 0.7 بالمائة بحلول عام 2015 . لكن النتائج لم ترق إلى مستوى التعهدات. لا مجال هنا للحديث عن " مشاريع الألفية" التي أطلقتها الأمم المتحدة قبل حلول الألفية الحالية، من أجل الحد من تصدع الحياة البشرية في الدول الفقيرة. فهذه المشاريع لم تحقق أهدافها، وإن حققت بعض القفزات المتواضعة.

الجوع ، المرض، الفقر، الأمية ، البطالة، كلها عناوين تصبغ المشهد الراهن والمقبل أيضاً. فالجائع – كما يقول المؤلف الإغريقي أرستوفانيس – لا صديق له إلا مُطعِمه، وكذلك المريض لا صديق له إلا طبيبه، والفقير إلا مُحسِنه، والأمي إلا مُعلِمه، والعاطل إلا مُشغِله. والتقارير الدولية المريعة التي تعج بالهموم، لن تكون سوى سجلات لمصائب، ليست باقية فحسب، بل متعاظمة إلى حد الدمار الشامل.

الثلاثاء، 23 مارس 2010

اقتصاد "التمنيات" العربي!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )









" المعرفة لا تكفي، يجب أن علينا أن نُطبق. الاستعداد لا يكفي يجب علينا أن نفعل"
المؤلف والشاعر الألماني جوهان ولفجانج

 
محمد كركوتــي
 
تُطرح على الساحة العربية قضية تكتسب أهمية كبيرة من حيث قيمتها، ومن جهة ارتباطها بصورة عضوية بالمستقبل. كما أنها تكتسب بريقًا استراتيجيًا، يصعب على المُتابع أن يتجاهل ومضاته. ويقوم الطارحون – بحماس واضح – بعرض القصة ( ومعالجتها)، على أنها محورية في هذا الوقت، ولا يمكن تجاهلها، بل لا يمكن تأجيلها. فهي – أي القضية – شيء ينبغي أن يكون حاضرًا الآن وليس غدًا، على الرغم من الأولويات الأخرى المؤجلة أو المتثاقلة ضمن اهتمامات العالم العربي. ويرى المتحمسون أن طرحها الآن، لا يُقوض الأولويات ( المقوضة أصلاً)، بل على العكس، يمكن أن تشكل حافزًا لدفع ما هو مقوًض منها إلى الصدارة. أي أن القضايا يمكن أن تطرح في كل الأوقات، طالما أنها تلتصق بمستقبل المنطقة العربية، وتشكل ضرورة حتمية لها.

القضية ببساطة هي : الاقتصاد المعرفي أو اقتصاد المعرفة knowledge economy وهو اقتصاد يمثل المعرفة الفنية والإبداع والذكاء والابتكار والمعلومات. هذا الاقتصاد المتنامي عالميا، الذي بدأ في احتلال مكانة كبيرة ضمن نطاق الاقتصاد الدولي الشامل، وفي الحراك الاقتصادي العام، واستحوذ على حصة متنامية منه. فقد بات يشكل قطاعا أصيلاً، ومجالاً واسعاً للاستثمارات وما يرتبط بها. هو أشبه باقتصاد " الـ دوت والـ كوم" الذي برز إلى العالم في مطلع القرن الحادي والعشرين، مع فارق واحد، أن هذا الأخير معرض للـ "المفرقعات الاستثمارية" والصفقات الوهمية، بينما لا توجد ثغرات في اقتصاد المعرفة – على الأقل في الوقت الراهن – يمكن أن تلج منها تلك "المفرقعات"، لأنه يمثل منهجية لا سلعة، ويشكل أداة مساعدة للاقتصاد الشامل – إن جاز التعبير – لا "نشازا" اقتصادياً أو وهماً استثمارياً. كما أنه اقتصاد معرفي لا معلوماتي فقط. فالمعلومات – كما يقول العالم الفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين : " ليست معرفة".

قبل شهر تقريباً، اشتركت في ندوة تلفزيونية تحت عنوان عريض وهام هو " اقتصاد المعرفة .. أم معرفة الاقتصاد"، وذلك ضمن فعاليات "المنتدى الاستراتيجي العربي" الذي يتخذ من دبي مقراً له، ويطرح قضايا تحاكي المستقبل بالفعل، من خلال ما يعرضه ويناقشه من مادة تهدف أساساً إلى رفع مستوى الوعي في قضايا التنمية في العالم العربي. كانت الندوة ( ستعرض على تلفزيون دبي في أبريل/ نيسان المقبل) متدفقة، وكان علينا – كمشاركين – في النهاية أن نجيب على سؤال استنتاجي هو: هل يجب على العرب التركيز على اقتصاد المعرفة، أم معرفة الاقتصاد؟. وقد كنت مع الشطر الثاني من السؤال. لماذا؟.

قبل محاولة الدفاع عن اختياري هذا، لا بد من الإشارة إلى أن اقتصاد المعرفة يستحوذ حالياً – حسب الأمم المتحدة – على 7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وينمو هذا الاقتصاد بمعدل 10% سنويا، وهي نسبة عالية للغاية. وطبقا للمنظمة الدولية، فإن 50% من نمو الإنتاجية في الاتحاد الأوروبي، هو نتيجة مباشرة لإنتاج واستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ورغم هذا النمو الكبير على الصعيد الأوروبي، إلا أن "إستراتيجية برشلونة" التي أطلقها الأوروبيون في العام 2000 وهدفت إلى تحويل قارتهم خلال عقد من الزمن إلى اقتصاد المعرفة الذي يعتبر الأكثر تنافسا وديناميكية في العام، أخفقت بصورة كبيرة، مما شكل إحباطاً واضحًا ومعلناً، لدى صناعي السياسات في الاتحاد الأوروبي!. وما علينا إلا أن نتابع إحباط المتقدمين في هذا المجال، لكي نرسم الصورة بشكل واقعي على الساحة العربية.

إن رأس المال في اقتصاد المعرفة، هو التناغم مع التطورات التي لا تتوقف على صعيد تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ولن يتم هذا التناغم بمعزل عن وجود ذهنية إبداعية ابتكارية فنية حاذقة، وقبل ذلك تعليم يحاكي آليات هذا الاقتصاد ومتطلباته. فلا تزال الفجوة واسعة بين خطط التنمية البشرية والمناهج التعليمية في العالم العربي. وهذه الأخيرة – أي المناهج – لا تزال "متناغمة" مع الحراك التنموي – الاقتصادي الذي كان سائدا في النصف الثاني من القرن العشرين، مقابل تواضع تناغمها مع الحراك التنموي في القرن الحادي والعشرين، مع غياب شبه تام للاستثمار العربي في المعرفة!. ومع ذلك فالمصيبة لا تنحصر فقط في هذه النقطة الحيوية، بل تتجاوزها إلى الحقيقة المُرة التي قدمتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الألكسو" في مطلع العــام 2008، عندما أعلنت عن أن العالم العربي يحفل بـ 100 مليون أمي، من أصل 335 مليون نسمة. أي أن هؤلاء يشكلون حوالي 30% من مجموع سكان المنطقة العربية!. طبعا لن نتحدث هنا عن المناطق الشاسعة في بعض الدول العربية التي لم تصلها الكهرباء أصلا، وتلك التي تعيش على مياه الصرف الصحي، وتلك التي يعيش الفرد فيها على دولار أميركي واحد في اليوم، وتلك التي تعيش الأسرة فيها على عائلها الطفل!.

في العالم العربي لا تزال المسألة معكوسة بين احتياجات السوق والموارد البشرية. ففي هذه المنطقة تتواصل المحاولات لتلبية متطلبات هذه الموارد، لا لسد احتياجات السوق. ولهذا السبب تتصادم مخرجات التعليم مع "الأوعية" المستقبِلة للخريجين!. والبيئة التعليمية في العالم العربي لا تزال عازفة عن مسايرة "الذهنية الإلكترونية" – إن جاز التعبير-. فهذه الأخيرة تمثل ضرورة حتمية للاندماج والتلاقي مع ما يجري وسيجري.. لا مع ما جرى فقط. ولكي لا نظلم العرب، ونقارنهم بالأوروبيين والأميركيين، نقول: إن الفوارق شاسعة بين نظم التعليم عند العرب، وبين مثيلاتها في أقرب المناطق إليهم. فغالبيتهم – على سبيل المثال – من آسيا، وهذه الأخيرة على حدودهم. ولأن التعليم هو أُس الإنسانية والتنمية والعمل، هو بالتالي الأساس لأي اقتصاد كان – معرفي أو غير ذلك - ، هو الحاضن الأول لأدوات الإنتاج، إلى جانب وجود منظومة للتأهيل وإعادة التأهيل أيضًا، خصوصا في ظل اقتصاد عالمي متغير ومتبدل ومليء بالأزمات المفاجئة وتلك المتوقعة.

لايمكن للعرب أن يكون لهم دور في اقتصاد المعرفة، أو أن يبدءوا "السباحة في بحره"، من غير عملية تأسيس لن تكون قصيرة الزمن. عملية فيها من الإرادة على مواكبة المتغيرات، والشجاعة على ما هو قائم، أكثر مما فيها من التمنيات. عملية تستوعب العولمة من الزاوية الحميدة لها. عملية تفسح المجال للقطاع الخاص الوطني الطبيعي – لا الجشع ولا " المُفرقَع" – ليكون مشاركا في تطوير مخرجات التعليم، إما عن طريق الاستثمار المباشر، أو من خلال توفير الوظائف التي تخدمه وتخدم التنمية ككل. وهذا الأمر يعيد طرح السؤال العريض : "اقتصاد المعرفة.. أم معرفة الاقتصاد"؟.

للوصول إلى اقتصاد المعرفة والانخراط به بصورة واقعية لا ارتجالية، لابد من معرفة الاقتصاد أولاً. ولابد من تأمين احتياجات السوق العربية من الموارد البشرية والمؤهلين، قبل الانتقال إلى الاقتصاد الجديد. ولابد أيضا من تهيئة الساحة لاقتصاد المعرفة، ليس فقط عن طريق توفير – مثلا – الإنترنت للجميع، بل فهم العمل على الشبكة الدولية بذهنية استثمارية تنموية. فالمعلومات التي تبقى على أجهزة الكومبيوتر فقط، لا توفر للمستخدم إلا مساحة ثقيلة على قرصه الصلب، وتظل مكدسة لا قيمة لها، إذا لم تتحول إلى معرفة.

إنها عملية ابتكار لا مسألة تجميع.

الثلاثاء، 16 مارس 2010

النشاز «الموسيقي» الاقتصادي!

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







«لم يستطع ولن يستطيع أحد الهروب من تبعات خياراته»
الكاتب والمؤلف الأمريكي ألفرد منتابيرت


محمد كركوتــي

أي من هذه المنظمات الدولية التالية نُصدق؟ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية المعروف اختصارا ''أونكتاد''، ومنظمة التجارة العالمية؟ أم صندوق النقد والبنك الدوليين؟ فالمنظمات الثلاث الأولى تعلن – بقوة - أن برامج التحفيز الاقتصادي ودعم القطاع المالي التي أطلقتها حكومات العالم لم تعد ضرورية، ويجب التخلص منها. والمنظمتان الأخريان حذرتا منذ مطلع العام الجاري – حتى الآن – من مغبة وقف برامج التحفيز هذه، لأن ذلك سيؤدي إلى انهيار مزيد من المؤسسات المالية وغير المالية، وسيعطل كل خطوة نحو انتعاش الاقتصاد العالمي! المنظمات الثلاث الأول، ترى أن المشكلة الآن تكمن فيما سمته ''الإجراءات الطارئة'' أو برامج التحفيز، بينما يرى ''البنك والصندوق''، أن الأمل يكمن في استمرارها! وأن التفكير بسحب هذه الإجراءات ليس سوى مصيبة أخرى، تضاف إلى مصائب الأزمة الاقتصادية العالمية.

خمس منظمات دولية عريقة ورصينة، تنشد أغنيتين في وقت واحد وفي ''حفلة'' واحدة بكلمات متضاربة ولحنين مختلفين! ماذا وصل إلى السامعين؟ ''نشاز موسيقي'' يستحيل سماعه، ولا يمكن تجاهله أيضا! ''نشاز'' طغى على ما ينشده المتفائلون، بأن الاقتصاد العالمي خرج من عنق الزجاجة، وأن الانتعاش آخذ في الظهور هنا وهناك، ولا يوجد ما يدعو إلى الخوف! للمتفائلين الأفراد مآربهم، ولا سيما أولئك الذين وُصِموا بعار الأزمة، أو أولئك الذين يسعون إلى مكافأة سياسية، مهما قل شأنها. فهؤلاء إما من بقايا ''المُلهَمين الاقتصاديين''، أو من السياسيين الذين تورطوا مع ''المُلهَمين''، في إخراج المشهد الاقتصادي العالمي المشين. لكن هذا لا ينطبق على منظمات أو مؤسسات عالمية كبرى، لا تخضع لمعايير الربح أو الطفرات أو الفقاعات أو النمو المريض أو اقتصاد الوهم. هي منظمات قامت أساسا لقول الحقيقة، لا لتمويه الواقع، وقامت أيضا، لتكون بمثابة البوصلة التي لا يتجه مؤشرها إلا إلى الجهة الصحيحة، تلك التي يتمركز فيها الصالح العالمي العام. هذه المنظمات ليست كوكالات التصنيف الشهيرة التي ''عملت البحر طحينة''، ومنحت – بتصنيفاتها – شركات ومؤسسات ومصارف الأوسمة المشينة، أو نياشين الهلاك.

لعل كبار المسؤولين في كل من البنك وصندوق النقد الدوليين، تعلموا من ''مطبات'' تفاؤلهم الذي ''احتضن'' تصريحاتهم ''الوردية'' في النصف الثاني من عام 2009، خصوصا تلك التي تحدثوا فيها عن بداية انتعاش الاقتصاد العالمي! ففي مطلع العام الجاري، صبغوا هذه التصريحات بشيء من الواقعية، وعرفوا أن زمن التفاؤل ليس قريبا، وأن ''وردية التصريحات'' لا تجلب لهم إلا التهكم، بل الاستهزاء بقدراتهم على التنبؤ. لكن يبدو أن هذه الحقيقة لم تصل بعد إلى المسؤولين في المنظمات الدولية الثلاث الأخرى. إن برامج التحفيز الحكومية، هي التي تدير دفة الاقتصاد العالمي حاليا، بعد أن تبخرت الأموال في المؤسسات والمصارف الكبرى، وبعد أن انتهت سمعتها، التي كانت تمثل نوعا من أنواع رأس المال لها. بينما لا تتحمل الحكومات – ولا سيما في الدول الكبرى - سقوطا جديدا لهذه المؤسسة أو تلك، لأن ذلك يشكل خطرا حقيقيا على الاستقرار السياسي والإداري لهذه الحكومات. دون أن ننسى أنها – أي الحكومات – كانت متورطة بصورة أو بأخرى، في ارتكاب الأزمة الاقتصادية العالمية. وعلى الرغم من العبء المالي الكبير لبرامج التحفيز، إلا أنها تمثل القوة الوحيدة حاليا، لتعويم الاقتصاد العالمي.

نزيف الإفلاس لا يزال يمثل ''وصمة العار'' المتواصلة للأزمة العالمية. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، تتوقع السلطات المالية المختصة، أن يصل عدد المصارف والمؤسسات المالية المفلسة إلى ذروته مع نهاية عام 2010. وفي الشهرين الأولين من العام المذكور بلغ عدد المصارف الأمريكية المفلسة 25 مصرفا، بعد أن بلغ عددها في العام الماضي 140 مصرفا، بينما لم تتعرض سوى ثلاثة مصارف فقط للإفلاس في الولايات المتحدة في عام 2007 و25 مصرفا في عام 2008 (عام الكارثة). يحدث هذا في وقت لم تنته فيه الشكوك ولم تخف مشاعر الريبة حيال أداء بورصة وول ستريت، التي يمكن - في أي لحظة – أن ترتكب حماقة جديدة بأزمة جديدة. وفي أوروبا الغارقة في الخوف على اليونان، والمرعوبة من ''جيوش'' العاطلين عن العمل، والخائفة على مستقبل منطقة اليورو، بل العملة نفسها، بلغت خسائر المصارف فيها أكثر من 649 مليار دولار أمريكي، بينما يتوقع البنك المركزي الأوروبي، أن تتعرض لخسائر إضافية تصل إلى 283 مليار دولار بحلول نهاية 2010 ! أما صندوق النقد الدولي، فيقدر حجم خسائر هذه المصارف بأكثر من 900 مليار دولار. فقد شطبت مصارف منطقة اليورو التي تضم 16 دولة 375 مليار دولار من الأصول المتعثرة العام الماضي.

مهلا.. مهلا، لم تتوقف مصائب أوروبا عند هذا الحد. فإلى جانب ''الكارثة اليونانية'' – وربما بعدها البرتغالية والإسبانية – هناك 1700 مليار دولار أمريكي اقترضتها أوروبا الشرقية من مصارف في ''شقيقتها'' الغربية. ويتفق المسؤولون الماليون الأوروبيون، على أن جزءا كبيرا من هذه الأموال تحيق به المخاطر. بمعنى أنه أقرب إلى الديون المعدومة. أي أن مصائب الشرق ''تهل'' على كوارث الغرب في أوروبا، فأين المفر؟! كيف يمكن لأي جهة حاليا أن تدعو (بل أن تفكر)، إلى وقف فوري أو تدريجي لبرامج التحفيز الحكومية؟ هل تستطيع المؤسسات المصابة '' بداء'' العجز المالي أن تواجه استحقاقات الأزمة؟ هل يمكنها أن تتنفس بدون أجهزة ''العناية المركزة'' الحكومية؟ لقد دخلت كل المؤسسات الكبرى والصغرى وما بينها ''غرف العناية''، ولم تقو بعد لنقلها إلى الغرف العادية.

إن ما يُنفذ حاليا، ليس برامج تحفيز، بل برامج إنقاذ. فالتحفيز ينطبق على مؤسسات تمتلك الحد الأدنى من أدوات الحياة، لا مؤسسات فاقدة لآليات الحياة تماما! وفي خضم المشهد الاقتصادي العالمي الراهن، تتداخل حياة المُنقِذ بالمُنقَذ. فلا الأول يستطيع مواصلة العيش بدون الثاني، ولا الثاني يمكنه حتى التنفس من دون الأول. هي علاقة شكلتها الأزمة الاقتصادية العالمية. علاقة لا يحبها الأول، ويمقتها الثاني، لكنها حقيقة واقعة. لن يستطيع العالم أن يتخلى عن برامج التحفيز – الإنقاذ في هذا الوقت، ليس فقط لاستمرار نزيف الإفلاس المؤسساتي، ولا لتعاظم الديون المعدومة، بل أيضا لفشل الدول الكبرى – حتى الآن – في وضع نظام اقتصادي عالمي جديد، يأخذ بعين الاعتبار حقيقة المصائب التي يعيشها العالم أجمع ومسبباتها. يضاف إلى ذلك، عدم وضوح الضوابط الجديدة التي وضعتها بعض حكومات الدول الكبرى، لكبح جماح الأسواق، وخصوصا ''وول ستريت''. فيكفي الإشارة إلى أن رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي) بن برنانكي، أعلن صراحة أن السلطات المالية في بلاده تنظر – وربما تحقق – في دور مؤسسات ''وول ستريت'' في تفاقم أزمة مَن؟.. اليونان؟!

ماذا يعني هذا؟ يعني ببساطة، أن ''عصابة وول ستريت'' لا تزال تتمتع بحراك تدميري، تجعل عمليات الإنقاذ التحفيزية – إن جاز التعبير - ضرورة حتمية حتى إلقاء القبض على كل عناصرها وعملائها، والتخلص نهائيا من مُلهَميها.

الثلاثاء، 9 مارس 2010

صناعة الكتاب العربي.. حروف بلا نقط!

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







" ينبغي أن لا نُدرِس الكتب العظيمة.. علينا أن نُعلِم حب القراءة "
عالم النفس الأميركي بورهوس سكينر


محمد كركوتــي

تبدو مشاكل صناعة الكتاب في العالم العربي، مثل مصائب البيئة في العالم أجمع. فالأولى مطروحة على الساحة كمعضلة، والثانية كذلك. الأولى تبدو أنها تقترب – بعِسرها – من عثرات القضية الفلسطينية، والثانية كذلك!. الأولى تبدو بلا حل، والثانية كذلك. الاثنتان تنشران مشاعر الإحباط في الأجواء، وكأن أحدا لم يدرك سرهما أو مكامن المشاكل، وبالتالي مفاتيح الحلول. ولكن هل صناعة الكتاب العربي حقيقةً بهذه الصورة؟. أم أن هناك مبالغة في طرح مشاكلها ومنغصاتها وتعثرها، بل وتخلفها؟. هل تستحق مشاكلها توصيف " المعضلة"؟ أم أن هناك خلل في فهم هذه المشاكل؟. هل يمكن لصانعي الكتاب (الناشرين) التركيز فقط على مشكلة تواضع الحماية الفكرية في العالم العربي، وارتفاع قوتها في أماكن أخرى، دون الأخذ في الاعتبار المعايير والمعطيات المتوالدة على ساحة النشر العربية والعالمية؟. تلك المعطيات التي دفعت أكبر وأعرق دور نشر في العالم للتناغم معها، طواعية أو قسرا، وجعلتها أكثر مرونة في أساليب وسياسات وأدوات النشر نفسها. فهي تعلم أن بريق الكتاب – إن وجد- ليس أبدياً، إذا بقي بعيدا عن مخرجاته. فهو نتاج صناعة، بات التجديد فيها العامل الأهم على الصعيد الفني، وقبل ذلك على صعيد المحتوى. والمؤرخة الأميركية باربرا توكهام اقتربت كثيرا من توصيف الكتاب كمُنتَج حضاري بقيمة إنسانية فائقة، حين قالت :" إن الكتب هي إنسانية مطبوعة".

إن مشاكل صناعة الكتاب، ليست حكرا على العالم العربي. والجانب الذي احتكره العرب في هذا المجال، هو أنهم أضاعوا – أو لم يجدوا – آليات الحل، ولا "الأسلحة" الهجومية التي تساعدهم في التوصل إلى حلول، تُنقذ الكتاب وناشره.. وقارئه أيضا. فلا يزالون متمسكين بضرورة تقوية الحماية الفكرية، دون التعاطي مع تردي أوضاع النشر بصورة عامة على الساحة العربية، وأسباب هذا التردي! ودون البحث في تطوير المُنتَج، بما يكفل له الاستدامة والاستمرارية والاستقطاب، ودون إخراجه من وضعيته الموسمية!. فالمعارض – على أهميتها وضرورتها – ليست المكان الأمثل لمُنتَج طُبع للقراءة.. لا للمشاهدة، ولا للعرض!. والحق أن افتتاحية "الاقتصادية" في السادس والعشرين من الشهر الماضي بعنوان "اقتصاد الكتاب ومعارض الناشرين"، لخصت الحالة العامة للكتاب وصناعته في العالم العربي، ووضعت "النقط على الحروف" لوضعية النشر، وحمَلت الناشرين – بحيادية - مسؤولية ما يجري في هذا القطاع، المتداخل بين التجارة والثقافة، وبين الاستثمار والكلمة، وبين الأعمال والفكر، وبين الاقتصاد والمطبعة.

لقد أدركت البلدان المتقدمة مبكرا حقيقة التحولات التاريخية – وأحيانا الجذرية – في عالم صناعة الكتاب، وخرجت من القوالب التقليدية للنشر، الأمر الذي وفر حصانة قوية لدور النشر المختلفة، بالإضافة طبعا إلى عاملين اثنين. الأول: تمتع سكان هذه البلدان بالقدرة الشرائية، مقارنة بغيرهم من سكان البلدان النامية ( والعربية منها بالطبع). والثاني: أن الكتاب – كمُنتَج - استقطب شرائح مُتلقية له – ظن البعض – أنها خارج نطاقه، لاسيما شرائح المراهقين والشباب بشكل عام. ولمواجهة التراجع في معدلات القراءة في الدول المقدمة – الراشدة، قدم الناشرون مئات الآلاف من العناوين التي تدعو لـ "المواكَبة"، لا للملل. عناوين تساهم في التأسيس المتواصل لثقافة الكتاب الجديد المتجدد، لا الجديد فقط. عناوين "تستدرج" – لبعض الوقت - الطفل القابع أمام كومبيوتره الشخصي، من عالم الـ "تشات" Chat الواسع والمليء بالجيد والسيئ، إلى كتاب يقترب إلى حد ما من الجو الآسر للـ " تشات"، وغيرها من "مستقطبات" الإنترنت. باختصار.. قدموا عناوين "قُولِبت" وفق المتغيرات الكاسحة، موضوعيًا وفنيًا وتقنيًا. ومن المشاكل الرئيسية، أن العرب يناقشون أزمة صناعة الكتاب والنشر، طبقا لزمانهم، في الوقت الذي يطوي زمان أجيالهم القادمة زمانهم!. فهم يعرضون معاناتهم الآنية في هذا المجال، دون النظر لمعاناة مستقبل مجتمع آت بسرعة مذهلة! بات تجاهله نوع من أنواع الانتحار!.

إن القضية في العالم العربي لا تكمن فقط في مسألة الحماية الفكرية. هذه الأخيرة ضرورية لا أحد تستطيع التقليل من أهميتها، وهي جزء أصيل من الحضارة الإنسانية والأخلاق، وتستوجب صيانتها بأشد الأدوات الرادعة، وآليات العقاب. القضية هي كل كامل شامل لكل عناصر النشر وصناعة الكتاب. هي نتيجة جمع: المحتوى والتقنية والتوزيع واللوجستية، ودعم القطاعين العام والخاص، والتحولات الهائلة في عالم القراءة، وبالطبع الحماية الفكرية. فعلى سبيل المثال، لم يعد الكتاب الرخيص، حلا – أو مشروع حل – لأزمة القراءة في البلدان العربية، وإن كان من الضرورات للتخفيف من حدتها. ولم تعد "مشروعات القراءة للجميع" أو "الكتاب للجميع"، حلاً أوحداً للأزمة. الحل ينطوي على فهم مستنير لعقول المتلقين، وإدراك واضح المعالم لمستقبل القراءة، ليس من زاوية النشر، بل من جهة محاكاة هذه العقول.

في زحمة تسيُد الإنترنت – ومنتجاتها - للمشهد الثقافي والاجتماعي والتعليمي، ما زالت بريطانيا تُصدر 206 ألف عنوان في العام الواحد، والولايات المتحدة الأميركية تُصدر 172 ألف عنوان، والصين قرابة الـ 100 ألف، وألمانيا أكثر من 71 ألف، واسبانيا أكثر من 46 ألف عنوان. طبعا ليس هناك وجها للمقارنة في النشر، بين هذه البلدان وغيرها من البلدان العربية، لأننا بذلك نظلم الأخيرة. لكن حركة النشر في البلدان المتقدمة، واصلت النمو حتى في أوج هجمة الإنترنت وما يرتبط بها من إنتاج إعلامي – فكري. ففي عز الأزمة الاقتصادية العالمية، بلغت عوائد صناعة الكتاب في الولايات المتحدة، حسب مؤسسة " اتجاهات صناعة الكتاب" الأميركية، 40,32 مليار دولار أميركي، في العام 2008 مرتفعة 1 في المائة مقارنة بالعام 2007. وتعزيزا للقراءة، تعتمد بريطانيا – على سبيل المثال- نظاما حضارياً متطوراً في قطاع النشر، عن طريق إعفاء الكتب من الضرائب، ومن ضريبة القيمة المضافة. أي أن الحكومة في بلد يعتمد النظام الرأسمالي – لا الشيوعي أو الاشتراكي – خبرت أهمية الكتاب، كرافد من روافد التثقيف والمعرفة، باعتمادها سياسة التسهيل في وصول الكتاب إلى أكبر شريحة ممكنة من المجتمع.

هناك الكثير من المهام أمام صناعة النشر في العالم العربي، والكثير من الثغرات في كيفية التعاطي مع الأزمات التي تواجهها. من بينها الاهتمام بما أصبح واقعاً في هذه الصناعة، وهو الكتاب الإلكتروني، الذي أخذ مكاناً متعاظما على الساحة، ويحتاج إلى وقفة معمقة من جانب الناشرين العرب، وأيضا المؤسسات الحكومية والخاصة. هذا الكتاب هو الوحيد الذي يمكن أن يعالج الجانب المظلم في موضوع القراءة عند المراهقين والشباب، ويمكن أن يساهم في جلب هؤلاء إلى قراءة مفيدة يمكن التأسيس عليها على الصعيد الفكري. لست ضد الكتاب التقليدي، بدفتيه وأوراقه ورائحته، ولكني مع الكِتاب للجميع وخاصة الكِتاب للشباب. السؤال الأهم هو ، كيف يمكن أن نجعله بين أيديهم؟. ونحاول إقناعهم بأن الكتاب، هو الهدية الوحيدة التي يمكن أن تُفتح مرة بعد مرة.

الاثنين، 8 مارس 2010

قريبا جدا



كتاب جديد لـ محمد كركوتي بعنوان:
" زوبعة خارج الفنجان"
الكتاب يصدر أيضا تحت عنوان فرعي هو:
" نمو + فقاعة X فساد - مسؤولية = أزمة "
الناشر : مركز الإمارات للدرسات الاقتصادية
عدد الصفحات : 474
القطع : متوسط


الأربعاء، 3 مارس 2010

ندوة "الإعلام الاقتصادي العربي.. ما له وما عليه"


المنامة: وكالات
أقيمت في الحادية عشرة صباح الأربعاء 10 فبراير 2010 بقاعة أوال في فندق الخليج، ندوة "الإعلام الاقتصادي.. ما له وما عليه" التي أدارها الإعلامي محمد كركوتي رئيس تحري مجلة " الاقتصاد اليوم" وكبير مستشاري قناة سي إن بي سي عربية، وشارك فيها كل من الدكتور أحمد الغامدي مستشار وزير البترول للشؤون الاقتصادية بالمملكة العربية السعودية، والدكتور زكريا هجرس الرئيس التنفيذي لشركة الوطن للصحافة والنشر بمملكة البحرين، والدكتور فهد بن جمعة الكاتب والإعلامي الاقتصادي بالمملكة العربية السعودية.

وفي مستهل الندوة أوضح كركوتي أن الإعلام الاقتصادي لا يزال جديداً على الساحة العربية، ولا تزال تجاربه لم تنضج بعد، وقد ثارت حول مدى مهنتيه العديد من التساؤلات خاصة بعد الأزمة المالية العالمية الأخيرة، ما طرح أسئلة عدة، حول مدى الإفصاح عن المعلومات، خاصة أن الأزمة الاقتصادية طالت العديد من المجالات منها المجالين الإعلامي والفني.

وأضاف أن سؤالاً آخر يثور حول مدى توافر الكوادر المتخصصة المؤهلة في مجال الإعلام الاقتصادي، معتبراً أن المهرجان أقدم على خطوة جيدة بإفراد ندوة متخصصة عن الإعلام الاقتصادي، وإدخال البرامج الاقتصادية في مسابقات المهرجان.

البترول والإعلام

وفي روقته بعنوان أثر الإعلام الاقتصادي في توجهات الشعوب (دور الإعلام في تأجيج الأزمات البترولية أنموذجاً) أوضح الدكتور أحمد الغامدي أن القطاع البترولي يعتبر أحد أهم القطاعات الإستراتيجية على المستوى العالمي. فالبترول سلعة إستراتيجية ذات أهمية محلية وعالمية، وتؤثر بشكل مباشر في حياة المواطن العادي وفي كافة قارات العالم. وأكد الغامدي أن التاريخ أثبت أن اتخاذ القرار في هذا القطاع يرتبط بشكل قوي ومباشر بما ينشر عنه في الوسائل الإعلامية المختلفة، خاصة في أوقات الأزمات السياسية والاقتصادية، مشيرا أن للوسائل الإعلامية دور كبير في حالة عدم استقرار أسعار هذه المادة الإستراتيجية من حيث نشرها لأحداث السوق والصناعة البترولية وبالتالي ما يتبعها من تأثيرات على الأسعار صعوداً وهبوطاً. منوهاً بأثر الحملات الإعلامية الغربية السلبية خلال فترة السبعينيات تجاه الدول المنتجة وخاصة دول منظمة الأوبك وخاصة الدول العربية الأعضاء فيها، وبدوافع سياسية نتيجة لمقاطعة بعض الدول العربية لتصدير بترولها لبعض الدول الغربية التي ساندت إسرائيل بشكل مباشر في الحرب العربية الإسرائيلية لعام 1973م، مما أدى إلى الدعوة إلى إنشاء وكالة الطاقة الدولية في عام 1974م كمنظمة تمثل الدول المستهلكة والدفاع عن مصالحها في مجال الطاقة. كما أخذ البترول موقعاً مميزاً واهتماماً إعلامياً على المستوى العالمي خلال فترة الثورة الإيرانية والحرب العراقية الإيرانية وانخفاض صادرات هاتين الدولتين مما ساهم في ارتفاع أسعار البترول العالمية بنحو ثلاثة أضعاف. ولقد كان لهذين الحدثين وتزامنهما مع ظهور فكرة قرب نضوب البترول بمثابة الجائزة للإعلام الغربي المعادي للشركات البترولية والدول المنتجة وبالذات دول الشرق الأوسط، منادياً بالبحث عن المصادر البديلة وعدم الاعتماد على هذه الدول كمصدر موثوق للإمدادات. ولفت الغامدي إلى أن الارتباط الوثيق بين وسائل الإعلام المختلفة وقطاع البترول اتضح مع ظهور الأسواق الآجلة في نيويورك ولندن خلال فترة الثمانينيات بحيث أصبحت هذه الأسواق بمثابة الأساس في تسعيرة البترول على المستوى العالمي. هذه الأسواق تعمل على مدار الساعة، ويعتمد المتعاملون فيها على المعلومات والأخبار المباشرة السريعة التي تتناقلها وسائل الإعلام، ما سبب في زيادة التنافس بين الوسائل الإعلامية المختلفة لنقل الأخبار لهذه الأسواق بحيث أصبح للثانية الواحدة قيمتها في بث الخبر. كما ساهمت هذه الأسواق في ظهور الإعلام المرئي الإخباري الذي يعمل على مدار الساعة وإنشاء أقسام متخصصة للطاقة في معظم محطات التلفزة العالمية ووكالات الإنباء، وظهور العديد من الدوريات الإخبارية على المستوى اليومي والأسبوعي لنقل الأخبار المهمة وبشكل عاجل للمشتركين، إضافة إلى تطورات الشبكة العنكبوتية واستخدامها إعلامياً.

الشفافية وصدق المعلومة

أما الدكتور فهد بن جمعة فقد كانت مداخلته حول "تأثير شفافية المعلومات على مصداقية الإعلام الاقتصادي العربي"، والتي أشار فيها إلى أن العالم العربي في السنوات الأخيرة شهد توسعاً في تنمية الإعلام الاقتصادي، وتناغماً مع أهمية التنمية الاقتصادية المستدامة ومؤشراتها في البلدان العربية التي أصبحت هاجس كل مواطن، وبرزت الحاجة الماسة لنقل تلك المعلومات الاقتصادية التي تقيس أداء القطاعات الحكومية والخاصة إلى الجمهور، من أجل رفع مستوى مشاركته في عمليات التنمية المتوازنة بين الأقاليم، ومنعاً لانتشار الفساد الإداري والمالي، الذي يؤدي إلى هدر الثروات مع غياب الرقيب، سواءً كان ذلك في قطاع المصارف أو أسواق المال أو العمل، -التي أصبحت ظاهرة البطالة أحد سماته- أو في الإنفاق الحكومي، أو في الاستراتيجيات والبرامج الاقتصادية التي تضعف فيها عمليات الإفصاح والشفافية عن المعلومات الاقتصادية الدقيقة، الأمر الذي جعل المواطن يبحث عن ضالته في الإعلام الاقتصادي بمختلف أنواعه، عسى أن يجد ما يروي غليله من معلومات متفائلة، لكن أكثر تلك المعلومات تكون -في معظم الأحيان- منقولة بشكل مغلوط وغير شفاف من المصدر، مما يُفقِد ذلك الإعلامَ مصداقيَّتَه، ويُضْعِف من أدائه، ويَحُدُّ من نُمُوِّه في المستقبل. واعتبر بن جمعة أن عمل الإعلام الاقتصادي يقوم على جمع المعلومات وتبادلها ونشرها، باستخدام أساليب البحث والتحليل الكمي، ووسائل التكنولوجيا المتقدمة، في عملية جمعٍ وتفحصٍ لتلك المعلومات من مصادر متعددة من أجل الإفصاح عن المعلومة الدقيقة التي تفيد القارئ والمشاهد على السواء، ليس هذا فقط بل يتعدى ذلك إلى تفسير تلك المعلومات، وتحديد الأهداف في ظل السياسات والاستراتيجيات الاقتصادية السائدة والمتوقعة، وما سوف يتمخض عنها من قرارات تمس حاجات الاقتصاد والمجتمع ككل، بل يذهب بعيداً إلى تحديد الإخفاقات والنجاحات من أجل مكافأة من يقف وراء تلك الإنجازات ومعاقبة هؤلاء الفاشلين، وما قد ينتج من فساد إداري خلال تنفيذ العمليات الاقتصادية، لذا يعتمد الاقتصاد الإعلامي على نشر المعلومات الصحيحة والتنبؤ بالأحداث قبل وقوعها بناء على الأرقام والإحصائيات والنماذج الرياضية والدراسات والأبحاث، وتحليل وتفسير المتغيرات الاقتصادية داخل وخارج البيئة الاقتصادية لبلد ما، وهذا يجعل إعداد المعلومات الاقتصادية أكثر موضوعية ومصداقية، عندما يتلقاها الجمهور في عالم أصبح الاقتصاد هو المسيطر عليه، وهو الذي يحدد اتجاه سياساته واستراتيجياته ومكانته في نظر الموظف والمستهلك والمستثمر على حدٍّ سواء. وأكد على أن تحقيق مبدأ الشفافية يستلزم وجود المصادر المفتوحة والموَثَّقة، وبيانات الإفصاح المالي، وسياسات التشريع التي تدعم حرية الحصول على المعلومات عن الميزانية العامة والاقتصاد الكلي والجزئي، وما يتم اتخاذه من قرارات وسياسات اقتصادية تمس الأفرادَ والشركاتِ والاقتصادَ كَكُل، لذا تصبحففا المصداقية -بعد ذلك- من أهم الأدوات في مفهوم الشفافية، التي تتجسد في أمانة نقل المعلومة والتأكد من مصادرها، فلا يكفي مصدرٌ واحد أو وجهةُ نظرٍ واحدة, فكلما تعددت المصادر ووجهات النظر كلما ارتفع مستوى الشفافية طردياً، حيث إن كلمة مصداقية مشتقة أصلاً من كلمة الشفافية المبنية على تفحص المعلومة والتثبت من دقتها وسلامتها، لكي يتم نشرها بكل حيادية دون تعارض المصالح، حتى لا تستخدم المعلومة بشكل مُشوَّه بما يخدم مصالح خاصة.

وجاء حديث الدكتور زكريا هجرس حول إشكاليات الإعلام الاقتصادي العربي، حيث أوضح أن أهميته برزت في بداية ارتفاع أسعار النفط،، التي اتخذت أبعاداً سياسية، ثم ازدادت أهميته بعد سقوط النمور الآسيوية، وفي عام 2008 دخل الإعلام الاقتصادي مرحلة جديدة بعد ظهور الأزمة الاقتصادية، ما جعل المواطنين يهتمون بهذا النوع من الأخبار، ما اضطر القائمين على الغعلام الاقتصادي إلى التوجه إلى عموم المشاهدين والمستمعين والقراء بدلا من توجههم إلى النخبة فقط. ويرى هجرس ضرورة المزج بين الندرة في الموارد والبدائل المتاحة من جانب، ودور الوسائل الإعلامية في إبلاغ المعلومة، مشيراً إلى أن وظيفة الإعلام بشكل عام تتمثل في نقل الأخبار الهامة، وتحليلها، وتعبئة وإرشاد الأفراد، والدعاية. معتبراً أن الإعلام الاقتصادي نجح في الوظيفتين الأولى والثانية إلا أنه فشل في تحقيق بقية الوظائف المنوطة به.

وفي مداخلة للإعلامي السعودي خالد الجناحي أشار فيها إلى أن مخاطبة شرائح المجتمع المختلفة أصبحت ضرورة من ضرورات الإعلام المتخصص، داعياً الإعلاميين إلى تحري البحث عن المعلومة المدققة. ودافع الدكتور فهد بن جمعة عن فكرة توافر المعلومات، لكنه أشار إلى غياب القدرة على التحقق من مصداقيتها.

من جانبه اعتبر الدكتور أحمد الضبيبان مدير إدارة الإعلام والمطبوعات بالأمانة العامة لمجلس التعاون أن بعض الصحفيين يسعون إلى تلقي الأخبار الجاهزة دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث والتدقيق والتحليل للمعلومات التي يتلقونها، وهو ما يعد قصوراً في هذا الجانب، وأيده في ذلك الدكتور فهد بن جمعة مستدلاً بأن المواقع الإلكترونية ووكالات الأنباء العالمية مليئة بالمعلومات الاقتصادية، التي يتم نقلها حرفيا، حيث تكون في بعض الأحيان مليئة بأخطاء الترجمة، لتنشر عبر وسائل الإعلام العربية.

وأجمع العديد من الحاضرين على وجود رغبة حقيقية في التوصل إلى قوالب برامجية تتناسب مع طبيعة الإعلام الاقتصادي، بحيث تخاطب كافة شرائح المجتمع.





الثلاثاء، 2 مارس 2010

قضية طُرحت من "فرط" أزمة؟!

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



" لا شيء يمكن إبداعه من لا شيء"
الشاعر والفيلسوف الروماني لوكريتيوس


محمد كركوتــي

مع انطلاق الأزمة الاقتصادية العالمية، انطلق حديث لم يتوقف على الساحة العربية، يختص بأهلية الإعلام الاقتصادي العربي، في أوقات الأزمات وفي أزمنة الإنفراجات.. في مراحل الركود وفي حقب الازدهار. وارتفعت "حرارة" الحديث بصورة واضحة، مع ارتفاع حمم الأزمة العالمية، وتناثرها في المنطقة العربية، بعد أن عمت المناطق الأخرى من العالم، ولم تترك قطاعا إلا وأشعلته، ولا بابًا إلا وأغلقته، ولا متنفسًا إلا وكتمته!. وإذا كان هذا الحديث ( القضية)، ضروريا من منظور التطور الطبيعي، إلا أنه جاء متأخرا، وأتى كرد فعل على ما حدث ويحدث وسيحدث، ولم يأت كاستحقاق لتنمية هذا القطاع الإعلامي الهام، الذي لا يزال يُنظر إليه، كقطاع مخصص لنخبة الأعمال والأسواق المالية والصفقات التي يسيل لها اللعاب، لا كقطاع مرتبط بصورة مباشرة في "شعبية" المجتمع – إن جاز التعبير - وأدواته ومكنوناته. أي أن طرح القضية، جاء من "فرط" أزمة كبرى، لا من حتمية تطوير مستحق!.

في العام 2007 ( قبل الانفجار الحقيقي المدمر للأزمة العالمية)، كتبت مقالا في "الاقتصادية"، تحت عنوان "الإعلام الاقتصادي العربي.. ذهب المضارب، أين المستهلك؟". قصدت بـ "المضارب"، ذاك الذي انغمس بسوق الأسهم وخرج منها إلى الأبد بعد أن تبخرت أمواله فيها. طرحت وقتها بعض الأسئلة المختصرة (لا كلها المستحَقة) على القائمين على وسائل الإعلام العربية ( لاسيما الفضائيات منها) : ماذا يعني ارتفاع أسعار الحبوب بالنسبة لمحدودي الدخل؟. وما هي انعكاسات ارتفاع أسعار النفط على ميزانية الأسرة؟ وكيف يؤثر تقاضي محلات الـ "سوبر ماركت" رسوما على الأكياس البلاستيكية التي تُمنح عادة مجانا، على إنفاق الأسرة؟. إلى أي مدى يمكن للأسرة الاستفادة من عمليات التدوير الخاصة بالحفاظ على البيئة؟. ماذا يعني ارتفاع أسعار الفائدة بالنسبة لساكني المنازل التي يملكونها عبر الرهن العقاري؟. كيف تتأثر المحفظة المالية المنزلية من تراجع قيمة صرف الدولار الأمريكي؟. كيف يمكن إدارة هذه المحفظة بصورة تمكن رب ( ربة) الأسرة من الاستمرار في توفير متطلبات منزله؟. وما انعكاسات التضخم - سواء المستورَد أو المحلي - على القيام بالإجازة السنوية العادية لمحدودي الدخل؟. وإذا كنا نتحدث عن التضخم، هل يضرب في الصميم لفترة طويلة؟. أم أنه حالة استثنائية؟. ما فوائد تعويم العملة على الراتب الشهري؟. كيف يؤثر التعليم الخاص على ميزانية الأسرة؟. هذه نماذج قليلة جدا من أسئلة كثيرة توجه بصورة يومية من المستهلك في العالم العربي، إلى نفسه أولا، وإلى المحيطين به، بل إن هذه الأسئلة باتت تصبغ النقاشات الاجتماعية داخل الأسرة وخارجها. فلا يمكن الاستمتاع المُطْلق بمباراة رياضية حماسية، ولا بمسرحية كوميدية، ولا بفيلم مثير، ولا بمسلسل آسر، من قبل شخص يفكر فيما إذا كان ما تبقى من مرتبه يكفي حتى نهاية الشهر؟!.

تتحمل القنوات الفضائية والمحطات الإذاعية المسؤولية الأكبر في القصور الإعلامي الاقتصادي العربي. لماذا؟، لأن أدواتها قفزت بمساحات شاسعة ( من حيث الاستقطاب الشعبي) فوق "زميلاتها" التقليدية من المطبوعات على اختلاف هوياتها وأشكالها. ولأن الأمر كذلك، فقد أخذت (الفضائيات والإذاعات) الحصة الأعظم من الانتقادات والهجوم، ليس فقط لأنها لم تقدم مادة تحاكي الأزمة الاقتصادية بمقدماتها وتبعاتها وآثارها وكوارثها، بل لأنها كانت بعيدة عن المادة الاقتصادية الشاملة. المادة التي تجتذب المستثمر والمستهلك، ورجل الأعمال وصاحب محل للبقالة، ورئيس أكبر المؤسسات ورب أصغر الأُسر، ورئيس دولة كبرى ورئيس بلدية صغرى. لم تستطع وسائل الإعلام العربية ( المرئية والمسموعة)، أن تجعل "مُتلقيها" متواصلا معها في "فتراتها الاقتصادية" ( برامجها ونشراتها الإخبارية)، بل دفعته إلى العزوف عن متابعتها، ومتابعة هذه الفترات، إلى محطات أو برامج "مفهومة"، ولا أقول مُسلية. وهل هناك أسهل من الانتقال من محطة إلى أخرى؟!.

والحق أن المطبوعات ( رغم الملاحظات على مادتها الاقتصادية) تقدمت في هذا المجال على الفضائيات والإذاعات. والسبب الوحيد لذلك، هو النضوج الذي اكتسبته من جهة الزمن، ومن تراكم التجربة. ولكن هل حُلتَ المشكلة بتقدم هذه الأخيرة؟. وهل استطاعت أن تسد الثغرات؟. الجواب ببساطة: لا!. لأن الأسرة المكونة من خمسة أفراد، يقرأ واحد منهم فقط –إن وُجد - هذه المطبوعة أو تلك، بينما يكتفي الأربعة الآخرون بمتابعة الوسائل المرئية والمسموعة، بالإضافة طبعا إلى الإنترنت وعالمها الواسع. وهذا يعني أن "نضوج" المطبوعات لم يحقق غاياته من حيث المُريدين (المُتلقين)!. والمشكلة لا تتوقف في الواقع عند هذا الحد، بل تستمر لتشمل الفضائيات ( تحديدا) العربية الاقتصادية المتخصصة، التي لم تستطع الوصول هي الأخرى إلى قاعدة واسعة من المشاهدين، لا قبل الأزمة العالمية ولا بعدها، وظلت – منذ نشأتها الحديثة – "نخبوية" في مادتها، و"ضيقة" في أُفقها تجاه السواد الأعظم من المشاهدين!. مع ضرورة الإشارة إلى أنها تعاني – كغيرها من الفضائيات التي تقدم ضمن برامجها منتجات إعلامية اقتصادية- من نقص الكوادر المؤهلة للتعاطي مع هذه المادة الملتصقة بالمشاهد، الذي يمثل في النهاية المجتمع كله، دون الحديث بالطبع عن النقص الهائل في مجال برامج تأهيل الإعلاميين الاقتصاديين في العالم العربي.

إن طرح قضية الإعلام الاقتصادي العربي، يمثل مسألة هامة، سواء جاءت كفعل أو كرد فعل. غير أن هذا النوع من الإعلام، لم يحظ بمبادرات حقيقية وفاعلة، تضعه ضمن نطاق الحراك الخاص بمناقشة الإعلام المرئي أو المسموع. فقد ظل غائبا عن مبادرات، وهامشيا ( جدا) على بعضها. فالبرامج الحوارية والمسلسلات والبرامج الغنائية والإخبارية والوثائقية وغيرها، والفضائيات الثقافية والكوميدية والرياضية والدينية، وحتى فضائيات "قراءة الكف والفنجان والطالع"، تستحوذ على مبادرات الإصلاح والتوعية الإرشادية والبيانية الإعلامية. وإذا كان هناك – على سبيل المثال – عشرة منتديات ومؤتمرات وورشات عمل عربية، تقام في العام الواحد لبحث حراك هذه الفضائيات وبرامجها، لا نجد بينها فعالية واحدة تبحث حراك ( أو جمود أو تقدم أو تراجع) البرامج الاقتصادية في الفضائيات العامة، أو الفضائيات المتخصصة بهذه المادة الحيوية!. فلا يمكن أن يتحقق تقدما ما من جمود، ولا يمكن إنتاج شيء من لاشيء. وإذا كانت الدراما – مثلا – ترتبط بوجدانيات الناس، فإن الاقتصاد ملتصق بحياتهم، ويزداد التصاقا في ظل الأزمات الخاصة والعامة.

لقد أقدم "مهرجان الخليج الحادي عشر للإذاعة والتلفزيون" الذي عقد في البحرين في فبراير/ شباط الماضي، على خطوة ضرورية في هذا المجال، عندما أفسح مكانا ضمن فعالياته للإعلام الاقتصادي، تحت شعار عريض هو "الإعلام الاقتصادي العربي.. ما له وما عليه". وأن تَطرح هذا الموضوع - القضية مؤسسة راسخة في هذا الوقت بالذات، يعني أن مرحلة "التثقيف" الإعلامي الاقتصادي العربي، بدأت بالانطلاق نحو فعالية أكبر، وتحتاج إلى استدامة ومواكبة دورية، إذا ما أُريد لهذا النوع من الإعلام أن يحقق قفزات نوعية على صعيد "منتجاته". نحن نعلم أن أدوات النضوج ( ومعها النجاح بالطبع)، تكمن في الديمومة والخبرة والإصلاح الذاتي المتواصل، ونعلم أيضا أنها لن تُوجد، بمعزل عن الإمكانيات المادية والبشرية وعمليات التأهيل المطلوبة للكوادر. لكننا نعلم أيضا.. وأيضا، أن عناصر النضوج لن تكتمل، من دون مبادرات وفعاليات مساعِدة، توفر "أجود" معايير التوعية والتثقيف والمراجعة والنقد والتقييم وحتى التصنيف.

لا أحد يطالب بوصاية على الإعلام الاقتصادي ووسائله. فالوصاية على الإعلام – بكل أنواعه وأشكاله- هي بمثابة "طلقة" قاتلة موجهة إلى قلبه، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نطالب – نحن الإعلاميون تحديدا – بأي نوع من أنواع الوصاية، بل علينا مقاومتها بكل الوسائل. المطلوب ليس أقل من "منتدى مفتوح" غير متقطع، ومبادرات محددة، تساعد هذا القطاع، وتطرح الحقائق كما هي، وتستقطب الأفكار التي تحاكي المستقبل، بعيدا عن "التنظير"، وبعيدا عن محاولات "تَسيُد" المشهد. ويبدو (والعالم العربي في أزمة اقتصادية لا دخل له في تفجرها، لكنه أخذ حصته من لهيبها)، أن الوقت مناسب الآن، لوضع الإعلام الاقتصادي العربي، على خارطة الاهتمامات الإعلامية العربية، لا لأنه حديث عهد، بل لأنه الأكثر قُربَا من الحياة المعيشية اليومية، وأقوى التصاقا بها.