الثلاثاء، 22 ديسمبر 2009

عام "التعري" الاقتصادي!

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





" المتفائلون ينتظرون حتى منتصف الليل، ليشهدوا بداية السنة الجديدة. المتشائمون ينتظرون أيضا ليتأكدوا من أنها رحلت"
الكاتب الأميركي وليم فاوجهان



محمد كركوتــي

أحسب أنه لا يوجد أحد في هذا العالم، يعارض "حذف" العام 2009، من ذاكرة التاريخ. وأحسب أيضا أن العالم كله يتمنى، لو أن مجموع سنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، يساوي تسع، لا عشر، وأن يقفز تسلسل الأعوام من 2008 إلى 2010 مباشرة، وأن يضيع العام 2009 من ملفات هذا الزمن وأوراقها. وأحسب أيضا.. وأيضا، أن الكبار والصغار.. الأثرياء والفقراء.. المتقدمين والناشئين - كل في موقعه وفي خضم ظروفه - سيحتفلون – من فرط سعادتهم – بعام مدمر رحل، لا بآخر مجهول آت. فمهما كانت سمات 2010، لن تكون أفظع من سابقه، ومهما كانت مصائب 2008، لن تكون بحجم ويلات تداعيات لاحقه 2009. وإذا كان الاقتصاديون درجوا على وصف الأيام التي تشهد انهيارا أو انخفاضا مريعا في الأسواق العالمية، بـ"السوداء"، يستطيع هؤلاء أن يصفوا 2009 دون تردد بالأسود، الذي جاء نتيجة الغليان الذاتي للون "الأحمر الدموي" الآتي من 2008. فهذا الأسود، هو اللون الوحيد الذي تكوَن نتيجة "مزج" الأحمر الدموي، بالأحمر الناري!.

لكن هل تُشطب السنوات بالتمنيات والقرارات؟. وهل تزول الآلام بالتجاهل والانصراف عنها؟. وهل يمكن أن تُمحى المصائب بكراهيتها فقط؟. وهل بالإمكان استبدال واقع أسود، بوهم أبيض؟!. نعم لا أحد يريد تكرارا للعام 2009، لكنه في النهاية هو امتداد لـ "عام الكارثة"، وسابق لعام يصعب تحديد ملامحه، حتى في زحمة التطمينات التي تطلق هنا وهناك، بأن الأزمة الاقتصادية العالمية، بدأت بالخروج من عنق الزجاجة، وأن الانتعاش آتٍ في طريقه. فالحمم التي قذفتها هذه الأزمة في العام 2008، غطت العام الذي لحقه، دون أي إشارات على استقرارها فيه فقط. فلا تزال الحرب المضادة التي يشنها العالم ضد الأزمة، دفاعية، ولم تدخل مرحلتها الهجومية بعد، ولا تزال هذه الحرب عبارة عن مجموعة معارك مفتوحة. ولأنها كذلك، فهي مرشحة للاستمرار في العام 2010، الذي يتمنى العالم أن لا يشبه سابقه، ولا ينقل العدوى منه. لماذا؟، لأن الأزمة العالمية، لم تُخلف "أنفلونزا" يمكن تحضير لقاح للقضاء عليها، ولا "حُمى قلاعية"، يمكن مواجهتها بالحجر الصحي (كرنتينا)، ولا وباء "جنون بقر"، يمكن إعدام أعداد من الماشية المصابة لاحتوائه، بل نشرت سرطانا، لا ينفع معه لقاحا، ولا حجْرا، ولا إعداما. سرطان لا دواء يحاربه سوى الاستئصال.

العام 2009 يمضي.. ولا يمضي!. يزول رقما، لكنه يبقى هما، وجرحا نازفا في هيكلية الاقتصاد العالمي، والمجتمع الذي يكوُنه. كان عام التداعيات والانهيارات، والإفلاس والإغلاق، والهموم والأوجاع، والتراجع والانخفاض. كان عام الجوع والفقر.. البطالة والأمية.. المحتالين والجشعين.. الديون والتشرد. كان عام "القومية الاقتصادية" المتحجرة، و"الوطنية المالية" الصلفة. كان عام.. حتى الطلاق والتشتت الأسري. لكن في النهاية كان 2009 عام الحقيقة المتأخرة. ولو ظهرت هذه الأخيرة مبكرا، ربما كان 2009 عاما ككل الأعوام، التي تأتي وتهرب وسط زحام السنوات وتدافعها، أو كتلك التي تُذكر برقمها لا بقيمتها. هذه الحقيقة تأخرت أكثر من عقدين من الزمن، لا سنة ولا اثنتين ولا ثلاث. حقيقة.. كانت مدفونة تحت أرجل "المُلهمين الاقتصاديين"، الذين قدسوا السوق، واستحقروا المجتمع، وبعضهم من ألغى هذا الأخير، كأداة من أدوات وجود الحياة أصلا!. "المُلهمون" الذين كانوا يسخرون ممن كان يحذر، من فداحة تجاوز السوق للمجتمع، ومن قدسية الأموال الوهمية. ولسان حال هؤلاء كان يقول :"لا صوت يعلو فوق صوت السوق"!، ولا مكان لمن يريد أن يجعل من المجتمع بوصلة للسوق. فهذه الأخيرة – بالنسبة لهؤلاء- هي البوصلة والربان.. وحتى نجوم السماء المرشدة للملاحين. وعلى هذا الأساس، حوَل "مقامروا الاقتصاد" المجتمع إلى سلعة تُنتج في مصانعهم!.

في العام 2009، تأكد العالم بأن عجلة الاقتصاد العالمي، كانت تدور بأموال وهمية، لا وجود لها في الواقع، وأن ثروة العالم الحقيقة – بما في ذلك تلك المدفونة تحت "البلاطة"- ليست أكثر من نصف ما يدار في الأسواق ويشكل وقودا لها. ولأنها كذلك، فقد توالت الانهيارات، بعد انفجار الفقاعات، وتداعت الصروح التي توهم "المقامرون" بأن قوة لم توجد على الأرض بعد يمكن أن تهزها!. لم يعد في 2009 مناعة لأي صرح كان، مهما كانت منغرسا في هيكلية البناء الاقتصادي. حتى الحكومات.. انهار بعضها، واهتز بعضها الآخر، وتحولت حكومات، إلى "ملاكم" يتهاوى على الحلبة، أمله الوحيد أن يعلن الحكم وقف المباراة!. لكن .. أين هو هذا الحكم الذي بإمكانه، أن يوقف "مباراة الأزمة الاقتصادية"؟!. فهذه الأخيرة، خربت المشهد، إلى درجة جعلت "الحكم" نفسه يستجدي إيقافا عاجلا واستثنائيا للمباراة!.

لقد عرَى 2009 كل الذين كانوا "مدججين" بالملابس، خصوصا أولئك الذين كانوا يستعرضون بملابسهم الـ "سينييه"، بعد أن حفِل 2008 ببداية "مهرجان العري الاقتصادي". وتساوى هؤلاء -لوهلة من الزمن- مع أولئك العراة أصلا، من فرط غياب العدالة الدولية. فالكبير لم يعد كبيرا. وإذا كان قد احتفظ برقمه الكبير، إلا أنه فقد من الهيبة، ما يوازي الرقم قيمة. وضَح العام 2009 الصورة الحقيقية للجميع، وأظهر الوزن الفعلي لكل لاعب على الساحة. وتبين أن بعض أصحاب الأوزان الثقيلة، لم تكن أوزانهم في الواقع أثقل من "وزن الريشة"، لكن الاقتصاد الوهمي، أفسح لهم المجال، لخوض مباريات في الوزن الثقيل. ماذا حدث؟، كانت اللكمة الموجهة إليهم، تساوي أضعاف قدرتهم على الصمود حتى في الجولة الأولى!.

في العام 2009 ضخت الحكومات حول العالم، ما يزيد عن 20 تريليون دولار أميركي، في اقتصاداتها، للحفاظ على مؤسساتها، وحمايتها من الانهيار، لكنها لم تستطع إنقاذ كل المؤسسات والشركات والمصارف، التي باتت تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، في مشهد تاريخي فريد. فقد أصبح – على سبيل المثال – إغلاق المصارف في الولايات المتحدة الأميركية (في العام 2009 بلغت 139 مصرفا)، خبرا يوميا أو أسبوعيا عاديا!، وبات ارتفاع عدد العاطلين عن العمل – في الولايات المتحدة وغيرها – خبرا مملا!، وصار تأميم هذه المؤسسة أو تلك، مثل خبر منشور في جريدة " البرافدا" الروسية، قبل "وفاة" الاتحاد السوفييتي السابق!. وحتى العجز في الموازنات العامة، انسحب من مقدمة الأخبار، إلى ذيلها. لقد غير العام 2009 – بفعل الأزمة الاقتصادية طبعا - نظرة العالم أجمع للأرقام. لم يعد المليار دولار أميركي رقما صعبا، بعد أن فقد هالته!. فعندما تكون الخسائر بالتريليونات، يبدو معها ذلك المليار، كمبلغ لـ "التسوق الأسبوعي"!، وعندما تحسب الأموال وهميا، تفقد قيمتها، وتتساوى المبالغ!.

لكن الأمر، ليس كذلك عندما يكون الحديث عن البشر. والخبر في هذا السياق، ليس عاديا، أو مملا. فالعام 2009 شهد – من ضمن ما شهد – تحولات اجتماعية ومعيشية كارثية، ستبقى ملازمة للمجتمع الدولي، حتى بعد تمكنه من عبور" نفق الأزمة". فقد تحول الفقراء إلى جياع.. وهؤلاء إلى موتى، أو مشاريع موتى!. وهذه لوحدها تحتاج إلى خطط إنقاذ تحسب بالعقود.. لا بالسنوات، إذا ما رغب المجتمع الدولي، بأعوام جديدة خالية من المصائب، ومن موروثات الجوع. وتحقيق منجزات في هذه القضية المتعاظمة، أو ما يشابهها، لن يتم بذهنية ما قبل 2009، بل برؤية العقود التسعة المتبقية في القرن الحادي والعشرين.

لقد أتى العام 2009، بحقيقة متأخرة، بعد أعوام من أخلاق غائبة.


الثلاثاء، 8 ديسمبر 2009

الأثرياء المدينون!



(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")










" نحن ننسى دائما، أن المال يعني الثراء، وأن الديون تعني المال أيضا"
الكاتب الفنلندي بيتر كاجاندير


محمد كركوتــي

تستطيع الدول الفقيرة أو النامية أو الناشئة ( التوصيف لم يعد مهما) الغارقة في الديون الخارجية – والداخلية إن وجدت- أن " تفخر" بانضمام الدول الدائنة إلى "ناديها" الكبير الأكثر نشاطا هذه الأيام في ضم الأعضاء. وتستطيع - ولو للحظة – أن تقول : "ما فيش حد أحسن من حد"، لأن الغني والفقير بات يجمعهما "قاسم الديون المشترك"، بصرف النظر عن حجم الدَين وطبيعته، أو عن هوية الجهات المقرضة، أو عن ضعف وقوة المقترض. فالتحولات التي "ابتكرتها" الأزمة الاقتصادية العالمية، أفرغت الاستغراب من أدواته، من فرط تأثير صدماتها "النوعية" المتتالية. فالذي كان يشكل مفارقة، أصبح بعد الأزمة، جزءا من البديهيات، خصوصا عندما يصبح المستحيل ممكنا، والممكن مستحيلا!. وفي خضم هذا المشهد المرشح للاستمرار لأجل غير مسمى، لم تعد الديون "نخبوية" من الجهة السفلى لقائمة دول العالم، بل شملت كل دول القائمة، وساوت – مع اختلافات القوة وطبيعة الديون – بين دول كزيمبابوي، أو كينيا أو لبنان أو جامايكا، وبين دول كالولايات المتحدة الأميركية أو بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا!. وعلى هذا الأساس، يستطيع روبرت موغابي رئيس زيمبابوي – حتى الموت – أن يقول ساخرا، لـ "زميله" باراك أوباما الرئيس الأميركي – حتى سقوطه في الانتخابات - : "أنت مَدين وأنا كذلك"!.

مهما كان شكل الدَين – خارجي أم داخلي – لا يخرج عن نطاق المصيبة المستمرة، طالما استمر دَينا، وتعاظم حجما، وزادت قيوده إحكاما. فالديون هي أبشع أنواع الفقر، وهي آلة من آلات "عبودية الأحرار". والدَين الصغير، "ينتج" دائنا، أما الدَين الكبير فلا "ينتج" إلا عدواً. وللرئيس الثالث للولايات المتحدة الأميركية توماس جيفرسون، توصيفا بليغا للدَين. فهو يقول:" لا تنفق الأموال قبل أن تحصل عليها". ولمصائب الديون درجات أيضا. فالمَدين الذي لا يملك شيئا، لن يملك إلا ديونا متعاظمة عليه، أما الآخر الذي يمتلك بعضا من شيء، سيتنفس قليلا، وإن كان يستحيل عليه التخلص من قيود وسلاسل الديون.

لن أتناول هنا قضية ديون الدول الفقيرة. فهذه الديون حاضرة بصورة دائمة في كل الأزمنة. ومتأصلة ليس فقط على صعيد القيود، بل من جهة المعاناة والمشاكل الاجتماعية والصحية والتعليمية وبالطبع التنموية، لاسيما بعدما تحولت إلى "أسرع سرطان" في هيكلية هذه الدول. لكن المثير للاهتمام والمراقبة، تلك الديون التي تعيش بها وعليها الدول الثرية الكبرى، والتي تحولت – مع الأزمة الاقتصادية – إلى جرح نازف، وجدت حكومات هذه الدول صعوبة – بل لنقل: استحالة- تضميده!. ومن المفارقات – التي لم تعد تصدم- أن الدول التي تحتل رأس قائمة البلدان الدائنة، هي في الواقع بلدان لا تقوى على الاستمرار إلا بالديون!. وعلى الرغم من أن غالبية هذه الدول، كانت تلجأ إلى بعض الاقتراض المحلي أو ما يعرف بالإنجليزية (الأميركية) public debt وبالإنجليزية (البريطانية) national debt ، للإيفاء بالتزامات موازناتها العامة، إلا أنها – مرة أخرى بعد الأزمة – باتت تقترض محليا (أو وطنيا) لتغطي كل نفقات هذه الموازنات، إلى درجة أصبحت معها ديونها، تتساوى أحيانا -وتفوق في أحيان أخرى - مع مجموع الناتج المحلي لغالبية الدول الثرية!. وهذا يعني أنها يجب أن لا تنفق دولارا واحدا لمدة عام كامل لتسديد دَينها العام، وبعض هذه الدول، عليها أن لا تنفق لمدة عام ونصف العام، لتحقيق الهدف ذاته. وطبقا لمنظمة "التعاون والتنمية الاقتصادية"، فإن الدول الثلاثين الأكثر تقدما في العالم، ستشهد ارتفاعا في ديونها 100 في المئة، من إجمالي ناتجها المحلي في العام 2010، وهو ما يمثل ضعفي ديونها تقريبا في غضون عشرين عاما!.

لقد ارتفعت مديونيات الدول الثرية بصورة جنونية، لأسباب عديدة، في مقدمتها: ارتفاع النفقات العامة، بما في ذلك الأموال التي ضُخت في الشركات والمؤسسات المالية الكبرى منعا لانهيارها، في أعقاب الأزمة الاقتصادية (بريطانيا لوحدها أنفقت حتى الآن أكثر من 850 مليار جنيه إسترليني على خطط الإنقاذ، بينها 131 مليار جنيه لإنقاذ المصارف)، وأيضا تراجع العوائد الضريبية نتيجة الكساد العارم وتردي حركة الاقتصاد بشكل عام، فضلا عن الدعم العام للاقتصادات الوطنية في مواجهة الأزمة. وتعطي الأرقام صورة واقعية ومرعبة في آن معا، لديون الدول المتقدمة – الثرية. فعلى سبيل المثال يصل حجم الدَين الحكومي في بريطانيا إلى 56.8 في المئة من حجم ناتجها المحلي، وقفز دَين الولايات المتحدة إلى 92 في المئة تقريبا من ناتجها، وفرنسا إلى 72 في المئة، وإيطاليا 127 في المئة، وألمانيا أكثر من 62 في المئة. والصدمة الكبرى، أن الدَين الحكومي الياباني بلغ حاليا أكثر من 170 في المئة من ناتج البلاد المحلي، ومرشح للوصول قريبا إلى 200 في المئة !.

وإذا كانت الديون تشكل مصدر تهديد للعديد من الدول غير الراسخة، فإن ديون الدول الثرية، تمثل أقوى عوامل عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها. وعلى الرغم من سمعتها ومكانتها الدولية، وإمساكها بزمام صنع القرار الاقتصادي العالمي، إلى جانب عدد جديد من الدول المؤثرة، إلا أن هذا لن يضمن الحفاظ على مستوى سمعتها إلى الأبد. فالأسواق العالمية المؤثرة، لم تصل بعد إلى مرحلة الشك في قدرة الدول المتقدمة على تسديد ديونها، وعندما تدخل هذه البلدان ضمن دائرة الشك المخيفة، فمن الطبيعي أن تتحول الأسواق عن أسهم الدول المعنية العامة ( سندات الخزينة)، وبالتالي سيتوقف الإمداد بالأموال السائلة!. وهنا ستتغير التصنيفات والتقييمات، تماما مثلما تتغير حيال العديد من البلدان النامية أو الناشئة. والمصيبة الأكبر، هي أن الحلول المطروحة – أو الممكنة – ليس كثيرة. وفي الواقع لا تزيد هذه الحلول عن حلَين اثنين. الأول: زيادة الضرائب. والثاني: تخفيض النفقات العامة. هذان الحلان، هما أسوأ الحلول بالنسبة لحكومات الدول المتقدمة، لاسيما الضعيفة سياسيا وانتخابيا منها. فهي إن رفعت الضرائب، أغضبت أصحاب الأموال – إن وجدوا في هذه الأيام -، وإن خفضت الإنفاق، استشاط ناخبها غضبا يصعب وصفه، خصوصا في مواسم الانتخابات.

إنها قضية متفجرة، لا تنفع معها "التطمينات" ببداية خروج الاقتصاد العالمي من عنق الزجاجة، أو من براثن الأزمة الاقتصادية العالمية. كما أنها بمثابة جرح مفتوح، فشلت الحكومات الثرية الغارقة في الديون، في العثور على "جرَاح" يلملمه. والذي يزيد "الطين بلة"، أنه جرح يتوسع على مدار الساعة. فعلى سبيل المثال، يرتفع الدَين العام في الولايات المتحدة، بمعدل 3.79 مليار دولار أميركي في اليوم الواحد، منذ سبتمبر/ أيلول من العام 2007!!. وفي هذا البلد تحديدا، تبلغ حصة الفرد الأميركي من الدَين العام 39 ألف و110 دولارا و35 سنتا أميركيا!. يقول الرئيس الأميركي باراك أوباما: "فور تمكننا من الخروج من الأزمة، علينا أن نضع خطة على المدى البعيد، للتخلص من العجز في الموازنة العامة، لكي لا نتركها للجيل المقبل". والواقع أن هذا النوع من الديون، يخص الجيل الحالي، تماما كما يخص الجيل المقبل، الذي لا ذنب له في تكدسها. فهي ديون متوارثة، مثلما هو حالها في الدول الفقيرة. ولعل هذه الأخيرة، تشعر بنوع ما من المواساة، بوجود قاسم مشترك بينها وبين البلدان الثرية. فالأفراد في كلا الجهتين يعانون من المديونية، مع فارق كبير بالطبع، يتمثل في أن الذين يعيشون في الدول المتقدمة، يعرفون أن يوما جديدا سيشهدونه غدا، لكن "أقرانهم" الذين يعيشون في الدول المعاكسة، لا يعرفون إذا ما كان ليومهم الذي يعيشونه غد.


الثلاثاء، 1 ديسمبر 2009

أزمة الأزمات


(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")












"متى وأينما حَلت الأزمة.. إذا استطعت توفير الطعام للناس بصورة طبيعية، فإن الأمور ستتحسن"
الأديبة الأميركي مادلين إنجلي

 
محمد كركوتــي
 
لا أعرف إن كان القادة الكبار يستطيعون الفوز بنوم هانئ، وأزمة الغذاء العالمي تفوق الأزمة الاقتصادية العالمية مصائب وهموم ومحن؟!. ولا أدري إن كان هؤلاء يتذكرون جوعى هذه الدنيا، وهم يتناولون فطورهم الإنجليزي الدسم، أو الفرنسي "الأنيق"، أو فطور "كونتيننتال" الشامل بعسله وعصيره ومكوناته الأخرى؟!. كلما تناولت قضايا الغذاء والجوع والفقر، أتذكر قول رئيس الوزراء البريطاني الراحل هارولد ويلسون: "إن أفضل جائزة لرئيس دولة، أن يستطيع النوم ليلة هانئة". فالمسؤوليات هي أقوى أنواع المنبهات، وعدم الشعور بالمسؤولية هو أقوى أنواع المنومات، وهذه الأخيرة، وإن وفرت نوما هانئا لليلة، فهي تُخلف يوما مرعبا بعدها. وعندما أبلغ القادة العسكريون البريطانيون رئيس وزرائهم ونستون تشرتشل خلال الحرب العالمية الثانية، عن احتمالات نجاح القوات النازية الألمانية باحتلال المملكة المتحدة ( كانت قد احتلت فرنسا أصلا)، استفسر تشرتشل (القائد الفعلي لقوات التحالف آنذاك) عن شيئين: متانة القضاء في بلاده، والاحتياطي الغذائي فيها. فقد كان يعرف أن الشح الغذائي، يصيب الصمود بالعدوى، في حرب كان فيها الصمود، أقوى أنواع الأسلحة.

منذ سبعينات القرن الماضي، تبدل مفهوم الأمن الغذائي العالمي، وتبدلت معه المشاعر الإنسانية الحارة إلى حرارة الثلج، وأصبحت الرفاهية المحلية، أكثر قدسية، من إطعام طفل يلفظ أنفاسه جوعا ( في ظل أزمة غذاء عالمي مرعبة)، ومن توفير مياه صالحة حتى للشرب الحيواني. فالمياه في بعض الدول النامية ملوثة وكريهة، يعف عنها حتى الحيوان!، ولذلك.. لا غرابة في رؤية الأقفاص الصدرية لها ولمربيها بادية للعيان. وأمام هذا المشهد يصعب العثور على مبررات لما يحدث، حتى لو كانت الأزمة الاقتصادية العالمية في أوج ثورانها، وحتى لو كانت الأموال تضخ في المؤسسات والبنوك من أجل بقاءها على قيد الحياة، وحتى لو كانت ديون الدول الكبرى، تساوي مجموع نواتجها الوطنية، وحتى لو ولدت أزمة هنا وأخرى هناك، من رحم الأزمة العالمية الكبرى. وإذا كان لا بد من توصيف ما لأزمة الغذاء العالمي، يمكن القول بسهولة ( ومن دون حذر) :"إنها أزمة الأزمات". دون أن ننسى بأنها ولدت قبل الأزمة الاقتصادية، "متسلحة" بعمر مديد، يفوق مجموع أعمار الأزمات كلها التي انطلقت منذ منتصف القرن الماضي وحتى يومنا هذا.

في العالم اليوم يموت طفل من الجوع كل ست ثواني!. وفي العالم نفسه ( وليس غيره) هناك 1,02 مليار جائع. ما يساوي شخصا واحد من كل ستة أشخاص!. وهذا لا يعني أن الأشخاص الخمسة الباقين، يعيشون حياة رغيدة. فبينهم اثنان على الأقل يعيشون على دولار أو دولارين أميركيين في اليوم. أي أنهما مرشحان للانضمام في أية لحظة إلى الجائع الأول. وإذا كنا نتحدث عن "عالمية" الجوع، فإن عدد سكان العالم سيصل إلى 9,1 مليار نسمة بحلول العام 2050، وهذا يتطلب زيادة في حجم زراعة الغذاء بنسبة 70 في المئة. والدول النامية تحتاج إلى زيادة حجم الاستثمارات الزراعية السنوية بنسبة 50 في المئة، أو ما يعادل 83 مليار دولار أميركي سنويا، في حال أراد العالم إنتاج ما يكفيه من غذاء بحلول العام 2050. وتمضي "منظمة الأغذية والزراعة " ( المعروفة اختصارا بـ "الفاو") التابعة للأمم المتحدة، أبعد من ذلك، عندما تقول:" في حال عدم تخصيص الآن – وليس غدا- مزيد من الأراضي في العالم لإنتاج المواد الغذائية، فإن 370 مليون شخص قد يواجهون المجاعة بحلول منتصف القرن الحالي"!.

ولنا أن نتخيل استحالة (ولمزيد من المرونة) نقول: صعوبة تحقيق ذلك، في ظل ظروف مناخية قاسية تقدم القحط على الزرع، وبالطبع في ظل عدم اكتراث عالمي بمستقبل العالم نفسه!. أمام هذا المشهد المخيف، أخفقت الدول الكبرى ومعها الصغرى بالطبع، في الوصول إلى نتائج عملية، في تحقيق " أهداف الألفية" التي وضعتها الأمم المتحدة في العام 2000 ، من أجل خفض عدد الجياع إلى النصف بحلول العام 2015 . ماذا حدث ؟. انضم إلى الجياع أكثر من مئة مليون جائع!. فاللقمة التي كان يتقاسمها 900 مليون من البشر، يتقاسمها الآن 1,02 مليار بشري!!.

وفي "قمة الغذاء العالمية" التي عقدت في روما ( نوفمبر/ تشرين الثاني 2009 )، بات المشهد المريع للجوع، أكثر وضوحا، وأشد وطأة، وأكبر مصيبة. فلا قرارات ناجعة اتخذت، ولا التزامات مسؤولة طرحت، ولا فهم لمستقبل "اللقمة" بدا على ساحتها. والنتائج جاءت – كما كان متوقعا – باهتة، لا طعم لها. صحيح أن اجتماعا واحدا لا يمكن أن يحل مشكلة أخذت مكانتها في التاريخ، لكن الصحيح أيضا، أن أحدا من الكبار، لم يتعاطى مع المسألة بصورة إستراتيجية. أي أنه لم يحاكِ المستقبل، في قضية تمثل المستقبل نفسه. لن أتحدث هنا عن الإهانة التي تلقاها العالم، من غياب الغالبية العظمى لقادة الدول الغنية عن قمة روما ( لم يحضر من قادة مجموعة الثمانية الكبار سوى رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني، ولولا انعقاد القمة في بلاده لما حضر!). فقد أرسل هؤلاء رسائلهم المرعبة حول مستقبل الغذاء في العالم، بمجرد عدم الحضور والمشاركة، ليس فقط في وضع الحلول المطلوبة، بل وفي قراءة مستقبل الأمن الغذائي بشكل عام. ماذا نتج عن قمة باهتة كهذه؟، وعود عامة بالحد من المجاعة. متى؟، في "أقرب فرصة ممكنة"!!. والشيء المرعب لا يتوقف انتشاره عند هذا الحد، بل يشمل أيضا، عدم طرح الأسباب الحقيقية للأمن الغذائي والمجاعة على جدول الأعمال!. يا إلهي.. قمة عالمية من أجل الغذاء، لا تناقش أسباب المجاعة؟!. ولم ينفع صيام كل من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ورئيس منظمة "الفاو" جاك ضيوف، لمدة 24 ساعة، في خطوة رمزية تمهيدا لقمة روما. فالذي حدث أن الاثنين تضورا جوعا ليوم واحد فقط!.

وأمام هذه الحقائق المروعة، ضاعت قضية ارتفاع أسعار المواد الغذائية، المرشحة إلى الصعود بصورة مخيفة في منتصف العام 2010. وإذا كان ليس مهما البحث في أسباب الجوع، فإن طرح قضية ارتفاع الأسعار، يبدو أمرا مضحكا!. هذا الواقع "برر" رفض الدول الكبرى الالتزام بجدول زمني للقضاء على الجوع بحلول العام 2025. ولنا أن نعرف – على سبيل المثال- أن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، يحتاج الآن – مرة أخرى ليس غدا – إلى مليار دولار أميركي لإطعام 20 مليون شخص في شرق أفريقيا على مدار ستة أشهر فقط، بينما تحتاج دولة مثل أثيوبيا – لوحدها- نصف هذا المبلغ!. وبينما تتهم الدول الكبرى بعضها البعض في تلويث الكرة الأرضية، وتجنب بعضها التعاون للحد من التدمير البيئي والتغيير المناخي، فإن هذا التغيير الخطير، يؤدي إلى انخفاض الناتج المحتمل للغذاء في القارتين الإفريقية بنسبة 30 في المئة، والآسيوية بمعدل 21 في المئة!. أي أنه يجب أن لا يحلم أحدا منا، بتحسن الأداء الزراعي لاسيما في الدول التي تحتاج إلى لقمة العيش اليومية، لا إلى "الكفيار"، ولا إلى "السلمون المدخن"، ولا إلى "لبن العصفور"!.

إن أهم مصائب أزمة الغذاء العالمي، أن الغالبية العظمى من الدول الكبرى، تتعاطى معها كـ "أزمة اقتصادية". ولأنها ترتبط باللقمة، فهي ليست "اقتصادية"، بل هي "أزمة ضمير"، لايمكن أن تُحل، بمعاول الاقتصاد لوحدها، بل بالدافع الإنساني أيضا.