الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

سرطان "وول ستريت"!


( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )






" في الكونجرس.. كل نكتة هي قانون، وكل قانون هو نكتة"
الممثل الفكاهي والمعلق الأميركي ويل روجرز


محمد كركوتــي

لم يكن المخرج الراديكالي الأميركي مايكل مور متحاملا أو متجنيا على سوق المال والأعمال الأميركي الشهير "وول ستريت"، عندما وضع شريطا على مبنى هذه السوق في فيلمه "الرأسمالية.. قصة حب"، كتب عليه "مسرح الجريمة". ولو وضع الشريط نفسه على البيت الأبيض في واشنطن، لما خرج عن النص. فـ "راديكالية الجريمة" التي ارتُكبت في هذه السوق، أجازت راديكالية المخرج وخففت من عنفها، حتى عند أولئك الذين يرون في التشدد أشياء لا تواكب تطورات العصر، ولا تحاكي متطلبات المستقبل. الجريمة ارتُكبت في "وول ستريت" لكن ضحاياها وقعوا في كل الأسواق، وأوقعوا معهم أشد الصروح مناعة، وأكبر الخطوط الدفاعية قوة، بعدما نالت من الأسس التي يقوم عليها المجتمع الدولي قاطبة. وعندما تخرج الجريمة عن نطاق مسرحها، تتحول إلى أزمة محلية، وعندما تمتد أكثر تتبدل إلى مصيبة وطنية، وعندما تتجاوز إطارها المحلي – الوطني، تصبح كارثة دولية – تاريخية، لتكون قضية "هم عام"، لا رأي عام.

في عالم الجريمة، يقع المجرمون في أيدي السلطات، ويُلاحق من استطاع منهم الإفلات إلى أن يقع، ليمثل أمام عدالة الأمة. لكن مجرمي "وول ستريت" الذين وقعوا لم يقفوا أمام هذه العدالة، وأولئك الذين لم يقعوا بعد، لا يزالون يقاومون محاولات القبض عليهم -إن وجدت أصلا – ويحرصون في الوقت نفسه، على إبقاء ما أمكنهم من "الكتل" السرطانية داخل السوق، والسعي الدائم لنشرها على أوسع نطاق، وبأقل ضجيج ممكن. ولعل هذا النوع من المجرمين، هم الوحيدون الذين يقاومون الوقوع والنهاية، بالحفاظ على السوق ملوثة ومصابة، لا عن طريق التخفي. وهم بذلك يحاولون – بكل الوسائل- حماية ما تبقى من "أيديولوجية وول ستريت"، التي كان من المفترض أن تسقط في أعقاب اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، ولو لم يكن هناك "ملهمون اقتصاديون حكوميون"، لسقطت هذه الأيديولوجية قبل وقوع الأزمة نفسها. فغالبية حكومات الدول صانعة القرار الاقتصادي العالمي، كان تتعاطى مع هذه السوق و"زميلاتها" الأخريات، على أنها منزهة عن الأخطاء، ومنيعة من الانهيار، وطاهرة من الآثام.. وقبل هذا وذاك، قوية لا تهزها حتى الزلازل الكبرى!. بل وقفت هذه الحكومات في وجه أولئك الذين طالبوا فقط بضرورة فرض رقابة – ولو مستترة – على هذه الأسواق.

لقد دمر "سرطان وول ستريت" كل شيء، بما في ذلك الأخلاق، وهز أركان الدولة الاتحادية الأميركية، وشت قوة الإدارة المركزية لهذه الدولة، إلى درجة دفعت تيارا انفصاليا في عدد من الولايات الأميركية، للمناداة برفض تطبيق القوانين الاتحادية، لأن الجهات التي تصدرها لا تَحُكم نفسها، بل تُحَكم من "مسرح الجريمة" في "وول ستريت". وقد شعرت إدارة الرئيس باراك أوباما، بآثار العمليات الاحتيالية والوهمية التي تجري في هذه السوق، حتى في أعقاب وقوع الجريمة. فلا تزال مؤسسات أميركية كبرى تقاوم .. وتقاوم ما أمكنها من القواعد التنظيمية لنشاطاتها وأعمالها. ولا تزال السوق التي تحتضنها تعج بـ "المضاربات المتهورة"، التي كانت – لمن نسي- السبب الرئيسي في انفجار الأزمة. وهذا ما دفع أوباما، إلى إطلاق حملة "توبيخية" جديدة لمؤسسات "وول ستريت"، لعدم تقدمها خطوة واحدة باتجاه تشجيع الإقراض للشركات الصغيرة، التي وضعتها الأزمة، في صف المنقذين المؤهلين للاقتصاد الوطني. ووبخها أيضا لأنها لم تتعلم من "تجربة الأزمة".

صحيح أن خطط التحفيز (الإنقاذ) التي وضعتها الإدارة الأميركية السابقة والحالية، لم تنضج بعد، وتحتاج لمزيد من الوقت، لكن الصحيح أيضا، أن تعاظم مقاومة الإصلاحات في "وول ستريت"، تساهم في إبطاء تسارع مركبة الإنقاذ، التي تسعى إلى منع حدوث انهيار مالي جديد، يمكن أن يدمر ما تبقى من الاقتصاد المحلي والعالمي أيضا. والواقع أن مقاومة "ملهمي" – أو مجرمي وول ستريت لا فرق – لا تنحصر في الإجراءات الرقابية أو التنظيمية التي وُضعت في أعقاب الأزمة، بل تشمل أيضا القوانين المزمعة التي لا تزال في أروقة مجلس النواب الأميركي. وهذه القوانين هي بمثابة "سلاح دمار شامل" لهؤلاء. لماذا؟.. لأنها ستأتي بآليات تشدد القيود على تداول الأوراق المالية ومشتقاتها، وستؤسس لجهة رقابية استهلاكية جديد للمنتجات المالية برمتها، وستضع إصلاحات تنظيمية ستضمن متابعة – وبكلمة أكثر ملائمة : تتبع - كل المؤسسات المالية كمجموعة موحدة. أي أنها لن تُبقي "الحبل على الغارب"، في مسألة القروض المنفلتة ولا الإقراض الذي يستند إلى ضمانات وهمية، ولا التداول المالي – وغيره- وفق قواعد "المقامرة"، هذا إن وجد لـ "المقامرة" قواعد أصلا. بمعنى آخر، أن القوانين المزمعة، لن تترك مساحة للتحرك، أمام أولئك الذين عملوا- على مدى عقدين من الزمن- " البحر طحينة"، حسب المثل المصري الشهير!.

القضية ليست مرتبطة فقط بمدى مقاومة مَن تبقى من "مجرمي" السوق في أماكنهم، لما طرح وما سيطرح من قواعد وقوانين وضوابط ورقابة وغيرها. بل تتعلق بوجود هؤلاء أصلا في مواقعهم، ومدى تأثيرهم على الحراك التنظيمي – الإصلاحي الذي تسعى الإدارة الأميركية إلى تطبيقه، قبل فوات الأوان، لاسيما بعد معاناة من " فوات أوان" أفضى إلى كارثة يعيشها العالم أجمع الآن، رغم كل ما يقال عن الانتعاش البطيء أو التعافي المتوقع في العام المقبل. إن القضية تتطلب -بالإضافة إلى قوانين وإصلاحات ومراقبة ومتابعة – إقصاء تاما لهؤلاء عن الساحة الاقتصادية في "وول ستريت" وفي البلاد كلها، وإعادة تقييم أولئك الجدد الذين دخلوا السوق في أعقاب الأزمة. فغالبية هؤلاء هم من تلاميذ "الملهمين – المجرمين" السابقين، ولن يرضوا بأرباح وإنجازات واقعية، فقد أدمنوا على "استثمارات الفقاعات". وعلى هذا الأساس، فعملية "الغربلة" للكوادر الجديد، تبدو مسألة ملحة الآن. لماذا؟.. لأن سن القوانين، لا يرتكز نجاحها وتمريرها على المُشرعين فقط، بل على المعنيين مباشرة في تنفيذها أيضا، وهؤلاء يستطيعون – كما يحدث في الوقت الراهن- "سن" قوانين سرية مقاومِة. ولأن العلاج الأمثل والأجدى لمقاومة السرطان هو استئصاله، على إدارة الرئيس الأميركي، أن تبدأ عملية استئصال جديدة، وعليها أن تعرف أن "التوبيخ الدوري" الذي توجهه لهؤلاء، لن يسفر إلا عن "مانشيتات" باهتة لوسائل الإعلام.

يقول رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل، في وصف عنيف للاقتصادي الجشع والمحتال والنصاب: " نكون غير أخلاقيين، لو تركنا هذا المصاص يحتفظ بأمواله". وهذا ينطبق على من كانوا – وبعضهم لا يزال – يمسكون بزمام الأمور في الأداء الاقتصادي العام والاستثمارات المالية وغيرها – لاسيما في سوق وول ستريت - وفق "قواعد" المقامرين، وأحيانا على طريقة قطاع الطرق. لكن الأهم من هذا، أن لا يستمروا في الحفاظ على مواقعهم، بما في ذلك أولئك الذين أتوا من تحت عباءاتهم، وولدوا وظيفيا في مكاتبهم. لا .. لا ينفع التوبيخ، ولا التشهير، ولا حتى العقاب، فالذي ينفع هو إخراج هؤلاء من غرفة القيادة الاقتصادية - المالية. وإذا كان أوباما يعمل على تكريس التعاون الدولي في مواجهة الأزمة التي ارتكبتها "وول ستريت"، ونشرت حممها في كل الأرجاء، عليه أن يقنع المجتمع الدولي، بأن "مسرح الجريمة"، بات خاليا من المجرمين، بعد أن خلت البلاد من الإدارة السياسية التي وفرت لهم أقوى حماية، قياسا ببقية الإدارات الأميركية السابقة، التي ساهمت هي الأخرى – بشكل أو بآخر- بتوفير أنواع أخرى من الحماية.

إنها مسألة استئصال.. لا توبيخ، وقضية وجود.. لا توزيع أدوار. وإلى أن يتم العمل وفق هذا التوصيف، ستظل "المانشيتات" الباهتة على الساحة، وسيواصل السرطان انتشاره بخبث.




الأحد، 25 أكتوبر 2009

جمعيات ماذا؟!



( هذا المقال خاص بموقع " سي إن بي سي عربية" )









" لإسرائيل الحق في محاكمة الآخرين، لكن لا أحد يحق له محاكمة اليهود ودولتهم "
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق (المغمى عليه) أرييل شارون



محمد كركوتــي

سقط الرئيس الأميركي باراك أوباما في الامتحان الفلسطيني – الإسرائيلي الأول. فلم يعد ( مع إدارته) متشددا في مسألة تهويد مدينة القدس المحتلة، ولا في توسيع المستعمرات الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية. وتوبيخه المعلن للإسرائيليين على هاتين القضيتين المحورتين، تحول إلى صمت معلن أيضا. ويبدو أن سقوطه في الامتحان الأول، يؤسس لسقوط آخر في امتحان ثان مرتبط بإعفاءات ضريبية تتمتع بها المؤسسات والشركات الأميركية – وحتى الأفراد - التي تتبرع لـ " الجمعيات الخيرية" اليهودية. فلم يحرك الرئيس الأميركي ساكنا – حتى الآن – تجاه إعادة النظر في الإعفاءات الضريبية لهذه المؤسسات، بعدما تأكد للجميع، بأن متلقي تبرعاتها، يدفعون بالأموال الهائلة، ليس للتعليم ولا الفنون ولا لحوار الحضارات، بل للمستعمرات والمشاريع الجارية حاليا لتحويل القدس المحتلة، إلى مدينة يهودية صرفة، بعد أن يُقذف أصحابها إلى الجهة الأخرى من جدار الفصل العنصري المُهين، ولا بأس لو قذفوا إلى ما بعد حدود فلسطين نفسها. ويكفي أن نعلم، أن الحكومة الإسرائيلية رصدت ضمن ميزانيتها للعام المالي 2009 – 2010 ما يزيد عن 167 مليون دولار أميركي لإتمام عملية التهويد المتواصلة!، بعدما خصصت قرابة الـ 50 مليون دولار لتوسيع مستعمرتي "معالية أدوميم" و " جبل أبو غنيم"!.

في غضون ثلاث سنوات، قدمت "الجمعيات الخيرية" اليهودية الأميركية أكثر من 133 مليون دولارا أميركيا لدعم المستعمرات الإسرائيلية، وحصلت جمعية يهودية صهيونية واحدة، هي "إتيريت كوهانيم" على أكثر من 30 مليون دولار في عام واحد، لدعم جهود طرد 250 ألف فلسطيني من القدس الشرقية، لدمجها ديموغرافيا ( وجغرافيا بالطبع) بالقدس الغربية "المهودة أصلا". ومع ذلك لا تزال هذه الأموال – وغيرها – محصنة من الضرائب الأميركية، وهي ببساطة أموال يقدمها دافع الضرائب الأميركي غصبا عنه، أو في الأفضل الأحوال، يقدمها دون أن يعلم. ولا بد أن أوباما يعرف بأن هناك المئات من المؤسسات التي تقدم هذا النوع من التبرعات، مخالفة للقوانين الأميركية، التي تحظر على الجمعيات الخيرية – أيا كانت - الانخراط في نشاطات سياسية. وإذا كان قد "نسي" ، فقد وضعت مجلة " فوربس" الأميركية مؤخرا 12 جمعية يهودية في الولايات المتحدة، ضمن قائمة أكبر 200 جمعية في البلاد. ولمزيد من "التذكير" يبلغ مجموع اليهود في الولايات المتحدة 6,4 مليون فقط من أصل المجموع الكلي للسكان البالغ 307,784,000 .

والمريع في الأمر، ليس فقط سكوت الإدارة الأميركية عن المخالفات و "الجرائم" الضريبية في بلادها، بل أن القانون الأميركي ينص – يا للمصيبة – على أن أي جمعية خيرية إسرائيلية معترف بها، أين؟ في القانون الإسرائيلي، تخضع تلقائيا للإعفاءات الضريبية، أين أيضا؟ في الولايات المتحدة!. وللمزيد من الصدمة، فإن مثل هذا الامتياز لا ينطبق على الكثير من دول العالم!. ولكي تتحول الصدمة إلى ذهول، أظهرت دراسة للبروفيسور في الجامعة العبرية الإسرائيلية إيليز جاف، أن عدد "الجمعيات الخيرية" في الدولة العبرية يبلغ 27 ألف جمعية!، وجميعها معفاة من الضرائب. أي أن هذا العدد الهائل من الجمعيات، يحظى أيضا بالإعفاءات الأميركية التلقائية!!.

لا تزال سلطات الضرائب الأميركية ترفض الدعاوى المرفوعة ضد "الجمعيات الخيرية" اليهودية. ففي القضايا الإجرائية هناك آلاف المسارب و"الأزقة"، يمكن أن توفر حماية أو مبررات لرافضي هذه الدعاوى من "رجال ونساء القانون". لكن على الصعيد السياسي، تكون "الأزقة" محدودة، والانكشاف سريع جدا. وطبقا للمحامي الأميركي إيريك لويس، فإن الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية، فيما لو رغبت الإدارة الأميركية في منع التبرعات الخبيثة – المدمرة، من خلال أمر تنفيذي. لكن لا تبدو في الأفق، أي إشارة إلى تحرك أميركي حكومي، حيال قضية لا تخص الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، بل ترتبط بالمواطن الأميركي نفسه، الذي يدفع جزءا من فاتورة توسيع المستعمرات وتهويد القدس ونقل واستيعاب المهاجرين اليهود، وقبل هذا وذاك، القضاء على ما تبقى من الهوية الفلسطينية انتسابا ووجودا.

يقول أول رئيس لوزراء إسرائيل ديفيد بن غوريون، في هجومه على ما كانوا يعترضون على بناء المستوطنات اليهودية على الأراضي الفلسطينية: " إنكم لا تعرفون حتى أسماء المناطق الفلسطينية التي بنينا عليها قُرانا. وأنا لا ألومكم، لأن كتب الجغرافية لم يعد لها وجود". لا شيء يعزز هذا التوصيف العنصري الإجرامي، سوى الأموال المتدفقة إلى القرى والمستعمرات اليهودية – الصهيونية. ولا أعرف إن مر ما قاله بن غوريون على الرئيس الأميركي، الذي يرغب بأن ينظر إليه الفلسطينيون بصورة مختلفة عن زملائه السابقين.



الثلاثاء، 20 أكتوبر 2009

هل تفكك الأزمة الولايات المتحدة الأميركية؟!


  (هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")











" أميركا بلد يافع بذهنية عتيقة "
الفيلسوف والشاعر الإسباني جورج سانتايانا


محمد كركوتــي

أحسب أن زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لا دن – إن كان على قيد الحياة – سوف يقرأ هذا المقال باهتمام شديد، وسيوزعه على من تبقى من أعوانه. فهو أحد "المبشِرين" – عن جهل بالطبع – بأن الولايات المتحدة الأميركية سوف تتفكك في يوم من الأيام، وكذلك يرى "زميله" زعيم طالبان الملا عمر الممتلئ جهلا، ومعهما "الفيلسوف" أيمن الظواهري الذي تحول منذ سنوات إلى "محلل صحافي" بعدما فقد تنظيمه الإرهابي الكثير من الإمكانيات، وخسر المزيد من الأتباع. لكن القضية ليست كما يتمنى ويدعو هؤلاء، فلا يمكن لـ "دعواتهم" أن تتحقق، لأن دعوات الضالين لا تستجاب ولا قيمة لها. غير أن الفشل المؤكد لهذه التمنيات والدعوات، لا يلغي حراكا أوجدته الأزمة الاقتصادية العالمية على الساحة الأميركية، يهدف إلى تعزيز مشاعر انفصال بعض الولايات عن هيكلية "الاتحاد الوطني" الأميركي، ويسعى إلى إبعاد هذه الولايات، عن واجباتها الاتحادية، لاسيما في أوقات الأزمات. وكما خلقت الأزمة في العالم – وخصوصا في أوروبا - ما يمكن تسميته بـ " القومية الاقتصادية"، أي تراجع مشاعر الإقبال والاندفاع نحو الاتحاد، لحساب المشاعر الوطنية والقومية من الناحية الاقتصادية – المعيشية، كذلك فعلت في بلد كالولايات المتحدة. فقد أججت مشاعر – بصرف النظر عن قوة تأثيرها أو مدى اتساع رقعتها – على الساحة الأميركية، تشبه إلى حد بعيد تلك التي انتشرت في عدد من الولايات الأميركية في منتصف القرن التاسع عشر، ودفعت شرائح اجتماعية – وحتى سياسية وفكرية – في بعض الولايات، لإعادة طرح قضية من المفترض أنها انتهت منذ عهد الرئيس الأميركي الشهير أبراهام لينكولن، ووضعت في الواجهة مفردات ظننا أنها ليست موجودة إلا في سجلات التاريخ. فالشح المالي، ومعه الفوضى الاقتصادية التي أحدثتها الأزمة، أحييا أشياء لم تكن في الحسبان، لا عند "الملهمين" الذين ارتكبوا الأزمة، ولا عند غيرهم من الذين اكتووا بنارها ويعيشون بين براثنها.

أميركيون مهتزون في مشاعرهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم الاتحادية، وجدوا أن الأزمة أتت بـ "وحش" ضار، لا يمكن مجابهته إلا من خلال ضخ المزيد من الأموال. وبما أن الأموال تبخرت – بفعل الأزمة- فلا يوجد على الساحة إلا أموال الضرائب القاسية، من أجل تنفيذ خطط الإنعاش الاقتصادي التي وضعتها الإدارة الأميركية، خصوصا وأن " مهزوزي المشاعر"، لم يلمسوا بعد انعكاسات إيجابية، من جراء ضخ الأموال الهائلة. فالتداعيات والآلام والمصائب هي..هي. ولأن الأمر كذلك، أخذ هؤلاء يدفعون مرات ويحثون مرات أخرى القائمين على ولاياتهم، لا لكي يوقفوا (أو يقللوا) التمويل عن الحكومة الاتحادية، بل لإبطال القوانين الفيدرالية، التي تربط قلادة الدولة وعقدها. ويمضي بعض هؤلاء أبعد من ذلك بالتشجيع على الانفصال!. فالدولة الاتحادية – حسب رؤيتهم – لم تعد مؤهلة للقيادة، والتوجهات المستقلة، توفر ضمانات اقتصادية ومعيشية جيدة، خصوصا في ظل الأزمة. والثقة لدى هؤلاء تجاه " اتحادية الدولة"، لم تتراجع بفعل الأزمة فقط، بل بسبب قناعتهم بأن الحكومات الاتحادية، ليست سوى منفذ لأوامر وتوجيهات.. وتوجهات سوق المال الأميركي "وول ستريت"، على الرغم من كل الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الحالية، لكبح جماح هذه السوق، التي صنعت بالفعل كارثة، انغرست في التاريخ كأزمة عالمية شاملة، نالت من أكبر المصارف قاطبة، ومن راتب عامل النظافة في الوقت نفسه.

والحقيقة أن التيار المعادي للدولة المركزية الأميركية، كان موجودا قبل الأزمة، ولكن رقعته اتسعت بصورة واضحة وبمؤثرات صوتية مسموعة في أعقابها. أي أن إدارة الرئيس باراك أوباما ليست مسؤولة عن صعود هذا التيار وارتفاع صوته، لاسيما وأنها ورثت – من ضمن ما ورثت من مصائب – أزمة اقتصادية لا تحدث إلا مرة كل مئة عام، حسب توصيف "الملهم" الاقتصادي الأكبر ألان جرينسبان رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي السابق، فضلا عن وراثتها لمجتمع مهزوز ملوث بقوانين وقرارات إدارة كان رئيسها " يفسر ويحلل" بأن واردات بلاده تأتي من الخارج!، دون أن نتحدث عن فشله حتى في قراءة موجزة ومبسطة لميزانية بلاده!.

بعد انفجار الأزمة، أصبح تدخل الدولة الاتحادية أكثر قوة وشراسة في الاقتصاد، مما وضع الكثير من القطاعات والأعمال ومصادر الدخل التي كانت تنعم باستقلالية ضمن نطاق ولايتها، في أيدي الحاكمين في واشنطن. ومع الارتفاع المتزايد والخطير في النفقات الحكومية، وجد "التيار الانفصالي" – إن جاز التعبير – أنه من الضروري حماية المؤسسات والمعايير المحلية، التي اضمحلت أو تراجعت في "وجبة" الاستحواذ الاتحادي الطارئ. وفي ظل "الهجمة" الاتحادية، شعر " الانفصاليون" بأن الوقت قد حان، لرفع "الكارت" الأصفر، في وجوه أولئك القابعين في واشنطن، و"الكارت" الأحمر في وجوه أولئك اللاعبين في "وول ستريت". أراد " الانفصاليون" بهذه "الكروت" تحذير السياسيين بالأصفر، وطرد وزجر الاقتصاديين بالأحمر. والذي ينبغي أن يدفع واشنطن للتأمل أكثر في هذه القضية، أن الجماعات الانفصالية، باتت موجودة على الساحة في عشر ولايات على الأقل، من بينها فيرمونت وتكساس وألاسكا وهاوي. بل أن حاكم تكساس ريك بيري أعلن على الملأ، أنه يؤيد الانفصال، ومضى أبعد من ذلك، عندما لم يعترض على ما قاله المتحدث باسم الحركة القومية في هذه الولاية ديف موندي : بأن الدولة الاتحادية باتت متفتتة!. أي أن الأجواء الرسمية في هذه الولاية، باتت ضمن إطار الطرح الانفصالي.

والواقع أن الولايات المتحدة شهدت في السابق تحركات انفصالية استطاعت أن تحقق أهدافها لفترة من الزمن، أدت إلى اندلاع حرب أهلية بين الولايات نفسها، عندما رفضت سبع ولايات الإصلاحات الإنسانية – لاسيما في مسألة العبودية – التي وضعها الرئيس أبراهام لينكولن. ولم تكن هذه الحرب دموية فحسب، بل كانت أيضا طويلة استمرت من العام 1861 إلى العام 1865. فقد اعتبر الانفصاليون آنذاك، أن قوانين الحد من العبودية تصيب أعمالهم بخسائر فادحة، بل هناك من نظر إليها كحرب اقتصادية "اتحادية" موجهة ضدهم!.

لن تحدث حرب أهلية في الولايات المتحدة لا من أجل الانفصال ولا من أجل أي هدف آخر، لأن الاتحاد اليوم يقوم على أسس أكثر رسوخا وأعمق نضوجا. لكن هذا لا ينفي وجود النشاط الانفصالي في عدد مهم من الولايات. صحيح أن دعاة الانفصال لا يزالون قلة، وإن كانت أصواتهم صاخبة. وصحيح أن طرحهم هذا اليوم، لن يستحوذ على قلوب وعقول الأغلبية العظمى من الأميركيين، لكن الصحيح أيضا، أن تيارا مصاحبا – وليس متفقا – مع هؤلاء، بدأ يظهر وبتماسك على الساحة، يدعو إلى ضرورة منح الولايات مزيدا من السلطات والصلاحيات. والذي يُكسب هذا الطرح أهمية كبيرة، أنه يحظى بتأييد متنام ليس من الانفصاليين، بل من الاتحاديين أنفسهم. ولأنهم يقدمون قضيتهم هذه بصورة منطقية – لا غوغائية أو عصبية – فقد بدأ نفوذهم يتزايد ويحظى بآذان تسمع وعقول تفكر، خصوصا وأن الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأميركية لمواجهة الأزمة الاقتصادية، لم تظهر آثارها الإيجابية على الساحة بعد، والأمر يحتاج لمزيد من الوقت، ولنقل لسنوات، وهذا أمر يصب في مصلحة الفكر الانفصالي الأميركي – إن جاز وصفه بالفكر – ويدعم توجهات دعاته. فهؤلاء يرفعون شعارا جذابا على الصعيد المحلي. شعار في صيغة سؤال غير مباشر: لماذا ندفع فواتير مشتريات ليست لنا؟!. هذا السؤال يتزامن من إعلان ميزانية اتحادية سجلت عجزا لا مثيل له منذ أربعينات القرن الماضي، بلغ 1417 مليار دولار أميركي، وسط توقع الحاكمين في واشنطن، بأن أداء البلاد الاقتصادي لن يتحسن في العام 2010.

وإذا كان الأزمة العالمية، أوجدت " قومية اقتصادية" في العالم أجمع، فقد خلقت نوعا من "القومية المحلية الأميركية"، قد تتحول إلى حاضر دائم في المستقبل.


الأحد، 18 أكتوبر 2009

الرأسمالية.. الموت حُبًا!



(هذا المقال خاص بموقع "سي إن بي سي عربية")








" في ظل الرأسمالية.. الرجل يستغل الرجل، وفي الاشتراكية العكس هو الصحيح "
مثل شعبي بولندي


محمد كركوتــي

لو كنت قريبا من المخرج الأميركي الراديكالي الصادم الشجاع مايكل مور، لاقترحت عليه اسما آخر لفيلمه " الرأسمالية.. قصة حب"، رغم أن الاسم الأصلي يعبر بلاغيا عن هيكلية الفيلم ومحتواه. كنت سأقترح على مور عنوان: "الرأسمالية.. الموت حبا". وإذا كنا نستطيع بسهولة "ضبط" المخرج الأميركي كـ "سارق" لاسم فيلمه، من الفيلم الأميركي الشهير الذي عرض عام 1970 " قصة حب" أو Love story ، فيمكن للجميع أن "يضبطوني" كـ "سارق" لاسم الفيلم الذي اقترحته، من فيلم فرنسي شهير آخر عرض عام 1961 هو "الموت حبا" أو Mourir d'amour . ومنعا لـ "التصادم" وجدت مناسبا أن أقترح حلا وسطا للاسم: "الرأسمالية.. قصة حب نحو الموت" أو Capitalism .. A love story to death!!.

كان من المؤكد أن "تصعق" الأزمة الاقتصادية العالمية شخصا مثل مايكل مور. فمثل هذه القضايا تصب في  صلب اهتمامه وطبيعة إنتاجه، وتوفر له المادة المجردة لآلياته السينمائية المجردة. ولأنه كذلك، فهو لا يعرف " الفزلكة" في الطرح، ولا يتبع الأسلوب الإنشائي الدرامي في أعماله. هو مزيج من الصحافي المنقب، والأديب الجارح من فرط حرقته، ومخرج الأحداث الحية المجبولة بالواقع. والدراما التي يقدمها، لا ترتكز على أحداث حية فقط، بل تستند إلى أرقام أكثر حيوية من ناحية "توالدها"، وأكثر عنفا من جهة حقائقها. وإذا أردت أن أقدم توصيفا واقعيا لهذا المخرج الأميركي، أقول:إنه ينتج "دراما الأرقام". وهذا النوع من الدراما، قد لا يكون بليغا، ولكنها الوسيلة الأمثل لبلوغ القمة عندما تختفي الكلمات، أو تصبح هذه الأخيرة مجرد مفردات لا معنى لها، حتى لو كان قائلها هو المتنبي نفسه!.

قدم مور الأزمة الاقتصادية في فيلمه، من خلال مصائبها على المجتمع الأميركي، وسعى إلى تعرية الفكر الرأسمالي – المستنير أو غير ذلك - ليس من خلال الهجوم أو السخرية من مرتكبي الأزمة "الملهمين" فقط، بل عن طريق عرض الآلام الاجتماعية والمعيشية مع الكرامة المفقودة التي خلفتها الأزمة. فعندما تتحكم سوق واحدة هي "وول ستريت" بمصير مجتمع بأكمله، يصبح الأميركيون البسطاء الذين يعيشون في منازل متنقلة (على شاحنات)، من "علية القوم"، وتتحول هذه الشاحنة أو تلك، إلى أمل لا للمشردين، بل لأولئك الذين خسروا منازلهم بفعل الأزمة!. لم يكن مايكل مور قاسيا، عندما وضع في فيلمه شريطا أصفر على مبنى بورصة " وول ستريت" كتب عليه " مسرح الجريمة". فالجريمة انطلقت من هناك، لكنها لم تتوقف عند حدود سوق المال، ولا مدينة نيويورك ولا الولايات المتحدة نفسها. واليوم تبرز أصوات في عشر ولايات أميركية تدعو إلى الانفصال عن"الاتحاد الأميركي"، لأن أصحابها يرون أن الدولة الاتحادية تدار من قبل هذه السوق، وأن زمام الأمور لا تزال في أيدي " ملهمي" السوق، حتى بعد أن اتخذت الإدارة في واشنطن إجراءات مشددة لكبح جماح "وحوش" السوق المعنية. ولم يكن هذا المخرج مهرجا، عندما ظهر أحد المذيعين في الفيلم، يطلب من الجمهور الخروج إذا ما كانوا دون سن الرشد، أو من ضعاف القلوب. فالمشاهد ودلالاتها ووقعها وآلامها، تجعل من فيلم " سكريم" أو "الصراخ" نوعا من أنواع أفلام الأطفال!.

الأزمة الاقتصادية، أتت بهموم اجتماعية، تبدو أمامها هموم المصارف والمؤسسات التي انهارت أو تلك التي بيعت بدولار أميركي واحد، مجرد سحابة صيف. ولأنها ارتُكبت بأيدي بشر لا بمسببات طبيعية، فإن العالم يحتاج إلى " تسونامي" لإزالة مرارتها. فالولايات المتحدة الأميركية، التي قدم مايكل مور حرائق مجتمعها كمثال لنيران المجتمع الدولي بأسره، لم تخرج بعد من سيطرة السوق. ولكي أكون أكثر اعتدالا من مور الراديكالي الذي لا يرى من الرأسمالية إلا الخراب، أقول: إنها لم تكرس بعد المعايير المنضبطة للسوق". وعندما تنجح الإدارة المركزية في الولايات المتحدة، بضبط سوقها التي يتأثر بها العالم أجمع ( بأغنيائه وفقرائه)، تكون قد وضعت زمام الأمور في أيدي المجتمع نفسه، وتكون قد أبعدت " الملهمين الاقتصاديين" عن "مسرح جرائمهم"، وتكون قد أغاظت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر التي تنتظر صدور شهادة وفاتها. فهذه الأخيرة خسرت حياتها السياسية بعدما قدمت معايير السوق على قيم المجتمع، بل أنها ألغت هذا الأخير أصلا من حراك الحياة.

وإلى أن يتم تصحيح المشهد، أقترح على مايكل مور، أن يكتب ويخرج سلسلة من الأفلام عن الأزمة، لأنها تستحق إنتاجا سينمائيا لكل الأعمار، يتناول كل المصائب التي أفرزتها، وأن يتحول إلى "جاكي رولينج الأزمة الاقتصادية"، تيمننا بكاتبة أفلام " هاري بوتر"!.


الثلاثاء، 13 أكتوبر 2009

"مونديال" الرشاوى!


( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")




" لكل رجل سعره"  
مثل شعبي لا تيني



محمد كركوتــي

يستطيع الفاسدون - المرتشون في القطاع العام حول العالم أن يتنفسوا "مادون الصعداء". وبإمكانهم اليوم أن يستريحوا "بعض الشيء" من مشاعر الكراهية الشعبية العامرة تجاههم، بل يمكنهم أن "يحتفلوا"، وأن يُشهدوا العالم أجمع، على أنهم ليسوا الفاسدين الوحيدين في الأرض، وأن "نادي الفساد العالمي" لم يعد محصورا ضمن نطاق "النخبة الحكومية"، أو تلك التي تعمل في الشأن العام. فهؤلاء هم الوحيدون الذين لا يريدون الـ "نخبوية" لناديهم، بل يسعون إلى لصق صفة "العمومية" به، لأن "سوق الرشوة" الناجحة، هي تلك التي تضم أكبر عدد من الفاسدين ( من أفراد وحكومات)، وتحظى بشمولية كل القطاعات. ولأن الأمر كذلك، يصعب وصف الفرحة التي تعم الفاسدين، عندما يتزايد عدد المنضمين إلى ناديهم!. وحتى المحتالين ليسوا مؤهلين للانضمام إلى هذا النوع من النوادي، ولا تنطبق عليهم شروط "العضوية". لماذا؟ لأن المحتال يسرق وغالبا ما يقع في شر أعماله، والفاسد - المرتشي ينهب وغالبا ما يمضي في طريقه، على الرغم من أن قوانين محاربة الفساد والرشوة أشد صرامة ووطأة، من قوانين مكافحة الاحتيال، لكنها مثل أدوية محاربة السرطان، لا تضمن التعافي، ولا توفر الحماية من انتشار المرض الخبيث!. ففي عالم الفاسدين، هناك نوع من الحصانة تشكلت بفعل آلية "تسلسل المتورطين"، في حين أن المحتالين لا يتمتعون بـ "حمائية التسلسل". وهذا يدل على أن غياب الأخلاق (وهو القاسم المشترك بين الفاسدين والمحتالين) لا يوفر حاصلا صحيحا، ولا يجمع بين الطرفين، في كل الأوقات.

الفاسدون - المرتشون إذن.. يتنفسون "ما دون الصعداء". لماذا؟ لأن "مونديال الرشاوى" – نسبة إلى مونديال كرة القدم – يشهد انضمام القطاع الخاص في العالم إلى القطاع العام في هذه "المباريات". وإذا كانت نهائيات مونديال كرة القدم تجري كل أربع سنوات، فإن مباريات "مونديال المرتشين" تجري على مدار الساعة، وفي كل المواسم، وبطلها هو الوحيد في هذا الكون الذي يفر من تسلم كأس "الانتصار"!. فهذا النوع من الانتصارات، يشبه إلى حد بعيد، ذلك الناجم عن إلقاء قنابل مدمرة وفتاكة على دار للعجزة، أو روضة للأطفال، أو مبنى لمستشفى!.

يصل الإنفاق العالمي سنويا على الرشاوى في القطاع الخاص إلى ما بين 20 و40 مليار دولار أميركي. وهذه الأموال الهائلة تزيد تكاليف المشروعات المختلفة – بما في ذلك التنموية منها – بنسبة تصل إلى 10 في المئة، كما أنها تعادل مابين 20 و 40 في المئة، من المساعدات التنموية الرسمية. وماذا تفعل أيضا؟ تلحق أضرارا بالغة بالتجارة والصناعة والتنمية والمستهلك، وكأن المجتمع الدولي يمكنه تحمل مثل هذه الخسائر، خصوصا وهو يعيش واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية قاطبة. هذه النتائج المريعة، لم يتوصل إليها أمي يجلس على مقهى في أحد البلدان المتخلفة، بل جاءت في سياق تقرير "منظمة الشفافية العالمية" Transparency International (منظمة غير حكومية معنية بمراقبة ومتابعة الفساد، بما في ذلك الفساد السياسي) للعام 2009 . وعلى الرغم من أن هذه الأموال لا توازي شيئا مقارنة بالرشاوى التي تدفع في كل القطاعات وعلى مختلف المستويات سنويا، وتصل – حسب تقديرات البنك الدولي للعام 2007 – إلى أكثر من 1000 مليار دولار أميركي، إلا أنها تعتبر هائلة، لكونها تنفق في قطاع يفترض أنه يتمتع بأعلى درجات الشفافية والنزاهة. فالدولار "المشين" في القطاع الخاص، يساوي في دلالته ألف دولار "مشين" آخر في القطاع العام، على اعتبار أن السلوك والأداء يفترض أن يكونا مختلفان في كلا القطاعين.

والذي يرفع من حدة الصدمة، أن الإجراءات التي اتخذت ضد المرتشين في مؤسسات القطاع الخاص عالميا، لم تؤد إلى شيء يذكر. ففي استطلاع للمنظمة الدولية نفسها، شمل نحو 73 ألف شخص في 69 بلدا، أقر مدراء عدد من الشركات أنهم لم يتعرضوا إلى عقوبات، على الرغم من افتضاح أمرهم!. بل ربما تلقوا التشجيع من أصحاب الشركات نفسها، لأنهم يعقدون لها الصفقات التي تسيل اللعاب، بصرف النظر عن الأضرار والخسائر التي تصيب هذا المجتمع أو ذاك، من جراء ارتفاع تكاليف المشروعات والأسعار. وكالعادة، فإن الدول النامية تتقدم المراتب في "مونديال الرشاوى"، لأن الفساد في هذه البلدان يعم غالبية المؤسسات الخاصة والعامة، سواء تلك المرتبطة بالثروة الوطنية ومقدرات البلاد، أو تلك المتصلة بالنمو( تُقدر المنظمات غير الحكومية الرشاوى الهاربة من القارة الأفريقية سنويا إلى الملاذات الضريبة الآمنة بنحو 30 مليار دولار أميركي!). ولأن الفساد مثل السرطان، فقد وصل منذ زمن بعيد في هذه البلدان، إلى البرلمانات والأحزاب السياسية. لا مفارقة هنا، لأن الثانية هي التي تشكل الأولى. وعندما يكون الوضع على هذا الشكل، يبدو معه ارتفاع تكاليف المشروعات بنسبة 10 في المئة، مجرد " هفوة"!. مهلا .. مهلا، لقد بلغت حدة الفساد والرشاوى في بلد كالعراق مستوى، دفعت مدير دائرة الصحة في مدينة بابل، إلى وضع كاميرات مراقبة، أين؟ في الأماكن المخصصة لتسليم المواليد الجدد في ثلاثة مستشفيات. لماذا؟ لمنع الرشاوى!. يا إلهي .. يمتنعون عن تسليم المواليد لذويهم إذا لم يحصلوا على الرشاوى!!. فالقضية عززت مرة أخرى "تحالف" الفساد الاقتصادي بالأخلاق المفقودة.

إن مصائب الفساد لا تتوقف عند هذا الحد، بل تدمر أيضا المنافسة الشريفة القائمة على أسس معلومة لا مجهولة أو وهمية، وتنال من الأسعار الطبيعية التي يستحقها المستهلك في العالم أجمع، الآن أكثر من أي وقت مضى، كما أنها تقضي أو تهز من وضعية الكفاءة على الساحة، لأنها تدفع الفاشلين إلى المقدمة. فالأزمة الاقتصادية العالمية، أحدثت حقائق وأتت بمستجدات، بات معها الدولار "المسروق" بمثابة "ثروة" بيضاء للأيام السوداء، ليس فقط للأفراد، بل للدول نفسها. فكيف الحال إذا ما ارتبطت الرشاوى بمشروعات تنموية أو إنسانية أو اجتماعية؟!. ومن المصائب أيضا، أن "صناعة الرشاوى" شهدت ازدهارا كبيرا في أعقاب الأزمة الاقتصادية، بينما كانت إحدى مقدمات الأزمة نفسها، عن طريق الفساد الذي استشرى في مؤسسات التصنيف والتقييم التي ينبغي أن تكون مثالا للحصانة من الرشاوى. فأساس عمل هذه المؤسسات، هو الكشف عن حقيقة الشركات التي لا تلتزم بالقوانين واللوائح المعمول بها، ومن ضمنها بالطبع قوانين محاربة الرشاوى. فإذا كان المصنف – بكسر النون – مرتشي ويقبض " المعلوم"، فلا غرابة إذن، لو كان المصنف – بفتح النون- غارقا في الفساد والرشوة.

لا أحد يتوقع – استنادا إلى استطلاعات وإحصائيات ودراسات على مدى سنوات طويلة – أن يتراجع حجم الإنفاق على الرشاوى. فقد ساهمت مؤسسات التصنيف، بتحويل الكسب غير المشروع، إلى آلية "إنتاجية" واقعية، قامت ببناء واجهات جميلة للخرائب. وسيمضي هذا العام، وسيأتي آخر بعده، وستتواصل الرشاوى بالنمو في كل الاتجاهات والقطاعات، وفي كل القارات، "شقراء" كانت أم "سمراء" أم " صفراء" أم بكل الألوان. ولا يمكن بأي حال من الأحوال وقف هذا التدمير الاقتصادي، من دون إصلاحات كاملة للأنظمة الاقتصادية ككل. صحيح أن قوة لا يمكن أن تنهي "صناعة الرشوة"، ولكن الصحيح أيضا، أنه بالإمكان الحد من آثارها المدمرة. والعالم اليوم يعيش ولادة نظام اقتصادي ومالي جديد – من جراء الأزمة طبعا – يسعى واضعوه لهيكلته وفق أعلى درجات النزاهة والإفصاح والمراقبة، لاسيما في مجالات هروب وانتقال الأموال إلى حسابات لا كشوفات لها، باتجاه ما تبقى من الملاذات السرية. وهذا لوحده يمثل عاملا صارما لكبح جماح الفاسدين والمرتشين، إلا إذا استطاع هؤلاء شراء ما أمكنهم من واضعي هذا النظام. وقتها.. سيصبح العالم بأسره ملاذا آمنا للفساد، ولا غرابة إذا ما سنت قوانين لـ "مكافحة" النزاهة.

الاثنين، 12 أكتوبر 2009

دفاعا عن المهنة


(هذا المقال خاص بـموقع "سي إن بي سي عربية")









" إذا كان عليك أن تقتل إنسانا، لن تخسر شيئا لو كنت مهذبا "
رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل




محمـد كركوتــي

برز "التهذيب الغائب" بصورة واضحة ضمن السلوكيات التي مورست في موجة صرف أعداد من الزملاء الصحافيين والكتاب والموظفين في بعض المؤسسات الإعلامية اللبنانية. ومهما كانت المبررات لعمليات الصرف، فإن هذه الموجة تشكل سابقة مقيتة في هذه المهنة. قبل كل شيء. من حق أية مؤسسة ( إعلامية كانت أم غير ذلك)، أن تعيد ترتيب شؤونها الإدارية والمالية، بل يتوجب على المؤسسات أن تقوم بعمليات ترتيب دورية، لا لحصر النفقات فقط، بل لمواكبة التطور الإداري أيضا، من أجل جعل هذه المؤسسة أو تلك أكثر "رشاقة" في الأداء، وأكثر حيوية في العطاء والإنتاج.
ولكن ما واجهه الزملاء المصروفين من المؤسسات المعنية – وفي مقدمتها جريدة "النهار" – شكل إهانة للمهنة نفسها، ووضع مؤسسة راسخة وعريقة جنبا إلى جنب مع "المؤسسات" الإعلامية الارتجالية أو "الموسمية" أو تلك الشبيهة بـ " البقالات"، وطرح أسئلة حول مستوى "جودة" نقابتي المحررين والصحافة، إن لم نقل جدوى وجودهما. القضية كبيرة، ليس من جهة قطع الأرزاق، ولا من ناحية عدد الزملاء المصروفين من وظائفهم وأعمدتهم الصحافية، بل لأن السلوك غير اللائق مورس مع هؤلاء في بلد كانت له اليد الأولى والماهرة في ولادة مؤسسات إعلامية في بلدان أخرى، على صعيدي الكوادر والآليات. والذي يزيد العيب عيبا، أن بعض وسائل الإعلام اللبنانية تعاملت باستخفاف ( وبعضها باستهزاء) مع هذه القضية، التي لا تخص المصروفين وحدهم، بقدر ما ترتبط بالأخلاقيات المهنية.
ولأنها قضية سلوك، أكثر من كونها مسألة حقوق. كان ينبغي إتباع معايير تتناسب مع قيمة المؤسسات وسمعتها، لاسيما وأن عددا من الزملاء المصروفين ساهموا على مدى عقدين من الزمن، في تكريس السمعة المهنية والأخلاقية.. وحتى الوجدانية لمؤسساتهم. فالغائب في هذه الموجة، كان الوضوح ومعه الكرامة والسلوك غير اللائق، والحاضر كان "ساعي البريد" ووسائل إعلام أخرى، عرف من خلالها الزملاء، أن خدماتهم لم تعد مطلوبة، وأن السنوات الطويلة أو القصيرة التي "صرفوها" من حياتهم في مؤسساتهم، لا تستحق حتى الاعتذار من إداراتهم على صرفهم!. فقد غاب عن المدراء وشركات "إعادة الهيكلة"، أن الأمكنة تحتاج إلى الكاتب والصحافي، أكثر من احتياج هذين الأخيرين إليها.
نعترف بأن الأزمة الاقتصادية العالمية، نالت من كل شيء، حتى من "أرصدة" الأطفال في حصالاتهم. والمؤسسات الإعلامية عربية كانت أم أجنبية، أخذت قسطا كبيرا من مصائب الأزمة، بما في ذلك مؤسسات إمبراطور الإعلام العالمي روبرت ميردوخ، وصحف متجزرة على الساحة الدولية كصحيفتي "الأبزيرفر" الأسبوعية و"الإندبندنت" البريطانيتين، وأعداد كبيرة من المطبوعات الأميركية والفرنسية والإيطالية والإسبانية وغيرها. هذه حقيقة تحتم على الناشرين ومالكي هذه المؤسسات إعادة صياغة مؤسساتهم وفق المعطيات التي أفرزتها الأزمة.
لكن هذا لا يبرر السلوكيات غير اللائقة في موجات صرف الصحافيين والكتاب. فهؤلاء يصنعون الكلمة، ولأنهم كذلك فهم يقدسونها ويسعون إلى تطويرها لتصل إلى أعلى درجات البلاغة في التعبير والتعاطي الإنساني. من حقهم أن "يستحصلوا" على كلمات بمستوى جودة صناعتهم. والذي حدث مع الزملاء المصروفين، أنهم سمعوا كل الكلمات المريعة، من المدراء ومن وكلائهم. لم يكونوا ينتظرون قصائد تمجدهم، ولا حفلات وداع ترفه عنهم، أو تمنحهم قيمة لليلة يتيمة. كانوا يرغبون بسماع كلمة واحدة فقط، من صاحب الشأن، لا من وسائل الإعلام ولا طريق ساعي البريد. كلمة : شكرا. لا "معزوفة"، أنكم تجاوزتم سن العمل، ولا أن بعضكم لا يأتي إلى مكتبه، ولا أن المؤسسة أصيبت بالترهل منكم.
وإذا كان هذا هو مستوى خطاب مالكي ومدراء مؤسسات تصنع الكلمة، علينا أن لا نعترض على مستوى خطاب المسؤولين عن العمال والصناعيين والحرفيين، وأصحاب البقالات، والمشرفين على عمال "التراحيل".


الاثنين، 5 أكتوبر 2009

المحتالون لا هوية لهم

 (" هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )













"هناك فرق بين المجرمين والمحتالين.
المحتالون يسرقون، لكن المجرمين يقتلون. أنا محتال"
أشهر لصوص بريطانيا روني بيجس


 


محمد كركوتــي
 
قال البعض: إنها مؤامرة إسرائيلية!. وقال آخرون: إن أجهزة المخابرات الإسرائيلية "طبختها"!، ولا يمكن لهذا "التقي الأمين"، أن يكون محتالا ويسرق أموال الأثرياء، فما بالك بأموال "الغلابة". وقالوا أيضا: إنه سيعيد الأموال إلى أصحابها، لأنه يتحلى بأخلاقيات عالية، تردعه عن عدم الإيفاء بالتزاماته، لاسيما لأولئك الذين خسروا "تحويشة العمر"، أو الذين تركوا لديه أموالهم "البيضاء"، لأيامهم "السوداء". فرجل الأعمال اللبناني صلاح عز الدين، ليس من اللصوص ولا من المحتالين، إنه من أولئك الكرماء المدركين لحقيقة الأوضاع المعيشية للمودعين لديهم، ويعرفون أن دولارا ناقصا منها، سيؤدي إلى إرباك معيشي لهؤلاء المودعين، فكيف الحال إذا ما حسب النقص بالآلاف والملايين؟!. هذا ما يقولوه المدافعون عن عز الدين، الذي ألقي القبض عليه من قبل السلطات اللبنانية، بينما يتحدث القريبون من هذه القضية، عن مسؤولية رجل الأعمال هذا في ضياع مابين 400 و 500 مليون دولار أميركي، هي عبارة عن أموال لمودعين أفراد في الأساس، تعيش غالبيتهم العظمى في المناطق الجنوبية من لبنان. بعضهم قدم خمسة آلاف دولار لـ "الاستثمار"، وآخرون قدموا أكثر من ذلك للغرض نفسه.

وإذا كان هناك من يدافع عن عز الدين، هناك أيضا مع يرى أن الناس كانوا يسلمونه أموالهم، لا لسمعته "الطيبة"، بل لأنه يرتدي عباءة حزب الله، الذي وجد نفسه في خضم أزمة – لم يحسب لها – عندما وقع رجل الأعمال في أيدي السلطات اللبنانية، بعدما عجز عن تسديد جزء من التزاماته المالية للمودعين، وأصدر مجموعة من الشيكات بدون رصيد. وعلى الرغم من ارتباط حزب الله بهذه القضية – بصورة أو بأخرى – إلا أنها في النهاية ، قضية كلاسيكية. أي أنها ليست فريدة من نوعها، وحدثت وتحدث في كل البلدان. بل أصبح هذا النوع من القضايا – بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية – جزءا لا يتجزأ من المشهد الاقتصادي والاجتماعي على الساحة العالمية ككل. ولعل هذه إحدى الزوايا الإيجابية للأزمة، التي أتت بالفضيحة تلو الأخرى، وسمت المحتالين بأسمائهم، وقدمت بعضهم للمحاكم، ولا حقت البعض الآخر، ودفعت آخرين للتواري عن الأنظار، باحثين عن ملاجئ آمنة لأطول فترة ممكنة. ولأنها عالمية، فسرعان ما وُصف عز الدين بـ" مادوف لبنان"، نسبة للمحتال الأميركي العالمي الأكبر برنارد مادوف، الذي اختلس قرابة 65 مليار دولار أميركي على مدى عقدين من الزمن، لم يستثن حتى أموال الجمعيات الخيرية والمدارس والجامعات!. مادوف الأصلي نفسه، سمي بـ " تشارلز بونزي" الأميركي – الإيطالي الذي ابتكر في عشرينات القرن الماضي، استثمارا احتياليا يقوم على دفع أرباح للمودعين السابقين، من أموال مودعين جدد، دون أن يستثمر دولارا واحدا في السوق!.

في العالم العربي، أضاف المحتالون بعدا آخر لعملياتهم القبيحة، عندما استطاعوا أن يجندوا شخصيات عامة مرموقة وتحظى باحترام الرأي العام، بل جندوا حتى رجال دين، في تسويق مباشر وغير مباشر لعملياتهم "البونزية"، حيث وفر هؤلاء غطاء طاهرا لهذه العمليات. ففي ثمانيات القرن الماضي، فاضت مصر بـ " شركات" توظيف الأموال، التي سوَقها بعض رجال الدين. وكذلك الأمر في سوريا والجزائر والأردن. ماذا كانت النتيجة؟. الحكومات في هذه الدول – لاسيما مصر – دفعت بعد سنوات من وقوع المصيبة، الحد الأدنى من أموال المودعين، بعدما ما نجح غالبية أصحاب شركات التوظيف بالفرار من البلاد. وعلى نفس وتيرة القصة " البونزية – المادوفية"، لم يترك هؤلاء شيئا يذكر للتعويض (بونزي ترك 60 دولار من أصل ثمانية ملايين دولار، ومادوف خلف حوالي 400 مليون دولار من أصل 65 مليار!!). ومن المفارقات أن شريحة متعاظمة من الناس في العالم العربي، لم تتعظ من فضائح المحتالين، بما في ذلك أولئك الذين ظهروا على الساحة بفعل الأزمة الاقتصادية. وعلى الرغم من حملات التوعية التي تقوم بها الحكومات – بل والتحذيرات - إلا أن حراك عمليات توظيف الأموال، لم يتوقف بصورة تامة. وإذا كان المحتالون – قبل الأزمة - يظهرون مع قصة جميلة وطفرة، فهم يظهرون بعدها مع جشع كبير وحاجة أكبر!، مع بقاء الأدوات الاحتيالية على حالها.

نعرف أن حزب الله يحاول بكل ما لديه من وسائل احتواء قضية صلاح عز الدين. بما في ذلك قيام قيادة الحزب بإصدار أوامرها إلى المؤسسات التي تلقت تبرعات من عز الدين، بعدم إنفاق ما تبقى من هذه التبرعات، من أجل تعويض المودعين المساكين الذين فقدوا مدخراتهم، أو من أجل دفع الحد الأدنى لهم على الأقل، خصوصا وأن هناك شرائح كبيرة من ضحايا عز الدين تعيش على الأرباح الشهرية لأموالها، أي لا يوجد مصدر دخل آخر لها. إنها خطوة جيدة، لكنها لا تلغي في النهاية الحالة الاحتيالية التي وقع فيها هؤلاء الناس. صحيح أن الاستثمار خاضع لمعايير الربح والخسارة، ولكن الصحيح أيضا، أن الاستثمار يتحول إلى مقامرة، عندما يتغير الهدف من عمل استثماري إلى تعويض للخسائر. فعند سؤال عز الدين عن أسباب المغامرة بأموال المودعين بعد أن تعرض لخسائر قدرها هو بـ 80 مليون دولار أميركي في العامين 2007 و2008، رد قائلا:" كنت أحاول الحصول على المزيد من الأموال للقيام بمشاريع جديدة لتعويض الخسارة"!. لا مفارقة هنا. فعندما وجه قاضي التحقيق الأميركي السؤال نفسه لـ برنارد مادوف، رد هذا الأخير، بأنه كان يحاول تعويض الخسارة، عن طريق الحصول على المزيد من الأموال. وهذا الجواب هو نفسه تقريبا الذي قدمه تشارلز بونزي للمحقق، قبل ثمانين سنة. وهكذا.. فإن الآليات واحدة، والسلوكيات واحدة، والأخلاق واحدة في كل الحالات الاحتيالية، هذا إن وجدت الأخلاق أصلا.

لا دخل لإسرائيل – ولا غالبية دول العالم – في عمليات الاحتيال الفردية. بل على العكس، تسعى إسرائيل إلى تغذية الاحتيال والفساد في المنطقة العربية – إن استطاعت – لأن ذلك يوفر لها حماية غير مباشرة. فـ " معزوفة" أن إسرائيل هي وراء كل شيء سيء على الساحة العربية، لم تعد مسموعة، بل أصبحت مضحكة، مع التأكيد بأنها لا تريد الخير للعالم العربي. وصلاح عز الدين نفسه اعترف بأن خسائره جاءت نتيجة للوضعية المتقلبة لأسعار النفط في الأسواق العالمية، وهشاشة قطاع العقارات العالمية والإقليمية، وغيرها من الأعمال التي لم تحقق النجاح. وبالتأكيد ليس لإسرائيل القدرة على التلاعب بأسعار النفط أو العقارات إقليميا وعالميا. واعترف الرجل بأن استثماراته اللبنانية لوحدها تصل قيمتها إلى 280 مليون دولار، وأنه لا يعرف الحجم الحقيقي لاستثماراته الخارجية!.

إذن.. القضية مرة أخرى كلاسيكية. منتشرة في كل الأرجاء. من المضحك تسييسها أو قولبتها ضمن نطاق "تآمر دول"، أو وضعها في إطار مخططات حكومات تقوم بأعمال خبيثة. والذي يتابع قضية مادوف الأصلي - لا اللبناني - يعرف أن هذا الأخير سرق أموال جمعيات ومؤسسات يهودية أميركية، وأخرى إسرائيلية صرفة. منذ تشارلز بونزي – وحتى اليوم – أثبت المحتالون بأن لا هوية لهم. فهم أكثر "الناس" استغلالا لحاجة البشر، خصوصا أولئك الباحثين عن دولار إضافي لمواجهة متطلبات الحياة. وإذا كان أمام ضحايا مادوف الأصلي، وغيره في الدول الغربية، إمكانية اللجوء إلى العون الحكومي الفوري لمواصلة الحياة بكرامة، فليس أمام ضحايا "المادوفيين" في العالم العربي ما يوفر كرامة الحياة. وضحايا "مادوف لبنان" القابعون في منازلهم الريفية البسيطة في الجنوب اللبناني، ينظرون إلى قصره المعلوم الشامخ الذي أتخمه بكل شيء، حتى بطيور الفلامنجو!!.




الأحد، 4 أكتوبر 2009

مصائب فاخرة!!

(هذا المقال خاص بموقع " سي إن بي سي عربية")








" رأيت بعض الموتى من الجوع، ورأيت موتى بمئات الآلاف من التخمة "
      الفيلسوف والسياسي الأميركي بنجامين فرانكلين


محمد كركوتــي

في الاتحاد الأوروبي – وليس أفريقيا –هناك 30 مليون شخص يعانون من سوء التغذية!. أي ما يوازي عشرة في المئة تقريبا من المجموع الكلي للسكان. القضية لا تنتهي هنا، لأن الخزائن العامة في دول الاتحاد تخسر أكثر من 170 مليار يورو سنويا في مواجهة هذه الأزمة المتفاقمة. بينما يحلم واضعو السياسات الاقتصادية بضم هذه المبالغ الهائلة، إلى الأموال التي رصدتها الحكومات الأوروبية للتحفيز الاقتصادي، وانتشال المؤسسات التي وقعت تحت ضربات الأزمة الاقتصادية العالمية. وعلى عكس الأفارقة المصابين بسوء التغذية – بل بانعدامها– لا تظهر الأقفاص الصدرية للعيان عند "زملائهم" الأوروبيين، ولا تظهر مشاهد القحط في خلفية الصورة. فلا يزال اللحم فوق العظم، وسيظل بموقعه الطبيعي. فأوروبا ليست "متخصصة" في هذا النوع من الأشكال البشرية. والبطن المنتفخ المستند على سيقان كأعواد الكبريت، "يُنتج" في الدول الفقيرة لا الغنية.

للشاعر والمغني الأميركي بوب ديلان الذي يلقب بالأسطورة، أغنية يقول فيها: "التقيت برجل جريح من الحب، والتقيت بآخر جريح من الكراهية". وإذا ما استبدلت هنا الحب بالطعام، فقد رأيت شخصا يعاني من سوء التغذية لفقدان الشهية، ورأيت آخر يعاني من فقدان الطعام!. القضية أيضا لا تتوقف عند هذا الحد. فـ " المصائب الفاخرة" ظهرت في بيانات رسمية أوروبية، دعمها خبراء تغذية أوروبيون اجتمعوا مؤخرا في العاصمة النمساوية فيينا، جاء فيها : أن ما بين 5 إلى 15% من مجموع سكان أوروبا، و40% من المرضى الذين يعالجون في المستشفيات، و60% من نزلاء دور العجزة، يعانون من سوء التغذية أو معرضون لذلك. والمثير أن الكلفة الناتجة عن سوء التغذية، توازي ثلاث أضعاف تكاليف مواجهة الأزمات الصحية الناجمة عن البدانة. ولا أعرف إن كان "ملهما" من "الملهمين" الاقتصاديين الأوروبيين، سيظهر ويدعو إلى ضرورة تشجيع البدانة، وتسمين الشعوب الأوروبية، للحد من الخسائر!.

لقد أظهرت هذه القضية، أن فقدان الشهية في الدول الأوروبية مكلف ماليا، وفقدان الطعام في الدول الفقيرة مكلف إنسانيا. وإذا كانت الحكومات الأوروبية تستطيع أن تخصص مبالغ هائلة لمواجهة مصائب فقدان الشهية، فإن الحكومات في بعض الدول الفقيرة، عاجزة عن توفير حتى المياه الصالحة للشرب الآدمي. بل أن هناك دولا تنقصها المياه الصالحة لشرب الحيوانات، ويستطيع أي متابع لأحوال الدول القاصرة أن يشاهد أيضا الأقفاص الصدرية للحيوانات فيها. فاللحم ليس تحت العظم، لأن لا وجود له أصلا!.

لا يمكن التعاطي مع قضية كهذه، دون إسقاطها على المشهد الإنساني العالمي. فالعالم يعج الآن بـ 1,02 مليار جائع – لا فقير – وثلث سكان الكرة الأرضية يعيش على دولار أميركي واحد في اليوم، والثلث الآخر يعيش على دولارين اثنين في اليوم الواحد. وتعاني حاليا المؤسسات والمنظمات الإنسانية من شح في التمويل، بينما تعاني الدول النامية المتلقية للمساعدات شحا في هذا المجال. وإذا كان الأوروبيون يخشون على حياة عشرة في المئة من مواطنيهم من جراء "مصائبهم الفاخرة"، فإن العالم مطالب الآن أكثر من أي وقت مضى، بإظهار خشيته من مصائب "الموت والهلاك" التي يواجهها 30 في المئة من مجموع الجنس البشري.

من حق أي دولة أو إقليم أو تجمع، العمل من أجل رفاهية أبنائه. هذه قاعدة إنسانية وحقوقية ثابتة، لكن من حق العالم أيضا أن يحظى باهتمام الكبار، ليس فقط عن طريق الحد من الأسلحة النووية والبيولوجية، ولا مكافحة الإرهاب بكل أشكاله، بل أيضا بتخفيف المعاناة وأنات الجوع التي تعم الأجواء.

إنها مسألة إنسانية لا سياسية. ومسألة مستقبل لا حاضر. إنها مسألة ينبغي أن تكرس العولمة بمسراتها وبهمومها وأناتها، وأن تحتضن جوع بعض "مواطنيها".